سرد إبداعي للأشياء .. قراءة في رواية هليوبوليس لمي التلمساني

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 32
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 د. محمد سمير عبد السلام

       تعيد مي التلمساني إنتاج الشخصية الروائية ، و تؤولها من خلال تراكم الصور ، و الأصوات ، و الروائح ، و أطياف الحكايات ، و الأساطير ، و كذلك الحركة الإبداعية الخفية المميزة للأشياء ، و يبدو هذا التصور الفني واضحا في رواية (هليوبوليس) ، الصادرة عن هيئة الكتاب بمصر سنة 2003 .

تبحث البطلة / ميكي – من خلال تفاعلها الأدائي مع الصيرورة الإبداعية / السردية للنص – عن تشكيل متجدد لكينونتها الفريدة من داخل تحولات الزمن؛ و من ثم مواجهة التلاشي المحتمل.

إنها تحاول القبض على وهج الماضي ، دون أن تناله التغيرات السلبية ، أو أن تصيبه لحظات التوقف ، أو الجمود .

و أرى أن احتمالات التشيؤ التي رافقت جسد البطلة منذ السطور الأولى للنص ، قد صاحبتها طاقة فنية مجازية مضادة للعدم من داخل علامات الجمود ، و الغياب ؛ فالعلامة الشيئية التي اختارت الساردة أن تضعها داخل روح ميكي؛ و هي الماريونت –  تحمل وهجا إبداعيا خفيا يكاد ينطلق خارج الخيوط ؛ إذ يعلن دائما عن طاقة داخلية استعارية مضادة للسلبية من داخلها ؛ هكذا تواجه ميكي الزمن بالأثر الفني للهوية بصورة دائرية تعزز من استمرارية الأثر في النص ، و الحلم ، و الذاكرة معا.

و تسترجع البطلة – في رحلة بحثها عن تجددها الذاتي – أطياف العائلة ؛ مثل الجدة شوكت ، و زوزو ، و العمة أمينة ، و العمة آسيا ، و غيرهن ، كما تستدعي آثار المشاهد القديمة ، و روائحها ، و لحظاتها الجزئية ، و حكاياتها ، و كأنها تشرق للتو في الوعي المبدع ، و تكتسب بكارة جديدة تشبه تجدد العلامات الكونية .

تقوم رؤية الساردة – إذا – على عنصرين جماليين ؛ هما :

أولا : نقل الذات في روح الصور الفنية المتراكمة ؛ أي في اللحظات النسبية البهيجة ، و الفريدة التي تجسدها الكاميرا ، أو الحكاية القصيرة ، أو الطاقة المجازية للشيء ، أو الأثر.

ثانيا : دمج الأشياء بصيرورة الاستعارات النصية التي تمنحها حضورا ديناميكيا ، كما تتوحد بها الشخصيات في مستوى حدسي ، أو شبحي ، بحيث تقع في المسافة التداخلية بين الوعي ، و السياق الواقعي.

و يمكننا رصد أربع تيمات رئيسية في رواية (هليوبوليس) ؛ هي :

أولا : التشكيل المستمر للكينونة .

ثانيا : سرد إبداعي للأشياء.

ثالثا : إيماءات للوعي الأنثوي.

رابعا : لا مركزية العلامات النصية.

أولا : التشكيل المستمر للكينونة :

تنقل ساردة مي التلمساني هوية البطلة في وهج السياق الآني للصور المستمدة من إيماءات الماضي ، و المستقبل المنتج بواسطة الوعي ؛ و من ثم تكتسب الكينونة وجودا روحيا يطمح للاستمرارية ، و مقاومة تغيرات الزمن ، بينما يثبت تخليه المستمر عن مركزية المادة التي صارت شبيهة بالماريونت ، و كأنه يقف على حافة التجاوز ، دون تلتحم به الكينونة الجديدة التحاما كاملا.

تؤكد البطلة رؤية الأديب ، و الكاتب المسرحي الفرنسي بول كلوديل للماريونيت ككلام يتحرك ، و ليس كممثل يتكلم ، ثم تنقل نفسها في وهج الصورة ، و تأويلاتها الآنية ؛ فهي تحرك الكلام ، و تخلط الضمائر ، و الأسماء ، و ترى أن الزمن سينتصر على التاريخ.

إن ميكي تحاول القبض على القوة المجازية للأثر الكامن فيما وراء الكينونة المؤقتة ، و الموضوعة في القيود الزمكانية ؛ فهي تقاوم تغيرات التاريخ ، و الذاكرة بمنطق التحول الكامل في روح الصورة ، و ليس شكلها ، أو حضورها المؤقت ، و تظل بين مادية الدمية ، و جماليات الكلام الشبحي المصاحب لها في المسرح ، أو صيرورة السرد .

و قد تتوحد البطلة بالصورة كقناع فني للوجود يقاوم العدم من خلال الطقوس اليومية المصاحبة للموت نفسه ؛ فهي تمزج الجسد الميت بالصورة ، و الجنازة بالعمل المسرحي ، و فراغات الموتى بصور لأعداء ، أو أحباء جدد يثيرون التعاطف.

الصورة عند مي التلمساني مادة غيبية منتجة لحياة دائرية استعارية متوافقة مع صيرورة الوعي المؤول للذات ؛ و من ثم نعاين وهجا يكمن خلف الفراغ ، أو الموت ، و مخاوف التلاشي في الصوت المتكلم ، و قناعه معا.

و قد تكتسب الكينونة انتشارا جماليا ، و تضاعفا لصورتها في الوعي المبدع للبطلة ؛ فهي تعيد إنتاج الأم زينات من خلال أخيلة التضاعف الكامنة في فعلي الكلام ، أو الحكي ؛ فزينات تعلن عن رأيها عن طريق آراء الآخرين بشكل غير مباشر ، أما زوزو فتنقل آراء الآخرين بحياد يخفي رأيها الشخصي المباشر ، و لكن البطلة وجدت كينونة الأم في تضاعف مادة الحكي في حواديت الأم.

لقد جمعت خاصية التضاعف الجمالي بين الصوت ، و الصور المنقسمة ، و الحكايات في كينونة واحدة ، و كأن البحث عن الهوية لا يكون إلا من خلال الإضافة ، أو الزيادة التي تفكك مركزية الأصل البنائي للشخصية ، و تستبدله بالتعددية التأويلية المنتجة لفعل التجاوز دائما.

و قد يصير السياق النسبي لفعل التصوير نفسه موضوعا جماليا في الوعي المبدع للبطلة ؛ فقد استعادت ميكي حركية وعي كل من العمة أمينة ، و المصور في لحظة التصوير ؛ فأمينة تحرص على أن تترك أثرا طيبا في الصورة ، و المصور يحاول اقتناص تلك البهجة الروحية .

إن دمج البطلة بين الأثر ، و القناع الذي يتشكل في موقف التصوير ، و حياته الخاصة ، يوحي بأن الإيماءة التي تستضيف الصوت ، أو الكينونة هي دائما تكون قيد التشكل ، و اللعب في المستقبل ، و كأن الساردة تنتظر خروجا أسطوريا ، أو جماليا لهذه الآثار ، الصور ، و الأقنعة المتحولة.

و قد تصير الحكايات الخرافية القديمة مادة خيالية تفسيرية في وعي البطلة ؛ فحكايات الطفولة التي تحوي شخصية خرافية رمزية ؛ مثل أمنا الغولة تتحول إلى وظيفة سردية تجسد مخاوف التلاشي الكامنة في الوجود النسبي للبطلة .

إن المادة الطيفية للصورة تتجاوز الكينونة من داخلها ، و كأنها تعيد إنتاج الذات في صيرورة السرد ، و التجدد الجذري لصورة البطلة ، و صوتها.

و تصل سيمفونية الصعود ، و تجاوز الدلالات القهرية للدمية إلى الذروة عبر وسيط / مسلة هليوبوليس ؛ ففي هذه المرحلة تنطلق الدمية ، فتلامس وثبة روحية كبيرة ، أو طفرة فيما وراء الفراغ ، ثم تكثف الساردة وسائل الصعود في دوال الشجرة ، و الهرم ، و السلم ، و غيرها حتى تتصل بالعوالم الأبدية في سياقها القديم ، و المتجدد في آن.

يندمج الفراغ – إذا – باتساع الكينونة في عوالم اللاوعي ، و الذاكرة الجمعية ؛ فالدمية هنا تعاين اختفاءها الأصلي ككلام مجرد ؛ فهو يحمل طاقة جمالية دائرية تقاوم المحو ، و احتمالات التلاشي في عملية ارتقاء روحي تتجاوز المادة ، و أطيافها التصويرية معا .

 

 

ثانيا : سرد إبداعي للأشياء:

للأشياء حياة داخلية خاصة في رواية مي التلمساني ؛ فلتكوينها الجمالي وهج ، أو طاقة تؤكد تحولها في عوالم الشخصيات المحيطة بها من جهة ، كما تنتشر في الفراغ ، و تتضاعف – مثل الكينونة الإبداعية للبطلة – في الأثر الذي يطمح للتكرار ، و الدائرية ، و مقاومة التلاشي التاريخي من جهة أخرى ؛ و من ثم نلمح ذلك التجدد الجمالي للأثر في أحداث متطايرة في الزمن من الذاكرة ، أو رائحة تتجدد ، أو أصوات مصاحبة للوجود الإنساني في لحظة فريدة قابلة لإعادة التشكل في الوعي ، و اللاوعي ، و الواقع الاستعاري المتجاوز للمادة من داخلها.

إن ساردة مي التلمساني لا تكتفي بوصف التكوين الجمالي للأشياء ، و لكنها تلامس حركيتها السردية الخفية في المسافة التداخلية بين وعي الشخصيات ، و آثار الواقع .

تتذكر البطلة ميكي ذكريات الطفولة المرتبطة بشجرة الفل ، فتتجاوز الشجرة نفسها إلى ولوج رائحة الفل لأصابع الأطفال ، و تمزج صيرورة الرائحة بصورة الكرسي الأسيوطي ، و قهوة الجدة ، و أقراص الأسبرين.

لقد تحول الفل إلى فاعل ذي وظيفة سردية في النص ؛ فرائحته تختلط بروح البطلة ، و تعيد إنتاج التكوينات الأخرى في المشهد كأطياف تشبه الرائحة ذات الفاعلية الخفية المقاومة للعدم.

و قد تتصاعد النغمات المولدة عن النزعة السردية الإبداعية الأصيلة في الأشياء ؛ فتصير جزءا رئيسيا من المشهد ، أو تأويلا جماليا دائريا لأحداث الذاكرة المتوهجة في اللحظة الحاضرة .

تقول الساردة عن مائدة إفطار رمضان :

” تعلو أصوات الملاعق على صوت أبي الذي يطالب عبثا باستخدام الشوكة ، و السكين” ص 58.

الملاعق تعزف لحنا جماليا تتجسد فيه إيماءات الاجتماع على الطعام ، و أطياف الشخوص ، و التفاصيل الاجتماعية ، و الإنسانية لمشهد الأكل ، و لذته التي التحمت بروح الصوت ، و تحولاته في الفراغ .

و تقول عن المائدة :

” المائدة المصنوعة من خشب الورد تظل وحيدة منسية في غرفة الطعام ، لكنها تصلح للاختباء تحت أرجلها” ص 58 ، و 59.

و كأن المائدة ترسل طاقة جمالية للوحدة في الشخصيات ، أو تدعوها إلى احتفال كوني بهيج بين الأشياء الحية المنسية ، و البشر.

و تقول عن الأواني الموضوعة على مائدة العمة آسيا :

” و الكريستال البوهيمي الأصلي يتلألأ في ضوء الغروب فتكتسي الغرفة لونا نحاسيا كلون مدينة التماثيل المسحورة في ألف ليلة و ليلة ” ص 59.

الأشياء تومئ بإيماءات طبقية تتجاوز الطبقة في أثرها الجمالي الممتد ، مثلما تتجاوز الواقع نفسه إلى الاندماج الإبداعي بأخيلة الحكاية ، و كأننا أمام وظيفة سردية متكررة للأشياء في الرواية ؛ و هي تحويل الوجود الساكن للشيء ، و الذي يشبه الدمية الأولى إلى تفاعل خلاق بين الأزمنة من جهة ، و الواقع ، و المجاز من جهة أخرى.

ثالثا : إيماءات للوعي الأنثوي :

تقوم رواية هليوبوليس على البحث المتجدد عن كينونة مبدعة ، و صوت دائري يحاكي الوجود الطيفي للصور ، و القطع الفنية من خلال شخصية نسائية رئيسية ؛ و هي كيمي ، و شخصيات نسائية أخرى محيطة بها ، و قد تجلت الخصوصية الأنثوية في وعي البطلة في رصدها لبعض التفاصيل الصغيرة الخاصة بجماليات الملابس ، و كذلك رصدها للتناقضات الأنثوية الداخلية لكيمي ، و درجة تداخلها مع الأساطير القديمة.

تذكر البطلة أن العمة آسيا تعشق جميع الألوان في انتقائها للملابس ، ثم تسهب في التفاصيل الخاصة بكل لون على حدة ؛ فالبني منه العسلي ، و الجملي ، و الفضي ، و الكريمي ، و سن الفيل المائل للأصفر ، ثم ترصد أسلوب التشكيل الجمالي للثوب ؛ فقد يكون نباتيا ، أو هندسيا ، أو تجريديا.

الثوب النسائي هنا موضوع جمالي بحد ذاته ؛ و من ثم يتجسد في الوعي الأنثوي كعنصر للتأملات الشعرية المنتجة لتضاعف حالات الذات ، و شكولها بحيث لا يمكن فصلها عن القطع الجمالية الفنية الممثلة في أساليب الفن الطبيعية ، و التعبيرية.

و تحيط الساردة شخصية كيمي ببعض الأساطير التي تومئ بشكل مباشر إلى التمثيل المجازي لتناقضات الأنثى ؛ فهي تبحث أحيانا عن الحب ، ثم تلتهم الرجل ، و كأننا أمام دمج استعاري بين الميدوزا التي تحول من ينظر لها إلى حجر ، و أفروديت الجميلة في سياق تأويلي يختص بكينونة المرأة ، و تحولاتها الشعرية في النص الروائي .

رابعا : لا مركزية العلامات النصية :  

تتقاطع المجالات المشكلة لشخصية ميكي ، و نساء عائلتها بحيث تتضاعف العلامة ، أو تنتشر في سياقات تجسد مبدأ الاختلاف الثري ، أو التعارض أحيانا ؛ فميكي تخاطب صورتها في المرآة ، و تعلن رغبتها في الحفاظ على إرث العائلة ، ثم تقول إنها ستصير – مع الأخريات – كقطع مرصوصة في صندوق كبير بلا جدران ، أو كظلال للأشياء.

و تبدو أصالة اللامركزية في بنية العلامة في أمرين :

الأول : اختلاط البحث عن أصالة الكينونة بتضاعف الصور الأخرى الممثلة لها داخل المرآة ، أو الأشياء ، أو الآثار ، و الأطياف المولدة عن تلك البنية التي تصارع الغياب .

الثاني : تداخل ثبات الأشياء ، و حضورها المركزي بأحلام اليقظة ، و الظلال الطائرة ، و الحكايات ، و الأساطير المولدة عنها ، و كأنها تعاين الخروج من مادتها الصلبة بشكل متكرر.

*رؤية العالم في هليوبوليس :

تجسد رواية هليوبوليس بعض الإشارات الطبقية الخاصة بالبطلة ميكي ؛ فهي تمثل قراءة فنية ، و إبداعية ، و روحية لبعض التفاصيل الخاصة بالمستوى الأعلى من الطبقة الوسطى ؛ فهي تنحاز للنزعة الفردية ، ثم تتجاوزها في تجدد إيحاءات الصور ، و هي تواجه ضغط الزمن ، و الذاكرة بدرجة أكبر من التأثير الشمولي للطبقة على الشخصية ، كما تتعاطف – على المستوى الإنساني – مع شخصيات من الطبقات المهمشة ؛ مثل صابرين ، و غيرها ، دون أن تتخلى عن التماسك الاجتماعي للشخصية ، و الذي ينبع هنا من منظور فني بالدرجة الأولى.

و تعاين البطلة مجموعة من التحولات السياسية ، و الاجتماعية في سياقها التاريخي ، مع استقرار طبقي نسبي يسمح بانفتاح التأملات الأنثوية لتفاصيل العالم الداخلي للبطلة ، و واقعها.

و أرى أن الرؤية الاجتماعية للبطلة قد تشكلت – في النص – من خلال التحول في بنية الروح الفردية المميزة للبورجوازية ؛ فالبطلة مهددة بمشاعر الغياب ، أو تلاشي الكينونة نفسها ، أو اتصالها الخفي بالأشياء المميزة لعالمها الاجتماعي ، و الفني معا ؛ و لهذا أحدثت انشطارا – بصورة غير واعية – في الاستقلالية البنيوية المميزة للوجود الاجتماعي القائم على الفردية في شخصية ميكي ، لصالح الصور ، و الأصوات ، و الحكايات ، و الظلال الفنية التي صارت بديلا عن الوجود المادي المهدد الذي يشبه الدمية ، و كأن النص يجسد أحلام الوعي الممكن للبطلة بشكل مستقر من حضور فردي فني دائري ، و ليس حضورا اجتماعيا مهددا ، و إن كانت تلك الرؤية مولدة من النزعة الفردية القائمة في الوعي القائم للبطلة ميكي .

أما الأشياء ، و تفاصيل السياق الاجتماعي للبطلة ، فقد انشطرت باتجاه السرد القائم في الوعي ، و الواقع معا بحيث تخرج عن صلابتها ، و حدودها التي تؤدي إلى انفصال حتمي عن الشخصيات التي ارتبطت بها .

إن النص يحرك بنية الأشياء نحو الاتصال الممتد ، لا المقطوع بالفرد في لحظات التجاوز ، و التأويل المتجدد للكينونة ، و التي يحاول النص أن يقبض عليها.

 عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم