ذات مساء

محمد العربي كرانة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد العربي كرانة

رنين الهاتف أيقظني من قيلولة استعذبتها منذ أن اكتشفت أن النوم بلسم لهمومي وأحزاني.
أزحت ستائر النافذة، الشارع هادئ في هذا المساء الخريفي، ليس تماما، لغط وجدال منبعثان من المقهى المجاور لجمهور يتابع مقابلة رياضية، وصوت محرك سيارة يجاهد لابتلاع عقبة مستعصية.
على الأرض أوراق يابسة لأشجار عراها الخريف من لبوسها تتلاعب بها الرياح. وعلى أسطح العمارات تيجان ذهبية لشمس غاربة.
لست أدري كيف تغير موقفي من غروب الشمس، هكذا فجأة أصبحت أكرهه بعد أن كان سحره رفيق دربي على أنواره تراقصت أحلامي وأماني وأحزاني وعلى أدراجه انسكب الصبا والشباب. وبين أحضانه شربت كأس الهوى حتى الثمالة. أجهضت الأحلام واغتيلت الأماني ولم تبق غير أحزان استوطنت الذات وأعجبها المقام وما أرادت عنه بديلا. حتى الهوى سيشهد آخر فصوله وأشعة الغروب
تزف النهار لمرقده.
توقف الرنين، لم يكن رنينا عاديا، بل كان جزءا صغيرا من سمفوتية الفصول الأربعة لفيفالدي أصرت على أن تكون موسيقى لهاتفينا تمييزا لهما عن باقي الهواتف المليئة بالزعيق والساقط من الموسيقى. فقد كانت تؤمن بأن الهاتف امتداد لشخصية صاحبه وأن الرنات مفتاح لفهم هذه الشخصية ومن تم الحكم عليها. جاريتها في أمور كثيرة أقلها مسألة الرنات، فقد استحالت كثير من لقاءاتنا التي كنت أريدها رومانسية إلى محاضرات عن الأدب الكلاسيكي وخاصة الفرنسي منه، أو حديث عن المسرح أو الموسيقى، وعندما كنت أحد من اندفاعها تنظر إلي كطفلة حرمت من لعبتها المفضلة ممططة شفتيها ومحركة رجليها في عصبية ظاهرة.
كان لقاؤنا صدفة، في رحاب الجامعة، وكنا بصدد تنظيم وقفة احتجاجية فوقع تدافع دست من جرائه على قدمها، احتجت علي وأمسكت بأصبع قدمها المدمى وهي تتألم، اعتذرت لها متلعثما، قبلت اعتذاري بانحناءة من رأسها. تجاوزنا المحتجون وبقينا لوحدنا، اقترحت عليها أن أصطحبها إلى مصحة الجامعة لتضميد جرحها، قبلت، ثم اتكأت على ساعدي وانطلقنا صوب المصحة.
تلك كانت البداية لصداقة امتدت زمنا وتحولت تدريجيا لعلاقة عاطفية استمرت حتى بعد التخرج من الجامعة. الكل استغرب – خاصة من محيطها – لهذه العلاقة التي تجمع بين متناقضين فقد كانت تنتمي لأسرة عريقة متشبعة بالثقافة الغربية درس أغلب أبنائها بالمدارس الفرنسية وإن كان وضعها الاعتباري قد تضرر من توالي النكسات المالية إلى حد الإفلاس، ومع ذلك ظلت محافظة على نمط عيشها المستغرب الثائر على العادات والتقاليد. وربما ذلك ما اجتذبني نحوها مدفوعا بفضول لاستكشاف عالم غريب عني أنا سليل عائلة بدوية متواضعة، استوطنت المدينة منذ جيلين دون أن تتخلى على الرغم من تمدنها عن كثير من قيم البداوة الأقرب للفطرة الإنسانية البسيطة من صدق وأمانة وحرص على الكرامة، وفي الغالب كان هذا نفس منطلقها في الارتباط بي.
عالمان مختلفان بل متناقضان تعايشا لسنوات في انسجام تام، عندما أدركا معا أن هناك حدودا لا يجب تجاوزها وقناعات يجب أن تحترم على الأقل في حدودها الدنيا. طبعا كنا نختلف ولكن الاختلاف لم يفسد للود قضية…فقد كنت أتضايق من هوسها المفرط بكل ما هو فرنسي أدبا وسلوكا وطريقة لباس،
وكانت بالمقابل تتضايق من غيرتي المفرطة وفي بعض الأحيان من طريقة لباسي التي لا تنم عن ذوق
سببان أخلا بتوازن هذه العلاقة المبنية على توافقات ضمنية وعلنية، زميل دراسة، وبطالة سحقتنا
وكثيرا من خريحي الجامعة لعدم حاجة سوق الشغل لتخصصاتنا. فإذا كان السبب الثاني عاما ومنطقيا،
فإن الأول غير ذلك، فمنذ الوهلة الأولى شعرت بنفور من هذا الزميل بلغ حد الكراهية لتصرفاته الخرقاء وتبجحه بغناه، ثم إنه كان زير نساء لم تسلم من معاكسته جل فتيات دفعتنا بما فيهن رفيقتي التي شاركتني النفور منه بل التحامل عليه. اختفى من الجامعة منذ السنة الثانية، ليظهر في شكل مقتضب في رسالة نصية توصلت بها من رفيقتي تخبرني بأنه اقترح عليها عملا في شركته وبأنها مسرورة لأن بعضا من مشاكلنا ستحل بهذا العمل.
رنين ملحاح للهاتف أخرجني من شرودي، ابتعدت عن النافذة، لم يعد لسمفونية فيفالدي نفس الوقع على نفسي، لم أسألها أبدا من أي الفصول الأربعة اقتبست هذا المقطع البسيط، لكي لا تتهمني بالجهل
وتضطرني لسماع مجمل الفصول. أخرست الرنين بيد مرتعشة، وكتبت رسالة نصية مقتضبة معلنا قدومي للموعد المنتظر.
ارتديت معطفي، ونزلت، تجاهلت تحية البواب الذي بدا مندهشا من تصرفي، ووقفت بباب العمارة. هزم الظلام نور المغيب ما عدا احمرارا شاحبا في الأفق الغربي، لا زالت الريح تراقص أوراق الأشجار الميتة تحت ضوء مصابيح الشارع التي أضيئت، أخذت نفسا عميقا ثم انطلقت.
سلوى…رفعت رأسها وابتسمت باقتضاب، ثم أزالت إبريق القهوة عن الموقد الذي لم يكن موقدا.
نفس العينين، نفس البريق الساخر وإن كان اليوم أقل لمعانا وسحنة شاحبة متوترة. كانت جالسة أمامي وقد عقدت العزم – إن لم يكن هناك توافق واتفاق – على أن تكون هذه الجلسة مسك الختام لعلاقة دامت
أكثر مما ينبغي لها. حاولت جاهدة أن تبدو عادية، مرحة، خانتها رفرفة أجفانها المتكررة ونظراتها الحيرى لنقطة وهمية ورائي.
استسلمت، غاضت ابتسامتها وعلت حمرة خفيفة وجنتيها وهي تسألني :
– أفكرت في الموضوع الذي حدثتك عنه ؟
تجاهلت سؤالها، أشعلت سيجارة ورشفت من الكأس الموضوعة أمامي، مذاق مر لقهوة باردة برودة هذا اللقاء، ثم اكتفيت بالنظر إلى وجهها، كان جميلا حتى وهو شاحب مقطب. لذة كبيرة أشعر بها وأنا أرى ترددها وحيرتها، ليس في اتخاذ موقف مني، فذاك أمر قد حسم مسبقا، ولكن في كيفية تبليغي بقرارها دون المساس بكرامتي ورجولتي. سألتها بدوري :
– وهل قبلت عرضه ؟
– وهل لدي خيار آخر ؟ فرصة عمل لاحت بعد لأي فاهتبلتها، أربع سنوات من البطالة كانت كافية لأن أقبل بأي عمل. المهم أن يكون شريفا. ثم إن الراتب لا بأس به.
– المشكل ليس في العمل ولا في الراتب، ولكن في الذي عرضه عليك.
– زميل دراسة ما العيب في ذلك ؟
قاطعتها قبل أن تتم جملتها وألقيت عليها سؤالا ظل يحيرني :
– كيف تم إتصالك به ؟
– صدفة، في الشارع، سمعت من يناديني باسمي فاستدرت لأجده أمامي، حياني بحرارة ثم سألني عن أوضاعنا، فأخبرته بأننا لا زلنا نبحث عن عمل، ومن تم اقترح علي العمل في شركته لأنه في حاجة لمن يتقن اللغتين الفرنسية والإنجليزية للتواصل مع زبنائه الأجانب.
قدرة الإنسان على التكيف لا حدود لها، وانسداد الآفاق يحيل السواد بياضا. بالأمس القريب كانت لا تطيق النظر إليه، واليوم أصبح زميلا وربما رئيسا. لو حاججتها الآن لاتهمتني بالجمود والرجعية.
الأحمق في نظرها من يسبح ضد التيار، وأنا مرشح لأن أكونه.
نظرة نفعية بسيطة تستمد مشروعيتها من مجتمع قوضت قيمه المتناقضات، كل شيء فيه نسبي حتى الانتماء إليه مسألة فيها نظر. ما ينغص عليها فرحتها معرفتها المسبقة بموقفي الرافض للتعامل مع
هذه النماذج البشرية، ولكنها في أعماقها اقتنعت بأن موقفي لا يلزمها في شيء، وبأن لها حياة خاصة عليها أن تخطط لها بعيدا عن هلوستي ومثاليتي المفرطة.
أزاحت خصلة من الشعر عن جبينها، ونظرت إلى نفس النقطة الوهمية خلفي وفي عينيها استعطاف ورجاء، منتظرة ردي، ولما تأكدت أنه لن يأتي أردفت :
– سأبدأ الأسبوع المقبل.
حسم الأمر إذن، تخميني كان صائبا، لم يكن هذا اللقاء فرصة لمناقشة العرض كما ظننت، ولكن لوضعي أمام الأمر الواقع، لم أثر في وجهها، الأمر أكبر من الغضب والانفعال خاصة وأني بدأت أشعر بأن موقفي الذي لن أحيد عنه غير سوي تماما ولكن لدي ما يبرره، أجبتها باقتضاب:
– حسنا..
فاجأها جوابي ورفعت نحوي بصرها وقد انفرجت أساريرها وعلت شفتيها ابتسامة جنينية:
– حسنا، هكذا مجردة بدون تهنئة، ألا يهمك مستقبلي، عفوا مستقبلنا؟.
– مستقبلنا ؟
– طبعا، يمكن أن نتزوج الآن في انتظار أن تجد عملا.
– امرأة عاملة ورجل عاطل، زواج غير متكافئ سيجر عليك القيل والقال، الدنيا أخذ وعطاء
فماذا سأعطيك؟
– لماذا تبعد نفسك عني؟ ما بيننا أكبر من هذه التفاهات.
– ليست تفاهات.. نحن نعيش في مجتمع له ضوابط وأعراف، وحماس اللحظة غير دائم، وثورة الفرد مآلها الخسران، ثم إن الزواج ليس مغامرة أو تحديا.
– ألسنا أحرارا في اتخاذ ما نراه مناسبا وصالحا لحياتنا، فليذهب الآخرون إلى الجحيم.
– الآخرون هم الجحيم، والحرية أكذوبة اخترعها الإنسان وصدقها، كل ما نقوم به خاضع لمراقبة الذات والآخر وإلا لما كان هناك خير وشر، صالح وطالح..
هبت واقفة والشرر ينبعث من عينيها، وضربت الطاولة بقبضة يدها، تطاير الكأسان واندلق محتواهما ونالت ثيابي نصيبا منه. لم ارها قط على هذه الحالة، حاولت الاقتراب منها، ولكنها أوقفتني بحركة عنيفة من يدها، اعتراها ارتعاش افقدها توازنها، فاستنجدت بالكرسي لتتفادى السقوط. أمسكت رأسها بين يديها وهي تحاول التحكم في أنفاسها المتسارعة. نجحت في ذلك وبصوت هادئ لا علاقة له بالحالة الهستيرية التي كانت عليها ردت علي:
– سئمت هذه النقاشات التي لا تنتهي، وكأنها مناجاة ذاتية لا تهتم بالآخر ولا برأيه. المسألة بسيطة، فرصة عمل لاحت كبارقة أمل تنقذنا من جحيم البطالة، وتفسح المجال أمامنا لتحقيق بعض من أحلامنا، أنتركها تنفلت من بين أيدينا ؟
ترددت في الرد عليها، لا زلت تحت صدمة ردة فعلها، من يضمن لي أنها لن تعاود الكرة مرة أخرى وبطريقة أعنف. ثم إني لا أرى فائدة من نقاش يدور في حلقة مفرغة ومع ذلك أجبتها بصوت أقرب
للهمس:
– لست ضد العمل.. ولكني ضد من اقترحه عليك.
نظرت إلي بيأس وإشفاق وتمتمت:
– الظاهر أني فشلت في إخراجك من قوقعتك التي سجنت فيها نفسك على الرغم من محاولاتي المتعددة.. أتتق بي ؟
– طبعا
– إذن لا مشكلة، لا أحد سيجبرني على القيام بما يمس شرفي وأخلاقي، ثم دعك مما ترسخ في ذهنك من صور نمطية للمرأة، فلا اللباس ولا السلوك من يحدد قيمتها وصفاء سريرتها، إنس قوامة الرجل فالزمن قد تغير فمن لا يساير عصره ويطور فكره سيضمحل ….
– ولكن ….
لم تترك لي المجال لإتمام جملتي، استأذنتني للذهاب إلى الحمام، وتركتني أحملق في غباء في القهوة المراقة على الطاولة. أن أعيد النظر في قوامة الرجل، أن أعيش على راتب المرأة، سأصبح أضحوكة العائلة في المدينة، أما في البادية فستسير بفضيحتي الركبان ….هل لدي الشجاعة الكافية للوقوف في وجه كل هذه المحبطات للحفاظ على امرأة فتحت أمامي نافذة على عالم سحري مغاير لعالمي، جنبتني بمهارة سلبياته وفتحت عيني على إيجابياته، وهذبت ذوقي، وتحملت من أجلي نفس الإكراهات أو أكثر.
ممكن ….لست ضد العمل وقد أقبل بهذه الوضعية الهجينة، ولكن لن أقبل أبدا أن تعمل زوجتي مع شخص منحرف عديم الضمير.
خرجت من الحمام، سبقها عطرها، بيدها منديل تمسح به عينيها، الظاهر أنها ذرفت الدموع هناك.
سوت ما اختل من هندامها، ثم اتجهت نحو الباب دون أن تلتفت جهتي، وقبل أن تغلقه استدارت قائلة :
– إذا غيرت موقفك اتصل بي ….سأبدأ العمل الأسبوع القادم.
تعالى صوت خطواتها السريعة الحازمة وهي تنزل أدراج البيت، ثم عم المكان صمت قاتل. ما بيننا يحتضر، قاوم لسنوات عدة ووصل لمنتهاه، لا ذنب لها ولا لي، ولا لوم عليها ولا علي. الزواج في الظروف التي أنا فيها ضرب من الخيال، واستمرارها في التضحية ضرب من الجنون ليست ملاكا ولست شيطانا..هل سأتصل بها … ربما … ربما.

طنجة في 15- 05- 2020

ذات مساء
محمد العربي كرانة

رنين الهاتف أيقظني من قيلولة استعذبتها منذ أن اكتشفت أن النوم بلسم لهمومي وأحزاني.
أزحت ستائر النافذة، الشارع هادئ في هذا المساء الخريفي، ليس تماما، لغط وجدال منبعثان من المقهى المجاور لجمهور يتابع مقابلة رياضية، وصوت محرك سيارة يجاهد لابتلاع عقبة مستعصية.
على الأرض أوراق يابسة لأشجار عراها الخريف من لبوسها تتلاعب بها الرياح. وعلى أسطح العمارات تيجان ذهبية لشمس غاربة.
لست أدري كيف تغير موقفي من غروب الشمس، هكذا فجأة أصبحت أكرهه بعد أن كان سحره رفيق دربي على أنواره تراقصت أحلامي وأماني وأحزاني وعلى أدراجه انسكب الصبا والشباب. وبين أحضانه شربت كأس الهوى حتى الثمالة. أجهضت الأحلام واغتيلت الأماني ولم تبق غير أحزان استوطنت الذات وأعجبها المقام وما أرادت عنه بديلا. حتى الهوى سيشهد آخر فصوله وأشعة الغروب
تزف النهار لمرقده.
توقف الرنين، لم يكن رنينا عاديا، بل كان جزءا صغيرا من سمفوتية الفصول الأربعة لفيفالدي أصرت على أن تكون موسيقى لهاتفينا تمييزا لهما عن باقي الهواتف المليئة بالزعيق والساقط من الموسيقى. فقد كانت تؤمن بأن الهاتف امتداد لشخصية صاحبه وأن الرنات مفتاح لفهم هذه الشخصية ومن تم الحكم عليها. جاريتها في أمور كثيرة أقلها مسألة الرنات، فقد استحالت كثير من لقاءاتنا التي كنت أريدها رومانسية إلى محاضرات عن الأدب الكلاسيكي وخاصة الفرنسي منه، أو حديث عن المسرح أو الموسيقى، وعندما كنت أحد من اندفاعها تنظر إلي كطفلة حرمت من لعبتها المفضلة ممططة شفتيها ومحركة رجليها في عصبية ظاهرة.
كان لقاؤنا صدفة، في رحاب الجامعة، وكنا بصدد تنظيم وقفة احتجاجية فوقع تدافع دست من جرائه على قدمها، احتجت علي وأمسكت بأصبع قدمها المدمى وهي تتألم، اعتذرت لها متلعثما، قبلت اعتذاري بانحناءة من رأسها. تجاوزنا المحتجون وبقينا لوحدنا، اقترحت عليها أن أصطحبها إلى مصحة الجامعة لتضميد جرحها، قبلت، ثم اتكأت على ساعدي وانطلقنا صوب المصحة.
تلك كانت البداية لصداقة امتدت زمنا وتحولت تدريجيا لعلاقة عاطفية استمرت حتى بعد التخرج من الجامعة. الكل استغرب – خاصة من محيطها – لهذه العلاقة التي تجمع بين متناقضين فقد كانت تنتمي لأسرة عريقة متشبعة بالثقافة الغربية درس أغلب أبنائها بالمدارس الفرنسية وإن كان وضعها الاعتباري قد تضرر من توالي النكسات المالية إلى حد الإفلاس، ومع ذلك ظلت محافظة على نمط عيشها المستغرب الثائر على العادات والتقاليد. وربما ذلك ما اجتذبني نحوها مدفوعا بفضول لاستكشاف عالم غريب عني أنا سليل عائلة بدوية متواضعة، استوطنت المدينة منذ جيلين دون أن تتخلى على الرغم من تمدنها عن كثير من قيم البداوة الأقرب للفطرة الإنسانية البسيطة من صدق وأمانة وحرص على الكرامة، وفي الغالب كان هذا نفس منطلقها في الارتباط بي.
عالمان مختلفان بل متناقضان تعايشا لسنوات في انسجام تام، عندما أدركا معا أن هناك حدودا لا يجب تجاوزها وقناعات يجب أن تحترم على الأقل في حدودها الدنيا. طبعا كنا نختلف ولكن الاختلاف لم يفسد للود قضية…فقد كنت أتضايق من هوسها المفرط بكل ما هو فرنسي أدبا وسلوكا وطريقة لباس،
وكانت بالمقابل تتضايق من غيرتي المفرطة وفي بعض الأحيان من طريقة لباسي التي لا تنم عن ذوق
سببان أخلا بتوازن هذه العلاقة المبنية على توافقات ضمنية وعلنية، زميل دراسة، وبطالة سحقتنا
وكثيرا من خريحي الجامعة لعدم حاجة سوق الشغل لتخصصاتنا. فإذا كان السبب الثاني عاما ومنطقيا،
فإن الأول غير ذلك، فمنذ الوهلة الأولى شعرت بنفور من هذا الزميل بلغ حد الكراهية لتصرفاته الخرقاء وتبجحه بغناه، ثم إنه كان زير نساء لم تسلم من معاكسته جل فتيات دفعتنا بما فيهن رفيقتي التي شاركتني النفور منه بل التحامل عليه. اختفى من الجامعة منذ السنة الثانية، ليظهر في شكل مقتضب في رسالة نصية توصلت بها من رفيقتي تخبرني بأنه اقترح عليها عملا في شركته وبأنها مسرورة لأن بعضا من مشاكلنا ستحل بهذا العمل.
رنين ملحاح للهاتف أخرجني من شرودي، ابتعدت عن النافذة، لم يعد لسمفونية فيفالدي نفس الوقع على نفسي، لم أسألها أبدا من أي الفصول الأربعة اقتبست هذا المقطع البسيط، لكي لا تتهمني بالجهل
وتضطرني لسماع مجمل الفصول. أخرست الرنين بيد مرتعشة، وكتبت رسالة نصية مقتضبة معلنا قدومي للموعد المنتظر.
ارتديت معطفي، ونزلت، تجاهلت تحية البواب الذي بدا مندهشا من تصرفي، ووقفت بباب العمارة. هزم الظلام نور المغيب ما عدا احمرارا شاحبا في الأفق الغربي، لا زالت الريح تراقص أوراق الأشجار الميتة تحت ضوء مصابيح الشارع التي أضيئت، أخذت نفسا عميقا ثم انطلقت.
سلوى…رفعت رأسها وابتسمت باقتضاب، ثم أزالت إبريق القهوة عن الموقد الذي لم يكن موقدا.
نفس العينين، نفس البريق الساخر وإن كان اليوم أقل لمعانا وسحنة شاحبة متوترة. كانت جالسة أمامي وقد عقدت العزم – إن لم يكن هناك توافق واتفاق – على أن تكون هذه الجلسة مسك الختام لعلاقة دامت
أكثر مما ينبغي لها. حاولت جاهدة أن تبدو عادية، مرحة، خانتها رفرفة أجفانها المتكررة ونظراتها الحيرى لنقطة وهمية ورائي.
استسلمت، غاضت ابتسامتها وعلت حمرة خفيفة وجنتيها وهي تسألني :
– أفكرت في الموضوع الذي حدثتك عنه ؟
تجاهلت سؤالها، أشعلت سيجارة ورشفت من الكأس الموضوعة أمامي، مذاق مر لقهوة باردة برودة هذا اللقاء، ثم اكتفيت بالنظر إلى وجهها، كان جميلا حتى وهو شاحب مقطب. لذة كبيرة أشعر بها وأنا أرى ترددها وحيرتها، ليس في اتخاذ موقف مني، فذاك أمر قد حسم مسبقا، ولكن في كيفية تبليغي بقرارها دون المساس بكرامتي ورجولتي. سألتها بدوري :
– وهل قبلت عرضه ؟
– وهل لدي خيار آخر ؟ فرصة عمل لاحت بعد لأي فاهتبلتها، أربع سنوات من البطالة كانت كافية لأن أقبل بأي عمل. المهم أن يكون شريفا. ثم إن الراتب لا بأس به.
– المشكل ليس في العمل ولا في الراتب، ولكن في الذي عرضه عليك.
– زميل دراسة ما العيب في ذلك ؟
قاطعتها قبل أن تتم جملتها وألقيت عليها سؤالا ظل يحيرني :
– كيف تم إتصالك به ؟
– صدفة، في الشارع، سمعت من يناديني باسمي فاستدرت لأجده أمامي، حياني بحرارة ثم سألني عن أوضاعنا، فأخبرته بأننا لا زلنا نبحث عن عمل، ومن تم اقترح علي العمل في شركته لأنه في حاجة لمن يتقن اللغتين الفرنسية والإنجليزية للتواصل مع زبنائه الأجانب.
قدرة الإنسان على التكيف لا حدود لها، وانسداد الآفاق يحيل السواد بياضا. بالأمس القريب كانت لا تطيق النظر إليه، واليوم أصبح زميلا وربما رئيسا. لو حاججتها الآن لاتهمتني بالجمود والرجعية.
الأحمق في نظرها من يسبح ضد التيار، وأنا مرشح لأن أكونه.
نظرة نفعية بسيطة تستمد مشروعيتها من مجتمع قوضت قيمه المتناقضات، كل شيء فيه نسبي حتى الانتماء إليه مسألة فيها نظر. ما ينغص عليها فرحتها معرفتها المسبقة بموقفي الرافض للتعامل مع
هذه النماذج البشرية، ولكنها في أعماقها اقتنعت بأن موقفي لا يلزمها في شيء، وبأن لها حياة خاصة عليها أن تخطط لها بعيدا عن هلوستي ومثاليتي المفرطة.
أزاحت خصلة من الشعر عن جبينها، ونظرت إلى نفس النقطة الوهمية خلفي وفي عينيها استعطاف ورجاء، منتظرة ردي، ولما تأكدت أنه لن يأتي أردفت :
– سأبدأ الأسبوع المقبل.
حسم الأمر إذن، تخميني كان صائبا، لم يكن هذا اللقاء فرصة لمناقشة العرض كما ظننت، ولكن لوضعي أمام الأمر الواقع، لم أثر في وجهها، الأمر أكبر من الغضب والانفعال خاصة وأني بدأت أشعر بأن موقفي الذي لن أحيد عنه غير سوي تماما ولكن لدي ما يبرره، أجبتها باقتضاب:
– حسنا..
فاجأها جوابي ورفعت نحوي بصرها وقد انفرجت أساريرها وعلت شفتيها ابتسامة جنينية:
– حسنا، هكذا مجردة بدون تهنئة، ألا يهمك مستقبلي، عفوا مستقبلنا؟.
– مستقبلنا ؟
– طبعا، يمكن أن نتزوج الآن في انتظار أن تجد عملا.
– امرأة عاملة ورجل عاطل، زواج غير متكافئ سيجر عليك القيل والقال، الدنيا أخذ وعطاء
فماذا سأعطيك؟
– لماذا تبعد نفسك عني؟ ما بيننا أكبر من هذه التفاهات.
– ليست تفاهات.. نحن نعيش في مجتمع له ضوابط وأعراف، وحماس اللحظة غير دائم، وثورة الفرد مآلها الخسران، ثم إن الزواج ليس مغامرة أو تحديا.
– ألسنا أحرارا في اتخاذ ما نراه مناسبا وصالحا لحياتنا، فليذهب الآخرون إلى الجحيم.
– الآخرون هم الجحيم، والحرية أكذوبة اخترعها الإنسان وصدقها، كل ما نقوم به خاضع لمراقبة الذات والآخر وإلا لما كان هناك خير وشر، صالح وطالح..
هبت واقفة والشرر ينبعث من عينيها، وضربت الطاولة بقبضة يدها، تطاير الكأسان واندلق محتواهما ونالت ثيابي نصيبا منه. لم ارها قط على هذه الحالة، حاولت الاقتراب منها، ولكنها أوقفتني بحركة عنيفة من يدها، اعتراها ارتعاش افقدها توازنها، فاستنجدت بالكرسي لتتفادى السقوط. أمسكت رأسها بين يديها وهي تحاول التحكم في أنفاسها المتسارعة. نجحت في ذلك وبصوت هادئ لا علاقة له بالحالة الهستيرية التي كانت عليها ردت علي:
– سئمت هذه النقاشات التي لا تنتهي، وكأنها مناجاة ذاتية لا تهتم بالآخر ولا برأيه. المسألة بسيطة، فرصة عمل لاحت كبارقة أمل تنقذنا من جحيم البطالة، وتفسح المجال أمامنا لتحقيق بعض من أحلامنا، أنتركها تنفلت من بين أيدينا ؟
ترددت في الرد عليها، لا زلت تحت صدمة ردة فعلها، من يضمن لي أنها لن تعاود الكرة مرة أخرى وبطريقة أعنف. ثم إني لا أرى فائدة من نقاش يدور في حلقة مفرغة ومع ذلك أجبتها بصوت أقرب
للهمس:
– لست ضد العمل.. ولكني ضد من اقترحه عليك.
نظرت إلي بيأس وإشفاق وتمتمت:
– الظاهر أني فشلت في إخراجك من قوقعتك التي سجنت فيها نفسك على الرغم من محاولاتي المتعددة.. أتتق بي ؟
– طبعا
– إذن لا مشكلة، لا أحد سيجبرني على القيام بما يمس شرفي وأخلاقي، ثم دعك مما ترسخ في ذهنك من صور نمطية للمرأة، فلا اللباس ولا السلوك من يحدد قيمتها وصفاء سريرتها، إنس قوامة الرجل فالزمن قد تغير فمن لا يساير عصره ويطور فكره سيضمحل ….
– ولكن ….
لم تترك لي المجال لإتمام جملتي، استأذنتني للذهاب إلى الحمام، وتركتني أحملق في غباء في القهوة المراقة على الطاولة. أن أعيد النظر في قوامة الرجل، أن أعيش على راتب المرأة، سأصبح أضحوكة العائلة في المدينة، أما في البادية فستسير بفضيحتي الركبان ….هل لدي الشجاعة الكافية للوقوف في وجه كل هذه المحبطات للحفاظ على امرأة فتحت أمامي نافذة على عالم سحري مغاير لعالمي، جنبتني بمهارة سلبياته وفتحت عيني على إيجابياته، وهذبت ذوقي، وتحملت من أجلي نفس الإكراهات أو أكثر.
ممكن ….لست ضد العمل وقد أقبل بهذه الوضعية الهجينة، ولكن لن أقبل أبدا أن تعمل زوجتي مع شخص منحرف عديم الضمير.
خرجت من الحمام، سبقها عطرها، بيدها منديل تمسح به عينيها، الظاهر أنها ذرفت الدموع هناك.
سوت ما اختل من هندامها، ثم اتجهت نحو الباب دون أن تلتفت جهتي، وقبل أن تغلقه استدارت قائلة :
– إذا غيرت موقفك اتصل بي ….سأبدأ العمل الأسبوع القادم.
تعالى صوت خطواتها السريعة الحازمة وهي تنزل أدراج البيت، ثم عم المكان صمت قاتل. ما بيننا يحتضر، قاوم لسنوات عدة ووصل لمنتهاه، لا ذنب لها ولا لي، ولا لوم عليها ولا علي. الزواج في الظروف التي أنا فيها ضرب من الخيال، واستمرارها في التضحية ضرب من الجنون ليست ملاكا ولست شيطانا..هل سأتصل بها … ربما … ربما.

..

طنجة في 15- 05- 2020

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون