حوار نادر بين صاحبي «نوبل الرواية» و«نوبل الكلام» : نجيب محفوظ علي «مصطبة» محمود السعدني

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عاصم حنفي *

منذ 16 سنة بالضبط بدأت رحلة السعدني مع المرض.. عندما نصحه الأطباء بضرورة التوقف نهائيا عن هوايته الشهيرة بأكل الطواجن والمسبك والمحمر والمشوي.. والاكتفاء بعينات من شوربة الخضار.. ولا مانع من شوربة الفراخ أحيانا.. ولعل هذا هو السبب الحقيقي وراء زعل السعدني من الأطباء والدكاترة الذين باعوه في آخر الزمن..! وذات يوم من شهر فبراير .1994 اتصل الكاتب الكبير نجيب محفوظ بالولد الشقي تليفونيا.. يسأل عن الصحة ويهنئ بشهر رمضان الذي دق الأبواب بالفعل.. وبعد السؤال عن الصحة والأحوال اشتكي السعدني لصديقه الكبير من الضغط والسكر والمعدة والأطباء والزمان.. وكابن بلد حقيقي.. قرر نجيب محفوظ زيارة صديقه السعدني في مصطبته الشهيرة بالجيزة.. وعلي اعتبار أن صداقتهما بدأت في المصطبة.. وتحديدا علي قهوة عبدالله الشهيرة بالجيزة.. حيث جمعتهما صحبة شلة القهوة.. مع زكريا الحجاوي وأنور المعداوي وسمير سرحان وأحمد طوغان ويوسف الشريف وسيد قطب والمعلم رضا وغيرهم من الأدباء والفنانين.

اشترط نجيب محفوظ لإتمام الزيارة شرطين محددين لا تنازل عنهما.. ألا يتكلم السعدني أبداً.. لأن نجيب محفوظ ينوي الكلام وحده باعتباره من فطاحل الكلام.. والشرط الثاني أن يسمح له السعدني بالرحيل والإقلاع والمغادرة بعد ساعة أو ساعتين.. لأن صحته لا تحتمل السهر.

ولأن الموقعة من المواقع المهمة.. وهي حدث جبار أن محمود السعدني سوف يجلس صامتا كما اشترط عليه نجيب محفوظ.. فقد تطلب الأمر الاستعانة بمراقبين من القوات الدولية.. ومجموعة محترمة من محترفي الاستماع من المريدين والأصدقاء.. لتسجيل اللقاء التاريخي الذي لا يتكلم فيه السعدني.. فحضر الدكتور مصطفي الفقي.. والمستشار عبدالمجيد محمود النائب العام «الآن» ونقيب الصحفيين مكرم محمد أحمد.. والوزير الأسبق علي والي.. ومساعد وزير الداخلية فؤاد علام والرسام طوغان.. والحرفوش اللامع المخرج توفيق صالح.. وحضرت أنا وزميلي الصديق محمد هاني علي اعتبار أننا سوف نسجل الحدث التاريخي الذي شهدته مصطبة السعدني في بيت الحاج إبراهيم نافع عمدة الجيزة علي سن ورمح.. . لتنقل عنها باقي الجرائد والمجلات. ومن الواضح أن الأديب العالمي نجيب محفوظ قد وقع في الفخ المنصوب بعناية.. وذهب برجليه إلي عرين الأسد.. وإذا كان نجيب محفوظ قد نال جائزة نوبل للآداب.. فإن السعدني هو الحائز بجدارة علي جائزة نوبل في الكلام.. وبإجماع الآراء وبالضربة القاضية!!

وفي تمام السابعة والنصف من مساء الثلاثاء الموافق 18 فبراير عام .1994 وبعد الإفطار الرمضاني مباشرة.. حبس الجميع أنفاسهم.. فقد بدأت المباراة رسميا.. عندما دخل الأديب العالمي إلي المندرة.. وبصحبته يوسف القعيد وجمال الغيطاني كشاهدين علي الحدث.

ونقر ونعترف أننا كنا نتصور أن زيارة الأديب الكبير سوف تسبقها الموتوسيكلات والرايات والأعلام وحرس الشرف.. علي اعتبار أن نجيب محفوظ علم حقيقي من أعلام مصر والعرب.. لكن المفاجأة أن نجيب محفوظ قد دخل وحده كأي زائر عادي!

وسأله السعدني: أُمال فين السكرتارية؟

فرد نجيب محفوظ: ليس عندي سكرتارية أو سيارة أو مرافق..! السعدني: أمال مين بيقرأ لك؟

محفوظ: مفيش.. أحيانا بعض الهواة والمتطوعين.. أصل الحكاية صعبة.. سمعي ضعيف.. ونظري ضعيف.. وحركتي ضعيفة.. والمهمة صعبة جداً.

السعدني: ومن ينظم لك الزيارات والاستقبالات.. مفيش سكرتير لك في الأهرام؟!

محفوظ: والله أحياناً يساعدني الناقد الصديق فتحي العشري.. بيشتغل متطوع.. لكن ماليش سكرتير.. لأني مش موظف رسمي في الأهرام..!!

السعدني: أنت موظف كبير في مصر بدرجة هرم أكبر..!

ويبدو أن الفأر قد لعب في صدر محمود السعدني.. وبخبرته العريقة في فنون الكلام.. أدرك مبكرا أن نجيب محفوظ سوف يواجهه بخطة كلامية من النوع المباغت لسحب البساط من تحت قدميه.. بادعاء الإجهاد وضعف السمع والبصر.. حتي يضطر الضيوف إلي هجر أماكنهم بجوار الولد الشقي.. والالتفاف والتعاطف مع الأديب العالمي.

لكن الولد الشقي واجه الأسلوب المتطور بأسلوب مضاد.. حيث رفع صوته عاليا.. حتي يتمكن نجيب محفوظ من سماعه جيداً.

السعدني: أول مرة أشوف عمنا نجيب محفوظ.. كانت بعد أن قرأت له رواية تاريخية اسمها «رادوبيس».. لم تعجبني كثيرا.. لكن بعد أن قرأت «زقاق المدق» حصل لي جنون وانبهار بهذا الرجل الذي يعرف الحارة المصرية جيداً.. وخطفت الرواية من صاحبها.. وكان «واحد تخين قوي.. اسمه صلاح جاهين.. بصراحة استخسرت الرواية فيه». قلت مايصحش تبقي عنده الرواية العظيمة دي.. وبعدها لما قابلت نجيب محفوظ في قهوة عبدالله بالجيزة في أواخر الأربعينيات.. أحببته جداً.. واحترمته خالص.. وبقينا أصحاب.

السعدني: بتشوف تليفزيون ياعم نجيب؟

محفوظ: لا.. الحمد لله.. أنا لا أسمع ولا بأشوف.. لا بالعربي ولا بالأفرنجي.. الحمد لله.. دي نعمة برضه..!

السعدني: مسرحية عادل إمام.. ماشفتهاش؟!

محفوظ: اسألني عن حاجة أعرفها.. زي سوفوكليس

السعدني: والأديبة نادين.. بتاعة جنوب أفريقيا الحائزة علي جائزة نوبل لما جت مصر.. هل شفتها.. أو حضرت لقاءاتها؟

محفوظ: لأ.. ماحدش عزمني..!

السعدني: طبعا مادامت قابلت علي برعي وثروت أباظة.. وإبراهيم المفتح.. البركة فيهم. محفوظ: ماأعرفش والله.

السعدني: أنت زرت السودان؟

محفوظ: لأ والله.

السعدني: ولا زرت أي بلد عربي.

محفوظ: شوف أنا نفسي أزور مصر الأول.. نفسي أزور الأقصر.. لكن ده قرار صعب.. محتاج لمرافق.. ومحتاج لقرار حقيقي.. وتصميم وعزم.. لكن أنا معنديش مرافق.. وفي حياتي كلها لم أزر سوي ثلاثة بلدان.. لندن مؤخراً علشان العلاج.. وكنت مش عاوز.. وقبلها زرت اليمن أيام حرب اليمن.. لأن المقاتلين المصريين كانوا عاوزين يشوفوني.. وزرت يوغسلافيا بقرار من عبدالناصر.. وكنت عاوز أعتذر.. لكن قالوا لي مايصحش.

السعدني: وانبسطت من لندن؟

محفوظ: كانت حالتي الصحية سيئة.. لكن لما رجعت وشفت الصور.. ندمت جدا.. لأني لم أتمتع بهذا الجمال.

السعدني: طيب إيه رأيك.. أنا عازمك علي لندن.. وأبعد عنك الحريم.

محفوظ: وأسافر ليه.. أنا بقولك نفسي أزور الأقصر.. لكن ده قرار صعب جداً.

السعدني: أحكيلك حكاية.. سنة 1956 قررت السيدة «فاطمة اليوسف» إنها تطلع كتابين لشابين صغيرين.. هما يوسف إدريس ومحمود السعدني.. يوسف أعطاهم جمهورية فرحات.. وأنا أعطيتهم جنة رضوان.. وبعثوا لنا نأخذ الفلوس.. ويوسف إدريس قال لي: إحنا لازم نأخذ فلوس كتيرة زي الناس الكبار.. نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي وأمين يوسف غراب.. قلت له موافق.. رحنا قابلنا يوسف السباعي.. قال لنا الست «فاطمة اليوسف» عاوزة تشوفكم.. وهي سعيدة بكم جدا.. قلنا طيب.. دخل السباعي أولا.. ثم دخلت أنا مع يوسف إدريس.. السباعي قال لها الشبان اللي إنت طلعت لهم كتب.. جايين يسلموا عليكي.. قالت لنا: الله يخرب بيوتكم.. خربتوا بيتي.. مابعناش من الكتب حاجة.. السباعي قال لها: هما بيسلموا عليكي وبيشكروكي.. ربنا يخليكي لهم.. وهذا دورك.. إنك تعطي الفرصة للشبان.. علشان أسماؤهم مش معروفة.. قالت الست ليوسف السباعي: إدي لكل واحد 40 جنيها.. ومش عايزة أشوفهم تاني!!

ده كان سنة 1956 ياعم نجيب.. إنت أخذت كام في أول كتاب؟

محفوظ: أول كتاب ماخدتش.. وفي الحقيقة لم أخذ فلوس عن أول ثلاثة كتب.. عن الروايات الفرعونية.. ولكن لما اشتهرت والناس عرفت اسمي.. أخذت مبلغ كبير قوي.. عشرة جنيهات أو خمستاشر جنيها.. وعلي أي حال أول فلوس حقيقية دخلت جيبي من الأدب أخذتها من مجلة الثقافة بتاعة أحمد أمين.. هم صرفوا لي جنيها واحدا عن قصة نشرتها عندهم.. لكني لم أذهب لاستلام الجنيه.. ماكنتش أعرف إن فيه فلوس تدفع عن الأدب.. ولكن في آخر السنة بعثوا لي قالوا إحنا بنقفل الميزانية.. والجنيه بتاعك عامل أزمة.. لازم تستلمه.

السعدني: ما هو زمان.. لا القصص بتجيب فلوس.. ولا الصحافة كمان.

محفوظ: مجلة الرسالة بتاعة أحمد حسن الزيات ماكانش حد بيأخذ أجر غير توفيق الحكيم والعقاد.. وكانوا بياخذوا اتنين جنيه في المقال.. لكن أحمد الصاوي محمد عمل طفرة حقيقية.. لما أصدر مجلتي.. وكان عنده كبرياء وكرامة.. قال اللي يكتب عندي مايخادش أقل من المبلغ الفلاني.. وكان مبلغا كبيرا.. مش فاكر كام.. لكننا قلنا كويس.. وكتبنا عنده.

السعدني: الصحف الكويتية.. وهي من أغني الصحف العربية.. لم تعط للكتاب فلوس حتي سنة .1977

محفوظ: ياسلام.. كانت بتدفع إيه.. بترول؟!

السعدني: طلعت ملحق في السياسة الكويتية سنة 77 وطلبت من الناقد الكبير علي الراعي أن يكتب.. وطلبت أيضا من سعد أردش وكرم مطاوع وأحمد عبدالحليم أن يكتبوا.. وفي آخر الشهر.. عملت قائمة بالمكافآت.. فصاحب الجورنال أحمد الجارلله قال ليه ياخدوا فلوس.. قلت له طبعا امال مايخدوش.. قال إحنا نشرنا لهم صورتهم مع المقال.. وده كفاية.. لكني أصررت علي الدفع.. وفعلا أخذوا الفلوس.. ودي كانت نقلة كبيرة للكتاب هناك.

السعدني: أنا قريت النهارده لعم نجيب أول حلقة من قصة حياته.. مستواها حلو جداً.. لكنها موجودة في ملحق الأهرام بدون إعلان أو أي إشارة.. فهل هذا معقول.. ياعم نجيب.. أنا عاوزك تحتج علي الطريقة اللي الأهرام نشر بها مذكراتك.

محفوظ: أحتج إزاي يعني؟! وفجأة اكتشف الولد الشقي أنه يتكلم براحته.. ودون مقاطعة حقيقية.. وأن الشرط الأول من الاتفاقية الموقعة مع الأستاذ نجيب محفوظ لم يتحقق وهو الشرط الخاص بأن يسمح لنجيب محفوظ بالكلام..

ووقف السعدني يضرب كفا بكف.. وهو سعيد مبسوط.. ويقول عمنا نجيب محفوظ كان يشترط أنه يتكلم وأنا أسمع.. معقول؟!

ويبدو أن ملاحظة السعدني قد شجعت الآخرين علي الكلام.. فحاول مصطفي الفقي أن يتكلم.. واستعد مكرم محمد أحمد للإدلاء بصوته.. واستدار نحوي المستشار عبدالمجيد محمود محاولا أن يقول شيئا.. وأراد الحاج إبراهيم نافع أن يجرب حظه.. لكن السعدني لاحظ ما يدور فعاد ليتكلم بلا هوادة أو رحمة.. وبطريقة العرض المستمر.

السعدني: مش ملاحظ ياعم نجيب أن العصر الماضي ظهرت آلاف العبقريات في التمثيل والأدب والأدب الشعبي والموسيقي والطرب والغناء.. وحتي في جيل المقرئين كانت هناك مجموعة عظيمة.. الأسماء دلوقت بقت غريبة قوي.. والموهبة ضاعت.. والسنة اللي فاتت في رمضان.. سألوا الشيخ أبوالعنين شعيشع في إذاعة لندن عن السبب.. قال دي حاجة في الجو.. وزي الأكل والميه ما هي ملوثة.. كذلك الأصوات الجديدة.

محفوظ: مشكلة بيئة

السعدني: عبدالوهاب الله يرحمه قال إن زمان كان الفرق بين المطرب والمستمع.. إن كل واحد عارف حدوده.. المطرب يدخل من باب المطربين والمستمع يدخل من باب الجمهور.. دلوقت الباب أصبح واحد.. الكل يدخل من نفس الباب.. ضاعت الحدود. محفوظ: تعرف إيه السبب؟!.. في رأيي أن إيقاع العصر أصبح سريعا جداً.. الصوت الجميل الأصيل مفيش مجال له.. يعني لما المطرب الكويس يحب يسخن عضلات صوته.. يكون ثلاثة غنوا أغاني..

السعدني: عم نجيب.. إنت شفت السادات؟

محفوظ: لأ والله.. عمري ما قابلته مقابلة خاصة.. قابلته مرتين ثلاثة في لقاءات عامة.. لكني عمري ما قابلته مقابلة خاصة.

السعدني: خسارة.. إنت عارف إن السادات كان متأثر جدا بزكريا الحجاوي.. وكان بيقلده.. إنت عارف إن كثيرا من ألفاظ ومصطلحات السادات اقتبسها من زكريا الحجاوي مثل أخلاق القرية وكبير العيلة.

محفوظ: والنبي صحيح يامحمود؟!

السعدني: طيب وقابلت عبدالناصر مقابلة خاصة؟

محفوظ: لأ والله.. مقابلات عامة برضه.. ما هو أنا عمري ما قابلت السادات أو عبدالناصر بشكل خاص.

السعدني: أحمد بهاء الدين برضه.. لم يقابل عبدالناصر في حياته.

محفوظ: لكن عبدالناصر كرمني حقيقي.. وفي مرة كان بيزور الأهرام.. وسألني لماذا لا نقرأ لك منذ فترة ياأستاذ نجيب.. فرد محمد حسنين هيكل وقال له إن الأهرام سينشر من بكره رواية جديدة.. لكنها حاجة شديدة قوي.. تودي في داهية.. فرد عبدالناصر: تودي هيكل في داهية.. لكن نجيب محفوظ لا.. مايروحشي في داهية.

السعدني: ياسلام.

محفوظ: في عهد جمال عبدالناصر نشرت أولاد حارتنا في حلقات في الأهرام.. وعندما قامت الضجة ضدها.. وقاد الشيخ محمد الغزالي مظاهرة ضدها وضد الأهرام من جامع عمرو بن العاص.. متوجها إلي الأهرام لضربه بالطوب.. لأن الرواية كافرة.. كما قال الشيخ الغزالي.. قام صوت العرب بإذاعة الرواية علي حلقات في منتصف الليل.. وكان لا يعلن عنها في خريطة البرامج.. لكنه أذاعها كلها.

السعدني: كانت فيه حرية؟

نجيب محفوظ: وفي عهد عبدالناصر نشرت رواية «ثرثرة علي النيل». ونشر ثروت أباظة «شيء من الخوف». وعبدالناصر شخصياً قال مافيهاش حاجة أبداً.. ولما واحد مسئول ثقافي قال لعبدالناصر أن الرواية فيها إسقاط علي حكمك.. أمر عبدالناصر برفت المسئول.. وقال له: كيف تري ذلك وأنا لا أصادر علي رأي أبداً؟!.

كانت الساعة تقترب من الواحدة صباحاً.. رغم أن الأديب الكبير اشترط البقاء لساعة أو ساعتين.. لكنه مكث ست ساعات كاملة.. وظهرت أطباق البيض والفول والجبن والخس والعيش البيتي.. إيذانا ببدء السحور.. و.. انتهزها البعض فرصة للكلام الجانبي.. لكن قطار الكلام المندفع الشهير بمحمود السعدني.. أدرك المؤامرة.. فكف عن الطعام.. وواصل الحديث من جديد.. بدون التوقف في المحطات.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

* صحافي مصري

 

مقالات من نفس القسم