دنيا ذات.. من الوجود في ذات إلى الكينونة في علاقة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 65
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. وائل فاروق

أعرف مي، أعرف وليد، وأعرف شهاب. أعرف تجربة الفقد التي يسردها هذا النص، لا شيء في النص خيالي، لا مكان فيه لتخييل يفضي لتأويل يموه فداحة تجربة أم ماتت طفلتها في رحمها فكانت ولادتها انتقالًا من قبر إلى قبر، كان يمكن للنص أن يظل أسير هذه التجربة، مجرد جسد من كلمات شجية، مؤلمة، عذبة، مؤثرة، مجرد كتابة تفرض علينا كقراء ألا نتخطى عتبة التعاطف، ألا نتجاوز النص ممارسين ألاعيب التأويل ساعين إلى تشكيل معنى يخصنا نحن، معنى ننتزعه انتزاعا من فضاءات الأبيض والأزرق ومراوغات الموت والحياة. كل هذا كان ممكنا لولا أن مي اختارت أن تسمي ” نصها” رواية، وأن تسمي الرواية “دنيا زاد”.

لم يكن التصنيف ضرورة فقد نُـشرت الرواية في نهاية التسعينيات – 1997- حيث سيطرت رؤية تعتبر التصنيف تضييقا لآفاق النص، وحيث استقرت قناعة بسقوط نظرية الأنواع الأدبية وانتشرت مصطلحات مثل السرد الشعري، الكتابة عبر النوعية، والقصة القصيدة، وهي مصطلحات تتناسب كثيرا مع طبيعة هذا النص الذي يسيطر عليه ضمير المتكلم مما يضفي عليه غنائية شعرية يعزز حضورها اللغة الشجية التي كتب بها، والمشاهد البصرية الرهيفة التي تترى بإيقاع منتظم يراوح بين الامتلاك والفقد، بين الحضور والغياب، بين الموت والحياة، منها مثلا مشهد اختلاط الماء المتساقط من الملابس المزهرة لطفل لم يتعد عامه الأول – بكل ما يحمله الماء من دلالات الحياة- بالأتربة المتراكمة على سياج شرفتها – بكل ما يحمله تراكم الأتربة من دلالات الخراب والغياب-  تنفر الأم، التي بدأت في رحمها تتفتح حياة جديدة، من رائحة الطين العطنة وتدعو سيدة نعرفها بأمومتها وبثدييها الضخمين “أم هاني” لمسحه، ويتكرر نفس المشهد  كل يوم اثنين – يوم وفاة طفلتها في رحمها – وكأنها تمارس طقسا لصد الموت وطرد الغياب.

رغم احتشاد كثير من مظاهر الشعرية اختارت مي أن يحمل نصها راية الـ fiction ، وأن تكون “دنيا زاد” واحدة من شخصيات هذا العالم الذي لا يعرف الموت، ولا يشترط على أبنائه أن يُوجَدوا ليكونوا، عالم يعرف جيدا الفصل بين الوجود والكينونة.

عادة ما يخلط الفلاسفة بين الوجود والكينونة، تتداخل دلالات المصطلحين حتى يتعامل معهما كثيرون وكأنهما مترادفان، لكن الأدباء أدركوا منذ بداية الدراما اليونانية القديمة ذلك البون الشاسع بين عالم الوجود وعالم الكينونة، ربما لأن الفيلسوف لا يعير انتباهه للأشياء العابرة والمؤقتة لأنه يدرك أنها فانية. أما الكاتب فلأنه يدرك أن الأشياء فانية، يشعر بوطأة ذلك الفناء المحتمل، وهذا ما يجعله يتشبث بها ويبكيها قبل أن تفنى، يبكيها لأنه يمتلكها، لأنه في امتلاكه لتلك الأشياء يجرب الشعور بفقدانها. لا يتوقف الكاتب عند حدود الأشياء المتعينة في الواقع أو في الخيال، إنه يتجاوز ذلك إلى ما هو أبعد، يتساءل مثلا بماذا يمكن أن نصف الأشياء التي لم توجد بعد ؟ أو التي توقفت عن الوجود “طفل لم يولد” أو شخص مات؟! هكذا تتسع الكينونة لما لا يتسع له الخيال، فـــــ “الكينونة هي ما يمكن أن يوجد”(1)  و”الكينونة هي صفة عامة لكل شيء ومجرد ذكر الشيء هو ظهور لكينونته، أما الوجود على العكس هو “امتياز” قاصر على بعض الكينونات” (2) “الكينونة يمكن تصورها بمعزل عن الوجود الواقعي على حين أن الوجود الواقعي لا يمكن تصورة بمعزل عن الكينونة”(3)  فإذا طرح سؤال: “هل هناك كائنات لا وجود لها؟ فالإجابة هي نعم” (4) فـ ” الكينونة تمتد إلى ما وراء الوجود الواقعي الدنيوي” (5)

منذ السطر الأول في الرواية تكشف مي عن وعيها بتلك المسافة بين الوجود والكينونة، فـ “دنيا زاد” لم تأت إلى الدنيا وإنما إلى الغرفة 401، جاءت لتحييها للمرة الأولى، وتودعها للمرة الأخيرة في نفس اللحظة، ملتفة في الأبيض لون الولادة ولون الكفن، فـ “الحياة امتنعت”، والزمن تجمد والعالم انحسر فلا متسع فيه لاستقبالها، لا وجود للحياة خارج الزمان والمكان، لكن في الكتابة براح لمن ضاق الوجود فلم يقبله.

  تؤكد مي على هذا في شهادة لها في مؤتمر ميلانو “شهر زاد خارج القصر” الذي انعقد هذا العام، فهي ترى نفسها ذاتا تتشكل من حروف ليست فراغات تجاويفها إلا انفتاحا على العالم، وتؤكد أن تاريخ الإنسان هو تاريخ قراءته. لم يكن قرار ” التصنيف” إذن اعتباطيا، كان قرارا بمنح الكينونة لمن لم يوجد، كان ولادة ثانية، ودخولا جديدا إلى عالم لا يتهدده الموت.

الطفلة التي ولدت ميتة لم يكن لها اسم، لم يسجل لها اسم في الأوراق الرسمية، كان على مي أن تكتب فقط لتمنحها اسما، فالأسماء هي التي تصنع كينونتنا، يقول الروائي الإيطالي فابيو ستاسّي في روايته ” لكل صدفة روح”: “لمَ يشعرُ أيُّ كائن حي – أبدا- بضرورة أن يسمي كل شيء، هل هناك شيء أكثر إبهارا من اختراع الأبجدية؟! إنه فعل سحري إذا وضعنا في اعتبارنا السلطة التي نؤكدها للكلمات، إنها الكلمات، هي التي خلقت العالم وليس العكس، يمكنك -إذا أردت- أن تقرأ سفر تكوينك – أسطورة خلق ذاتك- بوصفها ميلادا لقاموس.” (6)  لا يمكن أن “يولد” قاموس يحرر الذات من الميلاد والموت معا، إذا اكتفى المرء إزاء ما يشهده ويعانيه، بالمرور بالخبرة ما وليس حيازتها، وليس من طريق لحيازة الخبرة إلا الحكاية التي في الطريق إليها لا تقبل مي بالتنازل عن أي شيء. لا أحد سيقنعها بالتنازل، لا أحد سيواسيها لمرور الأيام، ولا أحد سيحثها على قبول التحول الرمادي للعيون المحبوبة، وقبول فناء الشبح المحبوب في ضباب الزمان. لا شيء سيقنعها ولا أحد، حتى تلك الحياة الجديدة التي تتخلق في رحمها، ذلك الميلاد المنتظر، ستظل مي تجاهد كيلا تنسى و” تسمي الأشياء من جديد كل حين”، لن تتوقف عن الحكي، ستظل ماضية في طريقها السري بين ” فتحة الحلق وفتحة الرحم”، ذلك الطريق الذي ” صنعته ليشق بطني ويخترق عقبات الجسد ويمد خيوطا بين إحساسي بالموت وبين كوني امرأة تلد”. 

بين بوابتي الميلاد ” فتحة الحلق وفتحة الرحم” انمحت ذكرى دنيا زاد، تكرر رحيلها، لكن ذلك الطريق السري صار مجري تلتقي فيه أنهار الحكي الصغيرة، فقد قامت مي بإقامة التباس بالغ الرهافة في بناء الرواية، حيث يتحرك السرد من فقرة إلى فقرة، ومن فصل إلى فصل منسابا بضمير متكلمٍ لا يمكننا أن نميز هوية صاحبه إلا بالعودة إلى ضمير غائب، حيث حرصت مي على تداخل الأصوات، صوتها، صوت زوجها، صوت صديقتها، دون أي إشارة لهوية المتكلم إلا ما نصادفه في كلامه من ضمائر تشير إلى الآخرين، وهي ضمائر الغائب. وهو ما يتناغم مع القوة المحركة للنص والمنبع الرئيس لحضور كل الشخصيات فيه وهو غياب “دنيا زاد”، وينسجم بشكل أكثر استثنائية مع طبيعة عالم الكينونة حيث لا يتولد الحضور فيه إلا عن غياب.

تقول مي “أكتب “دنيا زاد” وأستعين على حروفها بالنسيان” وتقول أيضا ” أكتب لأوجد، أكتب لأعيش، أكتب لإبداع معنى جديد”.

الكتابة عند مي ليست شيئًا مفاهيميًا متعلقًا بالفكر، بل هي شيء معقد للغاية، شيء واقعي، شيء شبحي تتوق إليه، شيء تتخيله، شيء لم يعد موجودًا، شيء لن يأتِ. إنها تريد الواقع، وواقع الكتابة ليس الواقع الموجود فحسب، بل هو أيضًا الواقع غير الموجود، إنه واقع يضم الوجود وعدم الوجود في حالة مبهرة من العدالة الشعرية، حيث أن كل شيء – كل شيء على الإطلاق – يستحق أن يكون، حتى تلك الأشياء التي لم تتمكن بعد من الوجود.

……………….

  الهوامش

  • Christian WOLFF, Philosophia prima sive Ontologia (1730) – (First philosophy, or Ontology), cited in John N. FINDLAY, Kant and the transcendental object. A hermeneutic study, Oxford, Clarendon Press, 1981.
  • Bertrand RUSSELL, The Principles of Mathematics, 2nd ed., W. W. Norton Company, New York, 1937.
  • Étienne GILSON, Being and Some Philosophers, Second ed., Pontifical Institute of Mediaeval Studies, Toronto, 1952, pp. 2-3.
  • Terence PARSONS, Are there nonexistent objects?, American Philosophical Qaurterly, Vol. 19, No. 4, October 1982.
  • Daniel NOVOTNÝ and Lukáš NOVÁK, Neo-Aristotelian Perspectives in Metaphysics, Routledge, London/NewYork, 2014.
  • Fabio stasis, ogni coincedenza ha un anima

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم