رؤية نقدية لرواية “أنا العالم” لـ هاني عبد المريد

رؤية نقدية لرواية "أنا العالم" لـ هاني عبد المريد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

للوهلة الأولى، قد تبدو رواية (أنا العالم) للروائي هاني عبد المريد، بناءًا  سردياً متشظيًا، يمتد عبر وحدات سردية صغيرة ومتباعدة، ولكن.. مع الوقت، تبدأ معالم هذه البنية  في الاتضاح على نحو أكثر ترابطا وتماسكا، حتى يمكن حصرها في وحدتين أو حكايتين كبيرتين. حكاية: عبد الجليل وعائلته، وحكاية الكاتب والكتابة. والواقع أن هناك تواشج فني عميق بين الحكايتين رغم اختلاف مادتيهما، فالأولى مادتها الواقع والثانية مادتها الذات، بل هو تواشج منطقي أيضاً، فالكاتب هو يوسف، ابن عبد الجليل، المولود الأول في العائلة، الذي جاء بعينين مختلفتين في لونها فكان ذلك مؤشرا على توزعه النفسي وارتباك مشاعرة، كما هو علامة على تفرده بسمات تؤهله ليمتلك بصيرة خاصة لرؤية تاريخ العائلة، ثم ذاته، ثم العالم. ومع ذلك فالرواية ليست سيرة ذاتيه للكاتب (يوسف) كما أن كل الإيماءات إلى المشتركات بين شخصية يوسف عبد الجليل، وهاني عبد المريد منبعها الوعي بتجربة الكتابة ومعاناتها، وعليه، فتصوري الكلي عن هذه الرواية أنها سيرة وعي، تبدأ بالوعي الأسطوري لجذور العائلة وتنتهي بالوعي الجمالي مرورا بالوعي المجازي الذي تكلمت به العائلة في جيلها قبل الأخير.  

 مع استمرار القراءة، يتشكل التناغم السردي لوحدات الرواية- الكثيرة جداً- شيئا فشئيا أمام عيني القاريء. القراءة إذن ممارسة تحاكي الكتابة، كلاهما عملية تحديق وتأمل عميق للعالم، تشرّبه والاكتناز به، تفتيش في التفاصيل الصغيرة، سبر أغوار الذوات الإنسانية، فضح الرغبات المقموعة، رسم أبعاد الشخصيات العجيبة والأمكنة النائية. عندئذ ينتبه القاريء، أنه مع كل صفحة يغوص أكثر ويرى أكثر، ومع ذلك فهو يظل طوال الوقت مدركا أن حركة السرد تمضي في خطين متوازيين: خط العائلة وتاريخها العجائبي، الذي ينهل من موتيفات فولكلورية، تستدعي البعدين الواقعي والسحري معا على الطريقة الماركيزية، إنه الخط المعني بتاريخ الفضاء الحيوي لشخصية (الكاتب يوسف عبد الجليل)، الفضاء الذي ولد وعاش فيه، وتسربت إليه حكاياته مع رائحة النعاع التي تحولت إلى معنى رمزي، ليس لروح يوسف عبد الجليل فحسب، بل لجسده أيضًا، فأصبح الجسد عنوان الروح على نحو ما كان يصرخ يوسف بين لحظة وأخرى، لهذا فإن الالتحام الجسدي بـ (ريم) هو الذي انقذه من عتام الروح والتيه النفسي، وكأن الرواية تسعى إلى وعي يحترم الثنائيات المتخالفة كعيني يوسف نفسه، فالتجربة الإنسانية هى روح وجسد، هى داخل وخارج، هي ماض وحاضر، هي حقيقة وخيال هي العالم بكل أركانه وأبعاده الأسطورية.    

 أسرة عبد الجليل تصيبها لعنة ما، فتأتي بنسل مشوه، طفل يتحول ليلًا إلى قط يجوب المنازل ويموء، وآخر يحدق في السماء ويبتسم لكائنات غير مرئية، وعم يجول في البراري ليجمع العقارب والثعابين والسحالي، وللجدة –كالعادة- النصيب الأكبر من واقعها العجائبي، تمتلك قوى خارقة، وتسيطر على العفاريت والأرواح الشريرة وتعالج المرضى بالتعاويذ والرقيا، حتى ميتتها جاءت معجزة. وإذا كان هذا البعد العجائبي في الرواية الحديثة حقق إشباعا جماليا للدرجة التي فقد معها تأثيرة على القاريء المتمرس، فإن هاني عبد المريد يعوض هذا في رسمه المتقن والمتفرد لشخصية عبد الجليل نفسه، ويكشف عبر بعض التفاصيل الصغيرة والإنسانية، عن الأبعاد الطبيعية-لا الخارقة- للشخصية، بضعفها وووعيها وعواطفها الجياشة وأحلامها الموؤودة..  إنه النتاج الطبيعي لعائلة تعايشت مع الأساطير وتكلمت بالمجاز فجاء عبد الجليل –الأب- وكأنه يحقق حلم العائلة بميلاد شاعرها:( عبد الجليل لم يحمل الأسطورة، هو في حد ذاته يبدو لي  كأسطورة، حضور طاغي يمتلك به أي مجلس، حكاء، ينطق بالحكمة أحيانًا، وبالقافية أحيانان وبالدعابة والسخرية الخفية في كل الأحيان..) والوقع أن عبد الجليل، كان المدخل الطبيعي لحضور الكاتب ( يوسف) فيما. صحيح أن هذا الحضور الفني المميز لشخصية عبد الجليل كما رسمها هاني عبد المريد، طغى على كل شخصيات، حتى على شخصية الكاتب الذي لم يجد مساحة من التحقق والحضور الجمالي إلا بعد غياب عبد الجليل من المشهد بموته المفاجئ على صدر زوجته غالية. فيوسف هو التطور الطبيعي لعبد الجليل، هو حلمه الذي لم يكتمل، لهذا لم يكن حضور ( يوسف الكاتب) مفاجئا في النص، كان ينمو في ظلال عبد الجليل مثل نبتة نعناع في حديقة منزلة ظلت تنمو تنمو… كان النص يبشر بيوسف عبر لمحات وإحالات ذكية، منذ البداية التي كان فيها مشغولا بأساطير العائلة فلم يتمكن من صنع أسطورته الخاصة إلا بعد تخلص من كل الكبار: الأب والجدة والعم قادر. يوسف الآن، يمتلك إلهامات وعذابات الأنبياء.

نقلتنا حكاية يوسف إلى واقع أكثر عمقًا وجمالًا، عنئذ يتحقق تفرد هاني عبد المريد الكاتب، بعد أن أفرغ شحنة الأساطير المتبقية معه منذ التجربة التسعينية. عندئذ بدأت اللغة في التوهج، وهي تتنقل برشاقة بين الواقع الخارجي لتاريخ العائلة الذي عايشه وكان شاهد عيان عليه، والواقع الداخلي لذاته. هذا الأخير هو الغامض المفعم بإخيولات الإبداع وهي تراود كاتبًا شابًا عن نفسها ثم تروغ فتشعره بالعجز في مواجهة العالم وحيدا. موت عبد الجليل وضع يوسف -الذي عاش شبابه في مستنقع الأساطير العائلية- في مواجهة الواقع لأول مرة، ماذا يفعل بميراث ثقيل، من أخوة معاقين، وبيت متواضع به حديقة نعناع صغيرة، وأم شابة جميلة. ترى كيف ستواجه رغباتها وأشواقها الجنسية وحيدة؟  كيف سيواجه هو رغباته المحمومة في جسد (ريم). عندئذ بدأ يوسف في نسج اسطورته الخاصة عبر الكتابة.

لكن رحلة اكتشاف الذات عبر الكتابة ليست هينة،:” كان فعل الكتابة مرهقًا مؤذيًا، أدخلني في الحالة التي أهرب منها طوال الوقت، وضعني بإرادتي في مواجهة”. الاغتراب والوحدة والتيه  وتلاعب الإخيولات بالوعي حتى التباس الحقيقة بالخيال. ولا خلاص إلا عبر عملية معقدة من هدم الصور الذهنية وتكسير الأوثان الداخلية، تشعر بعدها بالخواء، وتأمل في الكتابة من جديد لملء هذا الفراغ، ومرة أخرى لاتجد سوى: ” فراغ، لاشيء سواي، العالم فراغ ممتد أمام عيني إلى ما لا نهاية، لا بشر، لا حيوانات، لا لسعة لأشعة شمس، أو صوت لرياح، فراغ، وسكون تام، أنا العالم مرة اخرى”

ياله من تيه عظيم، إنها رحلة الكتابة، رحلة أوديسيوس.

………………..

موقع بتـــانة نيوز بتاريخ 2 أكتوبر 2016

عودة إلى المؤلف

مقالات من نفس القسم