روائي في متاهة المرآة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 67
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مي التلمساني

يظل مصطفى ذكري، عبر خمسة اصدارات بدأها بـ"تدريبات على الجملة الاعتراضية" (1995)، ثم "هراء متاهة قوطية" (1997) و"الخوف يأكل الروح" (1998) و"لمسة من عالم غريب" (2000)، وانتهاء بـ"مرآة 202" الصادرة هذا العام عن دار ميريت (القاهرة)، مخلصا لشكل القصة القصيرة أو الرواية القصيرة، ربما بتأثير من بورخيس وكافكا اللذين يدين لهما باعجاب خاص، وربما لقناعة فنية أصيلة بقيمة الاختزال وعبثية الثرثرة. في كافة الأحوال، يصنع مصطفى ذكري لنفسه مكانة متميزة في سياقة الكتابة المصرية والعربية، وينفصل بشكل واع وحاد عن كل ما قد يزّج به في شرك التعريفات السائدة، ويحفر بدأب وعناد مسارا يليق بطموحه الفني.

يستطيع قارئ الاصدارات الخمسة ان يلمح بينها عددا من التقاربات والتقاطعات المضمونية والفلسفية، غير انني لا اطمح هنا لحصرها، فمجرد تعدادها منهجيا يفقدها خصوصيتها وتميزها ويعيدها لحظيرة المألوف والعادي. لنأخذ مثالا على ذلك طرحه لفكرة “الزمن”: الزمن فيما يبدو من أعماله على تنوعها هاجس ملح يتجلى عبر موتيفات تنتقل من الرتابة والشعور بالملل والانعزالية والوحدة والرغبة في قتل الوقت، الى رفض التصور السائد عن تراتب الزمن تراتبا ثلاثيا خطيا صاعدا من ماض الى حاضر ومستقبل.

ينفرد الكاتب ـ رغم ألفة الفكرة الزمنية في الأدب الغربي وفي الفلسفات الأوروبية التي اطّلع عليها ـ بمقاربة الزمن عبر المجاز، عبر البلاغة، فهو تارة يترجم الخوف باعتباره متاهة الزمن، وتارة أخرى يستلهم لعبة الاعداد بوصفها وسيلة الانسان للتغلب على الوقت. سؤاله الفلسفي ليس سؤالا وجوديا يطمح للتغيير، فهو لا يسعى للخروج من المتاهة كما انه لا يدعي القدرة على هزيمة غريمه بمجرد السيطرة الذهنية على الوقت. تستقر شخصيات مصطفى ذكري داخل المتاهة، داخل المرآة، داخل غابة الذاكرة والنسيان، في محاولة “سوبرمانية” بالمعنى النيتشوي لاختبار حدود الألم: يخيفها القبح الانساني ولكن يخيفها أكثر ألا تستطيع الصمود في وجهه بقبح وقسوة أكبر، يخيفها الفراغ وتخيفها الوحدة (وصنوها الخجل الاجتماعي) ولكن أكثر ما يخيفها هو ألا تقدر على مواجهتها بعدوانية تليق بها.

نستطيع ان نتخيل ان الزمن هو تلك الاسطوانة التي تبتلع داخلها خطيبة الجرسون (التي تصبح خطيبة النجار في موضع آخر من “مرآة 202”: هي اسطوانة دائرية مشطوفة بحدة وكأنها أعدت للكتابة، وكأنها ريشة قلم.. وكأنها ايضا المعادل الرمزي لدوامة الزمن. ليس ثمة قطيعة بين ذلك الثالوث الملازم لشخصيات الكاتب الرئيسية: الزمن، الكتابة، المتاهة. قد تنتصر الكتابة على متاهة الزمن، لكن الشك يلازم الكاتب ايضا، ويلح عليه سؤال القيمة، سؤال الصمود امام آلة الزمن الطاحنة للابداع. سؤال الخوف الانساني في مواجهة ذات قاصرة هزيلة ولا أدرية.

يظل الحدث الرئيسي في “مرآة 202” هو محاولة “عماد” الكاتب وزوج “نادية” الخروج من رتابة الحياة اليومية واستبدال العمل الابداعي بالفراغ الذهني والعاطفي. احد مشروعات الكتابة التي يطمح اليها نص يقع في 202 صفحة ويقوم على التكرار وكأنه وجهان لمرآة واحدة. محاولة الكتابة تسفر في النهاية عن نص “مرآة 202”.

هكذا يقع الزمن كفكرة موقعا وسيطا بين الأدب كفعل الانسان في العالم وبين الحياة كفعل العالم في الانسان. الزمن هو احد مرادفات “الجملة الاعتراضية” في كتابة مصطفى ذكري الروائية، هو تلك المسافة المعلقة بين الوعي بالعالم الخارجي وبين الحلم، وهو سؤال الكاتب الممض في وجه العدم، فوجوده وتحققه ككاتب وتحقق شخصياته ايضا، مرهون بقدرته على المواجهة.

تقف الكتابة على تلك الحافة الرهيفة بين الماضي والمستقبل، فيعيد الكاتب (عماد، مجدي، مصطفى ـ ذكرى؟) قراءة ما كتب واعادة انتاجه بشكل مستمر ليصنع منه انجازا مفتوح المصراعين على الممكن او المحتمل. الجنون الحقيقي هو ان تحاول الشخصيات التصدي للحاضر، لكنها تحاول بكل ما أوتيت من قوة، فتتحايل على الزمن الحاضر (الثقيل) بالحركة، بطقس الاعداد لجلسة عمل، بالاستغراق في العد (عادة المصابين بالوسواس هي استدراج الوقت في فخ العدد).. كل هذه الافعال، حركية كانت أو ذهنية، لا تنقذ الشخصيات من اليأس، من الملل، من احساس مقيم بالعبث، من الشعور الاخلاقي بالضآلة تجاه كل ما هو غامض. هنا، تصبح الكتابة وسيلة للتعبير عن العجز وممارسته بحرية وبنبل الفارس المهزوم، دون كيشوت العصري الذي يعرف انه يلهو وانه رجل بدايات وليس رجل نهايات، تماما مثل شخصية عماد في “مرآة 202”.

نلاحظ مثلا اجتماع ضميري المتكلم والغائب للاشارة للشخصية نفسها في الفقرة الواحدة، فنقرأ عن عماد ونقرأ له في آن واحد، أو نقرأ عن الشخصية وكأننا نقرأ عن الكاتب.

للمرآة إذن ذلك الحضور الاستعاري الذي يحتاجه الكاتب للتعريف بشخصياته ولربطها بمكان (متوهم وحقيقي في الوقت نفسه) هو سطح المرآة، وللتدليل على تلك “اللحظة الفائقة” المتحررة من الزمن التي يتدرب عليها الراوية فتمتص حاضره وتظل مؤجلة في المستقبل، لأنه لم يحن بعد. هي “مرآة” تاركوفسكي العظيم القادرة على اختراق حجب الماضي عبر الحلم وعبر الاسطورة، وخلط المستقبل بالحاضر كأنهما لحظة واحدة “فائقة في نشوتها”. وهي مرآة كوكتو في فيلمه الشاعري “أورفيوس” التي تبتلع البطل الاسطوري فيرى عند اختراق حافتها ماضيه ومستقبله معا. هي المرآة التي نجدها في “الخوف يأكل الروح” تعكس صورة نانا فقط عندما تكون بمفردها فتخرج ما كمن في روحها من شر وطغيان ولوثة وشراسة وتكشف ماضيها ومستقبلها معا.

المرآة أداة الكاتب للتعبير عن الجنون، عن الخوف، عن انفلات السيطرة ذهنيا على الدقائق والساعات، عن امكانية اختراق الوقت عبر حلم اليقظة، وهي ايضا أداته البلاغية لبناء نص يعتمد على التكرار وانعكاس المقاطع وفقا لسياقات مختلفة والتلاعب بالكتابة وبتوقعات القارئ عبر سلسلة من الاحتمالات تماما كما نجد في “متاهة المرايا”، حيث تتكرر الوجوه بانعكاسات مضحكة احيانا، مخيفة احيانا أخرى، وبزوايا تسمح دائما بالتعديل والتبديل.

يبني مصطفى ذكري كتابه على اساس فلسفي راسخ يجمع بين لعبة الزمن المستحيلة ولعبة المرآة الممكنة، ويستعين “بالكولاج” لقص ولصق نفس المقاطع في مواضع مختلفة من النص فهي دائما ما “توهمه بعدم الاكتمال وتغريه بالاعادة والترتيب…” (33) فإذا كانت كل الاحتمالات ممكنة ومتاحة كما نجد في اعمال الكاتب الفرنسي “ريمون كونو” وفي اعمال بورخيس وكورتاثار، فإن للكاتب الحق في دخول متاهة الاحتمال والاستقرار فيها الى الأبد، دون ان يكون للفظ “المتاهة” معنى أخلاقي سلبي. لكل مقطع ماض في النص، ومستقبل في موضع آخر من نفس النص، وعلى القارئ فك شفرة الزمنين والقبول بمبدأ الاحتمال. لا تنفصل قضية الزمن عن فكرة الذاكرة والنسيان التي يثيرها مصطفى ذكري في معظم كتاباته.

بين الافكار التي يزخر بها كتاب “مرآة 202” والاحداث التي يُبنى عليها السرد، لا ينسى الكاتب ربط عالمه بعالم السينما بأفلامه ومخرجيه العظام وببعض قضاياه المهمة مثل عذابات الحياة الزوجية الرتيبة كما نجدها عند برجمان وعند هيتشكوك بدرجات مختلفة ومثل الحياة كحلم كما نجدها عند تاركوفسكي، ومثل المغامرة المخلوطة “بالشجاعة وخفة الدم والعدوانية”، كما نجدها عند هوارد هوكس وجون فورد. تعود السينما لتؤكد مرة ثانية حضورها الفائق باعتبارها فن المقطع، فن صياغة الزمن، فن اعادة انتاج الحلم كواقع ممكن، فن الانعكاسات الضرورية للوجود، فن الذاكرة وصنوها النسيان، فن الحكي الحديث بكل شطحاته وطموحاته المتحررة من قيود المنطق وصرامة العقل العلمي. وهكذا تعود مشاهد الحلم كثيرا في كتابات ذكري، كما تعود مشاهد المحادثات الهاتفية بحوارها الطريف، مشاهد التجلي الغامض لأشباح نسائية تظهر وتختفي كما يحدث في مونتاج اللقطات الانطباعية، المشاهد الوصفية لعمليات الطهو واعداد القهوة وترتيب المكتب واللجوء للفراش بجوار زوجة نائمة والاستسلام للتأمل في مقهى شعبي، كما تعود الاشارة للصورة الفوتوغرافية بما تخفيه في ثناياها من حياة سرية ساحرة وتعود الاشارة لأجندة التليفونات بما تضمه بين صفحاتها من اسماء وأسرار ووعود. عالم قائم بذاته، نلتقيه بين عمل وآخر، من قصة الى أخرى، بنفس الوعي الثابت بمفاتيح اللغة العصية، ونفس الخوف المقيم من الاستسلام لوطأة الزمن. ليست “مرآة 202” سوى انعكاس جديد، ومدهش، لثبات الكاتب على مبدأ لا يحيد عنه: استعادة الزمن عبر الكتابة، وربما ايضا في غفلة منها.

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم