خلف النهاية بقليل.. قصص قصيرة كقصيدة نثر

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 83
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

رشاد أبوشاور

قصص قصيرة جدّا للقاص المصري وحيد الطويلة، كتبت في المقاهي، عن محبطين تائهين مهمشين بلا أسماء.. تضم هذه المجموعة القصصية 32 قصة قصيرة جدا، مكثفة، مركزة، مشحونة، لا تقول الحكاية مباشرة، ولكنها توحي بها بنصف جملة في الحوار، أو بالإشارة في السرد، والقارئ اللبيب من الإشارة يفهم.

القاص وحيد الطويلة كاتب مصري مقل، له هذه المجموعة القصصية، ورواية واحدة.. التقيته في تونس العاصمة، في المقهي، وفي لحظات اندمجنا في الحديث، وكأننا أصدقاء قدامي، وكنت قرأت له بعض قصصه.. كل قصص مجموعته الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، بعنوان (خلف النهاية بقليل) كتبت في المقاهي، في الأعوام 94، 95، 96، 97.. يعني علي قصرها وتواضع حجومها فقد أخذت كل هذا الوقت الطويل!. في قصة  (كوكتيل)، وبعد أن تيأس الحبيبة القديمة التي خطبت لشخص يبدو أنها لا ترغب في الاقتران به لحبّها لزميلها الجامعي العازف عن الزواج، والذي تلتقي به في المقهي، والمقهي يلجأ إليه المستوحشون الوحيدون، الهاربون من حبس الأمكنة الأسرية، أو الذين يرغبون في (الوحدة) داخل الأمكنة المكتظة والضاجة، بحيث يكونون مع الناس و.. لوحدهم!. موحية برغبتها في الزواج منه، ومحتجة علي نفوره من الزواج وتحمّل المسؤوليّة، تحكم عليه بجملة موحية :

– أخالك لن تكتب أبدا رواية، سوف تكتب دائما قصصا قصيرة…

هذا هو مخلوق المقاهي غير المستقر، القلق، الملول، ضيق الصدر، غير المعني بالانخراط في حكايات حب معقدة طويلة فياضة بالدموع والتنهدات والعواطف الجياشة.

قصص (خلف النهاية بقليل) كتبت في المقهي المستنسخ، والثابت من حيث الجوهر رغم التعدد، والتوزع بين إسكندرية والقاهرة.. هي قصص بلا بطولة، ولا حكايات كبيرة، شخوصها قلقون، أحدهم يصف نفسه مستعيرا بعض قلق جده ( المتنبي) الذي ترك لنا قولاً لا ينسي:

علي قلق كأن الريح تحتي

مع إسقاطنا لادعائه في عجز البيت:

أسيرها يمينا أو شمالا

قصة (أظافر) وهي بالكاد مئة كلمة تبدأ: العربات علي قلق، والريح تحتي… كلمات قليلة عن سرعة إيقاع الحياة لناس المدينة، ولامبالاتهم ببعضهم، وتفاصيل اللحظات الطائشة…

غالبا في هذه القصص التي بحجم الكف توجد حكاية ثاوية، تأخذك إليها كلمات قليلة… الجمل أنصاف جمل، كلمات قليلة، أو كلمة، يرميها القاص علي الورق ربما بشيء من ملل مخلوقات المقاهي، وربما لاجتذاب القارئ وعدم تشتيت انتباهه، واستدراجه بشيء من الألفة، وهذا أسلوب ناس المقاهي الحكائين بخاصة الذين يطلقون عباراتهم المبتسرة في علاقاتهم اليومية، بعدم رغبة في الاطناب، لكسب الوقت في الوقت المتطاول في المقهي والذي يختصر، أو يعمل علي احتماله بالصمت، بالغرق في النفس، بالثرثرة، بفرقعة الضحكات ثم بالتأوهات، فناس المقاهي ليسوا جميعهم متقاعدين، بل متلهفين علي الحياة محرومين من أفراحها ومباهجها كمخلوق قصص (خلف النهاية بقليل) المتكرّر، الذي يتحدث عن المدينة الصاخبة القاهرة بنتف من جمل: طلعت حرب، الميدان والتمثال.

بائع الكتب في الزاوية يبيع الكتب والكتاب. الجندي مشغول بدفتر المخالفات لسائقي التاكسي فقط، يكتب نصف الرقم ويكمل الباقي من عنده، والجندي الآخر يبتلع ذيل شهقته مما يراه في السيارات الفارهة..

جمل غير مكتملة، لا مبتدأ ولا خبر، لا فعل ولا فاعل ولا توابع تعطي الجمل اكتمالا وتتمات..

هذه كتابة بكلمات لاهثة حانقة محتجة ناقدة ساخطة لشخص متعدد متشابه نفسيا في مدينة طاحنة، يراقب، ينوب عن المخلوقات التي يراقبها لأنها مثله فقيرة، مهمشة، ضائعة. من القصص نعرف أنه – لا بطل القصص – أنهي دراسته الجامعية، ولطول جلوسه في المقاهي نعرف أنه بلا عمل، بلا زوجة، بلا أسرة، في مدينة تطحن الحياة فيها الناس بفروقات كافرة مكفرة :الجندي الآخر يبتلع ذيل شهقته مّما يراه في السيارات الفارهة..! ماذا يري الشرطي المسكين زميل الشرطي الذي يخالف السيارات التاكسي، يعني سيارات الخدمة العامة.. ماذا يري في السيارات الفارهة سوي أناس فارهين؟ ياااااه أهؤلاء ونحن أولاد بلد واحد يا عالم!

تقول القصة قليلاً، وتترك القارئ ليقول الكثير، ليكمل، بل وحتي ليعيد صياغة الجمل، ملء الفراغات، وليشتم هكذا حياة إلي ما لا نهاية!.

القصة القصيرة جدا لعبة خطرة جدا، فهي يا تصيب يا تخيب. والقصة القصيرة في الأساس هي قصيرة وجدا، لأنها بنت لحظة، حدث مفصلي، لحظة صدمة وتحول، فما الفرق إذا بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا؟ هذه المجموعة القصصية هي قصص قصيرة جدا، وفيها قصص، علي نقيض ما يكتبه بعض كتّاب هذه الأيّام، حيث يكتبون طرفا، نكتا، نهفات، مفارقات سريعة ليس فيها حكاية، ولا بشر، ولا حدث ولا عمق… في قصص وحيد الطويلة شفافيّة، لمسات رقيقة للروح: ناصية التقاطع لشارعين كبيرين، لا يشتهران بشيء بعد الزحام بغير الضوضاء. وظهيرة دائمة من فرط السخونة. كانا كمن يبعدان جلبة الشارع والعمر عن نفسيهما. استراحا قليلاً، في الستين.. لا، في منتصف العقد الذي يليه. تقاطيع وجهيهما وأيديهما تتشابه. كانت جدتي تقول بأن المتزوجين يتشابهون بعد فترة. مدّت يدها كي تحمل القفّة، كانت يده أسبق. بدوا كما لو أنهما يتشاجران في حنان، يتعاتبان في صراخ، كل يريد أن يحمل عن الآخر وزر الشيلة الثقيلة. (تقاطع ص57).

القصّة لم تنته. هي قصّة في أقّل من صفحتين صغيرتين. فيها حنان، ورقّة، وشجن، وحكاية بين شخصين وحيدين، عاشا معا وما زالا يحب واحدهما الآخر رغم ثقل الحياة، والعمر، والغربة في المدينة، يتعرضّان للمساعدة و.. السرقة في المدينة التي بلا قلب، وهذا ما تقوله القصّة ببراعة!.

يعني القصّة فيها قصّة، وهذا شرط راسخ، أساس، في فن القصّة القصيرة، وإلاّ لماذا هي قصّة؟! الحداثة لا تعني أن لا قصّة في القصّة… قصص المجموعة مقتضبة الوصف، فلا إطناب، والوصف غالبا ممتع، ويقدّم الشخصيّة ويعرفنا بها بحيث نألفها:. وعمتي حفصة ليست كعمتي فرحانة، سوي أنهما تشتركان في مجموعة لا غني عنها من تضاريس اللحم المربرب… لهكذا مدخل طريف يشد القاص انتباه القارئ، فالمدخل الفكه المرح يوحي بالخالتين، وبشيء ما مفاجئ سيأتي، بعد أن نعرف أن الخالتين تشتركان في كراهية زكيّة أم طلبة العجفاء الجسد، وما بينهن من كيد، ومقالب، وحياتهن التي تغرق في الخرافات… ( خلاصة كبد النمل ص61).

يكتب وحيد الطويلة بعض قصصه كما قصيدة النثر: أرخت جدائلها باتجاه النيل. غيمات الخريف تتدحرج علي نفس المقعد الخشبي الذي تركه صاحبه للهو الريح… أرسلت بصرها لياسمينة تتفتّق من تويجاتها، تزن كلامها بميزان الحكمة المجروح، بعدما وزنت أيامها معه بميزان الهوي. تابعت تسلّق اللبلاب علي جذع شجرة الصفصاف بجانبها، وسقطت علي صفحة النيل (هجر 19).

هذه قصة حب فاشلة، الفتاة أعطت ولم تأخذ، والهجر خيانة وغدر، فتاة ليس لها سوي الحسرة والوحدة والندم، وهي في لحظة قرار، والقرار تمزيق الصور، صور أيام الحّب، ومياه النيل تبتلع المزق، والعبارة المتفائلة رغم الحزن: شاهدت الماضي يتدحرج مع الأمواج التي طفقت تتأرجح علي طرح النهر، وعيناها تبتسمان لمولد الياسمين. نهاية متفائلة، هي دعوة لإدارة الظهر للفشل، فبراعم الياسمين تتفتّح، تبهج العين والقلب، وهي تتفتّح بعد موات!

أكتب عن قصص وحيد الطويلة، وكم أتمنّي عليه أن يأخذ الكتابة القصصية بجد، فهو موهوب، وإذا كان الجلوس في المقاهي قد منحنا هذه القصص التي هي بأكثريتها ذات قيمة، فإن المقهي علي ضرورته للإنسان، أي إنسان وليس الكتّاب والفنانين وحدهم، لا يمنح الفرصة لكتابة روايات، وقصص بحجم كفين لا كّف واحدة!

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم