حلم عقبة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 49
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسني حسن
لعدة أيام، بقي يحاول النفاذ إلى الواجهة البحرية للمدينة، بلا طائل! كان ينظر في كل الخرائط، التي تحت يديه، ليستوثق من أنها، حقيقةً، تستلقي ممددةً إلى جوار المحيط، وليست مجرد مدينة داخلية، تتوزع أحياؤها القليلة على تلٍ متسعٍ قليل الارتفاع، مُحاصَرةً بأسوارها العتيقة، ذات البوابات الضخمة الشبيهة بالأقواس، من ناحية، وبغابات الصنوبر والبلوط الفليني العالية، من الناحية المقابلة. راح يضرب في الشوارع والزنقات بالحي القديم، على غير هدى، شاعراً بغبطة رقيقة، وببعض الاستثارة. وبرغم الجوع، ظل يحس نفسه، مبتهجاً خفيفاً نشطاً وخلياً، كروحٍ هائمة، تُحلِق في فضاءات بلورية مصبوغةٍ بالموسيقى بالإيقاع الباطني الدافئ. خطوةٌ وراء الأخرى، أخذ يخلِف، من ورائه، “السويقة” بحوانيتها التي لا تنفد مخزوناتها من كل شيء، وأي شيء؛ من العطارة، إلى الجزارة، ومن العباءات والجلابات المغربية التقليدية، إلى أحدث خطوط الموضة الأوروبية للجينز والتيشرت والچواكت والمعاطف والأحذية الإسبانية والإيطالية المهرَبة، ومن الكتب المستعملة المطبوعة في مصر ولبنان وفرنسا، إلى آخر صيحات المحمول والآيباد والأقراص المدمجة للأفلام، الأمريكية والعربية، المُقرصَنة. أكداسٌ من جميع الأغراض، التي قد تخطر على البال، أو غالباً لا تخطر، معروضة بوفرة، وبفوضى، تلقائية، تشي بنظامها الخاص؛ نظام حدس بصرامته الخرساء مدوّية الرنين.
توقف لشراء ساندوتش، من لحم “الداندي” المفروم مع البيض المقلي، حيث تنتشر عربات اليد الخفيفة، التي تقدمه، في كل الأركان من حوله. أحس بدسامة، زائدة، جعلته يفتش عن شيء آخر يُذيب دهنيتها، فالتقط حبتي زيتون أخضر، مخلَّل ومُملَح ومعجون بالفلفل الأحمر الحريف. راح يلوك الزيتون اللحيم، متلذذاً ومناضِلاً، لإطفاء جذوةٍ مستعرة، لا تزال، في معدته وصدره، من كفتة “الداندي” والبيض.
مضى في طريقه، عابراً بسرعة، خلال “زنقة سوق القناصل” المكتظة بالهدايا، من منتجات الحرف اليدوية؛ كالخناجر والسيوف والقناديل ومرايا الزجاج المعشق الملون والزرابي والأبسطة والمفروشات المزركشة. لطالما شعر بالنفور من هذه الأشياء، وما شابهها، ربما لأنه كره، دوماً، تلك الحالة السياحية الاصطناعية التي أنتجتها، بكل هذا الإتقان وهذه الوفرة، وربما لأنه، وببساطة، كان يقشعر، جسدياً، من كل تزيد يخدش وجه تقشفه الخشن بجمال أملس سيال.
– “الوداية”؟ إن فاص.
أجابه الشاب الأسمر النحيف، بالفرنسية، من دون أن يشغل نفسه بالوقوف للحظة ليشرح له أن “القصبة” أمامه مباشرة. بدا له الفتى متعجلاً برِماً، ومنغلِقاً على ذاته. تبع الاتجاه الذي أشار له به، وما هي إلا دقائق معدودات وكان، بالفعل، قد وصل إلى أسفل القلعة، التي تنتصب أعلى التلة المشرفة على المحيط، عند مصب نهر “أبي الرقراق”. دبَ النشاط في قدميه لمرأى البحر، لأول مرة منذ وصوله إلى المدينة، فأخذ يصعد على الطريق الواصل إلى بوابة، خشبية ضخمة، مفتوحة على مصراعيها، تعلوها شرفة حجرية عالية، محروسة بقوة، بطابيتين متماثلتين على كلا الجانبين. سار عبر الزنقات، الضيقة المتعرجة، والمتقاطعة بغير نظام ولا نسق واضحين، والتي تُؤلِف شبكة الطرق الداخلية للقصبة العتيقة التي تحرس المدينة من جهة البحر، مفتوناً بمرأى الدور القديمة المطلية بالجص الأبيض والأزرق، ومأخوذاً بنظافة المكان البراقة، وبالنباتات الخضراء المتسلقة، وبالزهور البديعة التي زُرِعت في أصص خزفية وبلاستيكية، وصفيحية حتى، أمام باب الدور وعلى الشرفات ومتكئات النوافذ. دقيقة واحدة، لا غير، وألفى نفسه ينحدر باتجاه رواقٍ فسيح، يحدّه سورٌ حجري، قليل الارتفاع، يُشرِف على المنظر الذي خلب لبه، والذي ظل يبحث عنه لأيام قبلها؛ بحر الظلمات، اللانهائي، وهو يبتلع بين شدقيه المفتوحين، بشراهةٍ خالدة، “أبي الرقراق”، النحيل القصير سريع التدفق، والنازل من الجبال الأطلسية البعيدة، لا لشيء إلا ليعانق قدرهَ المشتَهى، بين شدقين موارين بالزبد، لبحر ظلمات، لطالما رهن الغزاة والفاتحين، عاجزين على عتباته الرخامية الملحية!
سيقول لها:
– ربما هُنا، تحديداً، في هذه البقعة، حيث نجلس، سويةً، بعد قرونٍ وحقب، خر الغازي المسلم “عقبة بن نافع”، جاثياً على ركبتيه فوق الرمال، محاولاً ضم البحر، المترامي اللانهائي، بين ذراعيه المفتوحتين، وشاعراً بالعجز إزاء كل تلك الشساعة، كل ذلك الوسع، ليتنهد، مُقِرّاً وحالما، أنه لو كان يعلم بوجود أراضٍ، فيما وراء ذاك الماء، لركبه فاتحاً!
– أكمِل ما قاله الرجل، ولا تجتزئ! كان سيركب الماء، فاتحاً، لنشر دين الله، وكلمته.
أجابته، وقد لاحت ابتسامة فاتنة فوق ثغرها، أضاءت صفحة وجهها الحِنطية.
– لا أعرف إن كان الرجل قد قال ذلك، كذلك، حقاً، أم أن هذا ما وضعناه، نحن وكتبُنا، على لسانه من بعد؟ بالنسبة لي، يصعب علي تصديق أن يقف غازٍ ما بمواجهة تحدٍ، كذلك الذي وجد “عقبة” نفسه إزاءه، ليفكِّر في نشر دعوة، أو إعلاء كلمة، حتى لو كانت كلمة الله التي يؤمن بها. أظنه سيكون معنياً، أولاً وبعد كل شيء، بالرغبة في قهر إدراكه لعجزه، ولمحدوديته، أمام التحدي الماثل، والمتعَين، في ماءٍ كثيرٍ فسيحٍ لا نهائي، ماء لين يخترقه سيفه بيسر، لا مثيل له، وتنفذ فيه، بكل بساطة، الرماح والنبال، بل وتبول فيه خيله وتتغوط ، وبرغم ذلك كله، يقف هو، الفاتح العظيم، أمامه، مقهوراً عاجزاً، يقف مدرِكاً، وبكل الأسى، أن هذا الماء قادر على ابتلاعه، وابتلاع جيشه، وعظمته كلها، في لحظة غضبٍ موّار، والأدهى من ذلك أنه لا يعرف إن كان له شاطئ آخر، أم أنه مجرد ماء، إلى نهاية الوجود!
– وهل تظن أن “عقبة” كان شاعراً، أو حالماً مثلك، لتوقفه مثل هذه الأفكار التي تلوكها؟ لقد كان فارساً غازياً، كما قلتَ أنتَ، يحمل سيفه وعقيدته، ويسعد، بكل بساطة، بملاقاة الموت بهما، وفي سبيلهما. كان رجلاً، لا شاعراً، يعرف ما يريد وما يتوجب عليه أن يدفعه ثمناً لما يريد. أنتَ، في الحقيقة، تتحدث عنك، لا عنه.
ميز في كلماتها، وبالأخص في صوتها، نبرة لومٍ وتعريض، لا يهتم بمداراة ذاته. كان يعرف، جيداً، من أي بئر مسموم تمتح هذه الأربعينية، المشتَهاة، تقريعها له، وتصبه على أم رأسه، بلا مواربة. رآها تشيح بعينيها، المكحولتين، بعيداً عن عينيه المعاتبتين، وتسحب سيجارة من علبتها الفرنسية الزرقاء، تشعلها بأصابعٍ دقيقة مرتعشة، ثم تسحب نفساً عميقاً، لتُطلقه، من بعد، سحابات صغيرة تدوّم فوق رأسيهما، في ذلك المقهى الهادئ، المؤثث بالظلال، بالأحلام المجهضة، وبالخيبات والانتظارات، بشارع “علال بن عبد الله”.
– أستغرِّب “رباطكم” هذه يا صديقتي! أستغربها بشدة! مدينة محشورة بين أسوارها العتيقة، وأمواج محيطها العاتية. مدينة مغلقة على ذاتها، ومتكلسة. تأتيها من البر، فتلقاك بأحجارها؛ بأبراجها العالية وبواباتها الضخمة. وتردها من البحر، فتصدمك بمقابرها التي تحتل سهل الشاطئ كله. تقابلك بوجه صارم، باتر جميل نظيف ومعطَر، لكنه ليس وجهها الحقيقي أبداً، أعرف ذلك يقيناً، كقطعة حلوى رخيصة، مُغلَّفة بسوليفان لامعٍ براق! ومع ذلك أحبها، وأرعى وحدتي، وكآبتي، في شوارعها وزنقاتها وأسواقها ومقاهيها.
– وما الذي تحبه فيها، إذاً؟!
– ما الذي أحبه فيها؟ ربما أنتِ، أنتِ بالأساس، أو أنتِ، وحسب.
زفر بهدوء، مخرِجاً كلماته، بشكل متقطع، من صدرٍ راح يخفق، صاعداً هابطاً، بلا هوادة.
– وماذا بعد الكلام؟
سألتْ بإلحاح جعله يندم، قليلاً، على اندفاعه، واعترافه الذي لن يكفيها، أبداً. أجاب:
– سبق وأن قلتُ لكِ، ربما التقينا في المكان المناسب، لكننا لم نتقابل في الزمان المناسب! لقد تأخر لقاؤنا، على الأقل، ربع القرن! وهكذا هو كل ما لا يأتي في موعده؛ فإما أن يكون فجاً، لا تستسيغه الذائقة، وتلفظه المعدة، أو يمسي شائخاً متيبساً يستحيل إنضاجه، أو تصويبه كما تقولون بدارجتكم، ومن ثم ابتلاعه.
– تعترف هكذا، بكل بساطة، بعد أن أحببتُك!
– أعترف، ولكن ليس بكل بساطة.
ها أنتَ لم تطلب، ولم تسأل، ولم تفكِّر، حتى، في رفع طلب أو سؤال، بل انتظرت، وحسب، بكل بساطة، وبكل انعدام ممكن للأمل في تحقق الطلب أو الاستجابة للسؤال، بل وبكل إيمانٍ، فظٍ غليظ، في لا أحقيتك، أصلاً، لا بالطلب ولا بالسؤال، ثم ها أنتَ تُلام، بنهاية الشوط، على انبثاق الطلب وتفجّر السؤال! فمن ذا الذي وضع في البذرة الإمكانية الباطنية الغافية للتبرعم، ودق الجذور في التربة القاحلة المنداة؟ من يأمر الربيع بالمجيء في مواعيده، بلا تأخير، لتُزهر نبتة القلب اليابسة وتتبرعم؟ من يأتي الحقل، البور الخرِب، بصيف الإثمار ومواقيت الحصاد الباقية؟ وأخيراً، من ينشر عباءة الخريف الصفراء فوق عشب الغابة العجوز؟
قال لها:
– يستطيع الإنسان أن يحقّق كل ما يريد، أو بعض ما يريد، لكنه يستحيل عليه أن يريد، حقاً، ما يريد!
أفاق من بحرانه علّه يُنصت إلى رجع صوته عندها، ليعرف أنها ما عادت، بعد، موجودة، أنها ما كانت، أبداً، موجودة!!!

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون