سر الموت والحياة في ” أحمر خفيف “

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 71
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

صبحي موسى

تدور رواية وحيد الطويلة ـ أحمر خفيف ـ الصادرة مؤخراً عن دار الدار حول مجموعة من الشخوص الذين أثار حضورهم احتضار محروس كبير القرية ورئيسها ، وهو حضور أثيري يشبه لحظة الهذيان في ساعة الموت ، ومن ثم فقد لعب الكاتب على لغة سريعة أقرب إلى الشفاهية والعوالم الصوفية منها إلى التفاصيل اليومية ، محاولاً استحضار كل شخصية من خلال مواقفها البارزة في حياة القرية كعزت ريفو الذي ظهر عليه هذا الاسم من خلال تناوله الكثير لأقراص الريفو المسكنة للصداع ، وأبو الليل الذي جعل الليل مملكته والنهار لسكونه واختفائه ، ونشأت المحب صاحب الخيالات الرومنسية وكأنه يعيش لهواه ، وغيرها من الشخوص صاحبة الحضور الأسطوري داخل طيات النص .

ويمكننا القول أن حضور هذه المجموعة المتنوعة من الشخوص هو حضور لعدد كبير من الأنماط الإنسانية المتجمعة حول قضية واحدة وهي الحكم أو القوة ، فالمجتمع الذي يقدمه الطويلة رغم عدم وضوح صلته بالواقع المعيش غير أنه أقرب إلى الرمز الإنساني لتكوين السلطة والحكم ، هذه السلطة القائمة على الصفات الشخصية للحاكم ، ومن ثم فمن تكاملت فيه الصفات العليا كالقوة والشجاعة والعدل والحكمة وتبصر الأمور هو الأحق بالحكم ، وهذا ما مثلته شخصية محروس طيلة تاريخها القروي ، في حين جاءت أغلب الشخوص رغم أسطوريتها غير مكتملة ، فكل منها صاحب فروسية واضحة في مجال ما ، وصاحب قوة ومهارة يشهد له بها الجميع ، لكنه غير متكامل الصفات والحضور ، ولذا فقد استبعدته الجماعة عن الحكم مثلما استبعده محروس عن الخلافة ، ويمكننا من خلال هذا الرصد الرمزي الذي قدمه الطويلة في روايته المغلفة بأجواء صوفية أن نقول أنه قدم تورية روائية عن واقعنا الراهن في مصر ، فالقضية التي تشغل الجميع هي الحكم ، ومن يتولاه ، وقد كانت ذروة الحديث عن هذا حين سرت شائعة موت الرئيس ، وأصبح على الجميع أن يفكر فيمن يمكنه أن يتولى الحكم من بعده ، ويبدو أن الطويلة لم يرد أن يخالف الواقع خاصة وأن الشائعة اختفت وعاد الرئيس لممارسة حياته أمام الجميع ، ومن ثم فلم يتولى قائد جديد ، ولم يعلن عن نائب له ، وإن ظلت كل الشخوص التي حوله تتمتع بتواريخها الأسطورية لكن ميزاتها لا تكتمل بشكل يؤهلها لتولى سدة الحكم ، ولذا فمحروس ينهض في نهاية النص والنعش يختفي من أمام المستشفى والجميع يتفرق من حيث أتى .

لا يمكننا القول أن هناك نقظة صراع واضحة غير هذا الانتظار ، وذلك الاحتضار الطويل الذي ينتهي بقيام صاحبه وكأنه أوزوريس أو طائر العنقاء الذي نهض من رماده ، ولو تعاملنا مع محروس على أنه أوزوريس فالرواية تتحول في مجملها إلى طقس كهنوتي يقام على مدار أربعين يوما تحكي فيه شخوصه يف استجمعت إيزيس أعضاء زوجها وأخيها من أقاليم مصر العليا والسفلى ، وصلت لرع كي يمنحها الروح من جديد حي نهض أوزوريس ، وهو بدورها رؤية لا يرفضها النص ، أما إذا تعاملنا مع محروس على أنه طائر العنقاء التي انتظر الجميع احتضارها ونهاية عهدها فمرضت واشتعلت النار في أعضائها حتى استحالت إلى رماد ، وفجأة من بين هذا الرماد انتفضت وقامت تضرب بجناحيها وكأنها ولدت من جديد فإننا نجد النص يقدم محروس على أنه الخير الحكيم القوي الشجاع غير الظالم المحب للجميع ، وهذا مخالف لسياق أسطورية طائر العنقاء ، لكن مسار الحكي في النص لا يشبه أناشيد إيزيس وبكائها لنهوض حبيبها ، فالحكي يأتي منطلقاً من هذيانات محروس نفسه من على سرير المرض ، فيستحضر الشخوص وتاريخها وأفعالها ونقاط بهائها ومواطن ضعفها ، وكأنها يقلب الملكوت في ذهنه أو على كفيه ليمنحه السر ، أو العهد ، أو الخلافة ، ولأنها جميعاً من وجهة نظره التي صدرها للقارئ شخوص غير مكتملة فلا تستحق السر ، ولا تؤتمن على الحكم ، فرفع الكمامة عن فمه ونهض من سريره واتجه نحو المرحاض ليبول على الصراصير والفئران وغيرها ، بينما الملائكة تفرقت من أمام المستشفى والنعش اختفى من الوجود .

قد يكون الموت هو البطل الأساس في رواية الطويلة ، ليس لأن مركز الأحداث رجل مريض والجميع ينتظر موته ، ولكن لأن كل الشخوص مهمومة بالموت ، وكل يحاربه على طريقته ، وكل يحاول أن يثبت أنه الأجدر بالسر أو الولاية لأنه هو الذي هزم الموت وانتصر عليه ، فالفناجيلي الجبان حين أراد أن يهزم الموت لم يجد غير أن يذهب إلى المقابر ويجلس في إحدها صارخاً في الموت أن يخرج له ، وعزت ريفو حين مات إخوته الثلاثة تاركين أطفالاً يتامى ونسوة متشحات بالسواد تزوج منهن جميعاً وجعل من نفسه أباً لجميع الأبناء ، وناصر ذي الشجاعة المفرطة وكأنه يتحدى الموت فعلياً ومن ثم أدخلته شجاعته في المهالك حتى مات ، لكن المقابل الموضوعي لفعل الموت هو السر ، ذلك اللفظ الصوفي الذي بحث عنه أغلب الشخوص ، بدءاً من محروس الذي يمتلكه ويفكر فيمن سيعطيه له من بعده ، مروراً بأبو الليل والعناني و وعبد المقصود والفناجيلي ونشأت وغيرهم ، وكأن السر هو الميلاد أو الحياه أو العفو من الموت ، أو الخلود ، فصاحب السر وإن مات جسداً فقد كتب في سجل الخالدين ، لأنه الحاكم لمملكة الليل والنهار ، وهذا السجل لا يذكر إلا الحاكمين.

ليس للزمان والمكان الواقعيين وجود في ” أحمر خفيف ” لأن العمل يقوم على الرمزية ، ومن ثم فهناك رمز بزمان ومكان ، لكن ماهيتهما غير متحققة بالتفاصيل ، فيصبحان أقرب إلى الحكاية الشعبية التي تبدأ بـ ” كان يا ما كان في سالف العصر والأوان ” لتبدأ الحكاية بالسرد بدءأ من أعلى رأس فيها وهو البطل سواءً ملكاً أو أميراً أو شاطراً من الشطار ، وهكذا اختار الطويلة لبنية عمله ، أن يكون أقرب إلى الحكاية الشعبية ، ذات الأبعاد الرمزية ، والشخوص الافتراضية ، والجمل الشفاهية ، واللغة الشعرية التي لا ينقصها سوى السجع الخفيف لتصبح على نهج ألف ليلة وليلة ، لكن خطأها الوحيد أن الحكاية واضحة فقط في ذهن مؤلفها ، ومن ثم فلا يتوقف أمام الانتقالات السريعة في الحكي وتداخل العوالم ووقائع الشخوص ، وكأنه يحكي حكاية يعرفها الجميع ، في حين أن القارئ يتلمس الخطواط الأولى لمعرفة من هذا ومن ذاك ، وربما كان السبب في ذلك أن الطويلة كان أميل إلى اختيار لغة الهذيان والتهويم أكثر من التفاصيل والوقائع الواضحة ، كي تساوق النص مع فكرته عن خيالات رجل مريض يبحث في ذهنه عمن يخلفه ، فلم لم يجد أجل موته وينهض من رقدته كي يدير شئون مملكته بنفسه .

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم