ربيع جابر: اختلقت قصة من أجل تأشيرة إلى أميركا

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاوره : علي المقري *

تثير تجربة الروائي اللبناني ربيع جابر الكثير من التساؤلات النقدية والصحفية خصيصاً أنه يكتفي بتقديم منجزه دون ظهوره ككاتب في وسائل الإعلام. يحكي جابر في هذا الحوار الذي استطعنا، بعد جهد أن نجريه معه، عن المؤثرات التي شكلت تجربته الروائية في خضم الحرب الأهلية اللبنانية، وعن الرؤى والآراء التي يحملها لمنجزه الإبداعي سواء في الأمكنة أو الناس.

قلنا له في البداية: ما الذي يدفعك إلى هذه العزلة: عزلة القراءة والكتابة والحياة؟

قال: “الشعر العربي القديم وشكسبير والقزويني وماركو بولو والمسعودي وكافكا وتولستوي وبورخيس والطبري وياقوت الحموي الرومي وماركيز وكونراد وستيفنسون وهوميروس. العالم فيه مجلدات تستحق القراءة وإعادة القراءة. هذه هي الكلاسيكيات بحسب كالفينو. الواحد صغير ونقطة في بحر إذا دخل إلى مكتبة. لا يشعر الكاتب بالعزلة وهو قاعد وحده يكتب. يشعر انه محضون بالأصدقاء، يشعر أن أجمل وأنبل ما في الإنسان يتحرك على مسافة قريبة”.

في حديثه بمناسبة ترشيح روايته “اميركا” لجائزة البوكر العربية قال ربيع جابر: “يمكن اعتبار الجوائز فرصة ذهبية لا للكاتب فقط بل ـ ولعل هذا أهم ـ للقارئ أيضاً. الجائزة الجيدة تدل القراء ـ في أي مكان وزمان ـ إلى كتاب يستحق القراءة”.

سنوات الحرب

عن حياته وتأثير المكان على كتاباته الأولى قال: “ولدت في بيروت سنة 1972 في مستشفى صغير محته سنوات الحرب عن وجه الأرض. كان يقع في جوار المتحف الوطني وتلك المنطقة تحولت بعد 1975 إلى جزء من خط التماس الأخضر المشهور الذي قسم بيروت إلى مدينتين متناحرتين بيروت الشرقية وبيروت الغربية على امتداد 15 سنة. خط التماس الذي صار خيالياً الآن أو غير موجود كان بين 1975 و1990 عبارة عن أحياء كاملة متداعية محروقة ينتشر فيها الشوك والخراب والكلاب المسعورة وترمى فيها جثث مخطوفين قطعت أعمارهم بسبب كلمة على الهوية. إذا ذهبت إلى هناك الآن تجد زحمة وسياحة وأعمالاً مزدهرة و أبنية مرممة وأبراجاً سكنية جديدة فخمة ومتاجر عالمية تبيع ما تشتهي وجنب هذا ترى بعض آثار الحرب مثل بيت مهجور محطم أو حائط مخرم بثقوب الشظايا والرصاص. لا ترى جثثاً عارية مكومة لم ييبس الدم النازف منها بعد. مرّ الزمن والزمن رحيم.

قضيت معظم سنوات الحرب في الجبل الذي يظلل بيروت. كانت الحياة في ذلك الوقت مقسومة بين المدارس والملاجئ، بين الملاعب والحقول وأخبار الاقتحامات والنزهة إلى خط الجبهة حيث المتاريس ومرابض المدفعية. ذكريات ذلك الوقت قاتلة. في 1989 نزلت من جديد إلى بيروت الغربية. سكنت في الجامعة الأميركية وبين ليلة وضحاها انتهت الحرب الأهلية كأن العالم مسحور ووجدتني في مدينة أخرى من دون أن أتحرك: الجرافات جرفت متاريس خط التماس والجيش أزال الألغام والغربية والشرقية تحولتا إلى بيروت الكبرى. في تلك الفترة بدأت أكتشف بيروت ثالثة أيضاً: أسير تحت أشجار السرو الخضراء التي زرعها بلس وفان دايك ودودج في سبعينات القرن التاسع عشر وبين عمارات حجر نبتت من بطن التراب قبل أكثر من مئة سنة وظلت كما هي، أدرس هندسة كومبيوتر وفيزياء وأكتشف كنوز مكتبة يافث: في قبو تحت الأرض كان أرشيف الجرايد العثمانية ينتظرني، خصوصاً “لسان الحال” التي تحوي “بيروت القديمة”، المدينة التي اختفت أثناء الحرب العالمية الأولى. خارجاً من قبو القرن التاسع عشر الى شارع بلس كنت أصاب بالدهشة لرؤية سيارات آتية من المستقبل تتحرك بلا أحصنة. في 1992 صدرت روايتي الأولى. قسم منها كتبته في مزرعة دجاج ملك العائلة منعزلة في أعلى الجبال؛ لاحقاً وصفت هذه المزرعة في روايتي الثانية “شاي أسود”. من 1992 إلى 1995 عشت في القرن التاسع عشر. كنت أخرج من غرفة الميكروفيلم المظلمة إلى شوارع القرن العشرين المضاءة بالكهرباء فقط كي آخذ حاجتي اليومية من الماء، الهواء النقي، سندويشات “فلافل بكار” قبالة الجامعة ومناقيش الزعتر. أتكلم مع الأصدقاء وأُدخن بلا توقف. لاحقاً سأتخلى عن هذه العادة السيئة. في 1996، بينما أعمل على روايتين معاً- “البيت الأخير” و”الفراشة الزرقاء”-نُشرتا لاحقاً باسمي مؤلفين مختلفين عن داري نشر مختلفتين، تحولت إلى شخص آخر. أعتقد أن تلك كانت البداية الحقيقية”.

كنت كاذباً

أسأله عن الهواجس الأولى لرواية “أمريكا” وما الذي حفّزه، أو وجده مختلفاً، في هجرات السوريين (وهو وصف سكان الشام وفلسطين ولبنان في تلك الفترة) ليرويه، أو يتخذه كمختبر إنساني وفنّي يضيف جديداً إلى ما سبق من الروايات؟

يقول جابر مستعيدا تلك الهواجس مع ما سبقها من روايات: “في 1998، بعد أن سلمت مخطوطة روايتي السابعة “نظرة أخيرة على كين ساي” إلى ناشري، أصابني سقوط نفساني حاد. هذا على الأرجح يحدث لأنك فجأة بعد الغرق طوال شهور في عالم روايتك البعيد متمتعاً “بلذة الخلق” حسب غوته، التي لا تضاهيها لذة، تجد نفسك فجأة أجوف بلا قوة غريباً في مكان أجنبي عدائي. بينما تكتب تملك قوة لا نهائية. لكن لحظة الانتهاء من العمل أنت أضعف مخلوق في العالم. أتذكر أنني استيقظت في الليل، 12.30 ليلاً تقريباً، وأضأت التلفزيون شاعراً بعطش شديد. كان الجو حاراً، ذلك الوقت من الصيف عندما يفقس البرغش في بيروت مرة ثانية ويغطي النمل الصحن المتروك في المجلى. كانوا يعرضون فيلماً وثائقياً عن “موبي ديك”. كانت صدفة غريبة: شربت ليتراً من الماء وأنا أنظر إلى البحر الأزرق. بينما أنظر الى الماء عرفت ماذا سأفعل. في تلك الفترة ذاتها كنت أعالج نفسي بالقراءة المكثفة، فوجدت في أحد مجلدات “الحاوي في الطب” للرازي ابن القرن العاشر للميلاد أن النزهة والأسفار خير علاج للكآبة والملانخوليا. أخذت سيارة من “تاكسيات دعبول” ـ المكتب في نزلة رمل الظريف في رأس بيروت، حيث فجروا موكب الرئيس التاسع للجمهورية اللبنانية ـ وذهبت الى السفارة الأميركية في دمشق وطلبت فيزا. في ذلك الوقت كان اللبناني إذا أراد السفر الى أميركا مضطراً الى زيارة سفارة أميركية خارج بيروت لأن السفارة في لبنان كانت مقفلة. الموظفة في السفارة، أميركية شقراء لطيفة، في الثلاثينات من عمرها، سألتني سؤالاً مفرداً: “لماذا تريد الذهاب إلى أميركا؟” قلت: “أكتب كتاباً عن هرمان ملفل مؤلف “موبي ديك” وأحتاج الى قراءة رسائله المحفوظة في مكتبة نيويورك العامة”. في ذلك اليوم نفسه عدت إلى بيروت بالتاكسي ذاتها ـ سيارة أميركية صفراء اللون، قديمة الطراز، تنزلق على منحدرات الجبل مثل سفينة على الجليد ـ وقبل حلول المساء اشتريت تذكرة السفر إلى نيويورك من مكتب سفريات يقابل الجامعة الأميركية. هناك، في نيويورك، سكنت في “ستديو” صغير يواجه بناية الداكوتا في مانهاتن. كنت أتجول في الشوارع وأبحث عن العمارات القديمة وأحاول أن أرى الأماكن بعيني هرمان ملفل. هذا غريب لكنه حقيقي. أنا عندما قلت لموظفة السفارة أنني أكتب كتاباً عن ملفل كنت كاذباً: كنت أعطيها قصة كي تعطيني التأشيرة. خطتي كانت السفر وحسب، النزهة كما نصحني الطبيب أبوبكر الرازي. لكن ما حدث في التاكسي التي ردتني من دمشق الى بيروت، ثم في الطائرة التي حملتني الى باريس ومنها الى أميركا، أن شيئاً غامضاً تحرك في داخلي وبدأت فعلياً أخطط رواية عن حياة هرمان ملفل. أحد أصحابي من زمن الجامعة كان يقيم في بروكلين عندئذٍ، طبيب ويحبّ الرسم وكنا نلتقي في الكافيتريا التابعة لمتحف ويتني ونتكلم. سألني لماذا أريد العودة الى بيروت؟ سألني لماذا لا أبقى في أميركا وأصير أميركياً مثل الأميركيين جميعاً؟ بينما يقول ذلك فكرت في الرواية التي أعطيتها لناشري قبل السفر: جعلت مسرحها الصين القديمة كي أهرب من مدينتي الصغيرة التي أظل أكتب عنها – عن سلمها وحربها على مدى قرنين – الرواية تلو الرواية. بينما أتفقد واجهة نيويورك البحرية وألتهم سندويشات الهوت دوغز ثم بينما أقطع بالباص الغريهاوند سهول بنسلفانيا الخضراء الى كليفلاند (أوهايو)، انتبهت أنني لا أطارد هرمان ملفل بل أحد أسلافي: رجل عاش في القرن التاسع عشر واختفى من جبل لبنان في حدود سنة 1860 (سنة الفتنة) وقيل انه ذهب الى أميركا.

اسمه يوسف جابر. ولد في ثلاثينات القرن التاسع عشر في قرية صغيرة في أعالي جبل لبنان؛ لاحقاً انتقل إلى بيروت ودرس عند المرسلين الأميركان ثم سافر إلى لندن ودخل أكاديمية الفنون وتزوج إنكليزية. رجع الى الجبل وعاش فيه فترة – كانوا يسمّونه “الإنكليزي” ـ ثم غادر مرة أخرى. كنت أسير في الجزء الجنوبي من مانهاتن ـ حيث وُجد “الحي السوري” في مطلع القرن العشرين ثم اختفى – وأفكر. رحلتي الأميركية كانت مفترق طرق، كما في تلك القصيدة لروبرت فروست. فوق المحيط الأطلسي، عائداً إلى “العالم القديم”، بدأت أخط جواباً طويلاً على سؤال صديقي، والجواب تحول إلى رواية لا عن هرمان ملفل ولكن عن يوسف جابر، “يوسف الإنكليزي” (1999). المؤرخ اللبناني كمال الصليبي عنده دراسة مثيرة للاهتمام عن شخصية يوسف الإنكليزي هذا. في الصفحة الأخيرة من الرواية المنشورة قبل 11 سنة، نسمع فجأة عن أخوين توأمين هما محمد وعلي جابر. وُلدا مطلع القرن العشرين. الأول عاش في جبل لبنان طوال حياته ومات في 1983 بعد وقتٍ قصير من تجدد المذابح بين سكان هذا الجبل السحري القديم. والآخر سافر إلى أميركا قبيل اندلاع الحرب الكبرى في 1914، ولم يرجع: كانت الخطة أن أؤلف عن حياته مجلداً ثانياً، ما يشبه التتمة لـ “يوسف الإنكليزي”. لم أكن أعلم عندئذٍ أن ذلك يستغرق دهراً. في ربيع 2001، وأنا عائد من رحلة طويلة أخذتني الى ثلاث مدن في اليابان (طوكيو، كيوتو، هيروشيما)، وبينما الطائرة تتحول الى برّاد حقيقي فوق الأودية البيضاء والمخيفة لسهوب سيبيريا، بدأت أكتب من جديد مغامرات علي جابر وراء الأطلسي. كان البرد يجمد النخاع في عظامي. ومرة أخرى فشلت. كتبت “رحلة الغرناطي” (2002) عن أخوين في الزمن الأندلسي، يضيع أحدهما في غابة خارج غرناطة ويقضي الآخر ما تبقى من سنوات عمره في البحث عنه: يبحث عن أخيه لا في إسبانيا فقط، ولكن أيضاً في شمال أفريقيا ثم في بيت المقدس، ثم في أنطاكية. كي أكتب تلك الرواية ـ إلى أي حد كنت أستعيد قصة جدي عن أخيه علي؟ ـ توجّب عليّ أن أرى أماكن لا أعرفها في أزمنة لا أعرفها (القرن الحادي عشر للميلاد). هذا ما يفعله الروائيون حتى عند الكتابة عن العالم الآن، وهذا ما يفعله القراء بعد ذلك أيضاً.

العالم الروائي المتماسك يضمن تشويق القراء. كتبت مئة صفحة عن حياة علي جابر ثم توقفت: كان هناك شيء ناقص دائماً، لا أدري ما هو. بعد ذلك وطوال سنوات شغلني البحث والكتابة في الثلاثية “بيروت مدينة العالم”، وعندما بلغت نهاية المجلد الثالث رأيت أن عقداً آخر قد مرّ بجواري وأنا لم أنتبه. “الثلاثية” عن ثلاثة أجيال من عائلة البارودي في بيروت القرن التاسع عشر، كتبتها بموازاة ثلاث روايات أخرى عن المخطوفين في الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة ما بين 1975 و1990: “بيريتوس مدينة تحت الأرض”، “الاعترافات” و”تقرير ميليس”، وردّتني الى مكان عتيق: ليس الى قبو “لسان الحال” وبيروت المسوّرة ذات الأبواب الخمسة فقط، ولكن أيضاً الى ذكريات مدفونة في الأعماق، إلى الطفولة وزمن القصف والقتل الجماعي والخوف من الإبادة والخطف على الهوية والعيش في الملاجئ تحت الأرض… بينما أرى الشخصيات تبتعد مرة أخرى، بينما أُترك وشأني من جديد، تذكرت المهاجر علي جابر وقصته غير المكتوبة. كان ذلك محبطاً، وامتلأ رأسي شعراً أبيض وأنا أحاول تخيل عالمه، عالم الأسلاف المهاجرين إلى وراء الأطلسي. عندئذٍ فقط، وأنا في القعر بلا أمل، جاءت إليّ تلك الرؤيا التي تفتتح رواية “أميركا”: شابة جميلة وفقيرة تدعى مرتا حداد، تقف وحيدةً في مرفأ إليس أيلاند في خريف 1913، تعرق في ثيابها وسط دوامة الوجوه الغريبة واللغات التي تطنّ، تطلب الدخول إلى أميركا حيث زوجها المقطوعة أخباره، وتخاف أن يردوها إلى السفينة كي تعود من حيث جاءت، إلى قرية بعيدة فارغة في جبل لبنان، فارغة لأن الرجل الذي تحبّه ليس هناك”.

منجز العزلة وصخبها

يمكن القول إن الروائي اللبناني ربيع جابر الذي ولد في بيروت عام 1972 قد أنجز الكثير من الأعمال اللافتة في السرد العربي بدءا من “سيد العتمة” التي صدرت عام 1992 وحازت جائزة الناقد للرواية إلى روايته “أمريكا” المرشحة لجائزة البوكر العربية. وقد جاء في بيان الترشيح من لجنة تحكيم الجائزة التي بموجبه صعدت الرواية إلى القائمة القصيرة التي تضم ست روايات:

 “تستحضر رواية اللبناني ربيع جابر ملحمة هؤلاء الذين دفعهم الفقر وروح المغامرة الى ترك سوريا الكبرى في السنوات الأولى من القرن العشرين ليجربوا حظهم في أميركا الناشئة، حاملين “الكشة” عبر السهول والجبال، يندمجون تدريجيا في نسيجها الاجتماعي ويشاركون في حروبها. يركز السرد على سيرة مارتا التي تقرر الذهاب وحدها إلى نيويورك من أجل العثور على زوجها بعدما انقطعت عنه الأخبار. تأتي الرواية تحيةً من الباقين إلى الذين رحلوا في أراضي المهجر، متخطين ما كانت ظروفهم تقدّره لهم من مصير، حتى يصنعوا هوياتهم الجديدة بأيديهم وعزيمتهم”

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*  شاعر و ناقد من اليمن

مقالات من نفس القسم