“حروب فاتنة”.. الخروج للعالـم بملابس البيت

موقع الكتابة الثقافي writers 67
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

طارق إمام

فى كتابة حسن عبد الموجود لا يحتاج الإنسان سبباً لكى يضيع. يهيأ لك أنك أمام ذوات نفضت عن نفسها للتو رماد المقبرة، كأنها بُعِثت من رقاد حيوات مديدة سابقة ظلت راكدة ولا أمل، بل لا رغبة، فى إلقاء حجر يحرك بعض ماءها. يفتش “حسن” عن هؤلاء الأشخاص، ويصبر طويلاً إلى أن يقبض عليهم، لحظة خروج أحدهم من البيت أو عبور آخر عتبة التراب.

سواء تقمَّصهم بالكامل عبر الضمير الأول (ضمير المتكلم) أو مشى محاذياً لهم عبر الضمير الثالث، (كسارد مُصاحِب)، فإنه يظل لصيقاً بهم، لا يخلق مسافة بينه وبينهم، كأنما يعيش عوضاً عنهم ذلك الحيز العابر بين بدء حكاية ومنتهاها، يستعير قناعهم أو، ربما، يمد لهم يداً بقناعه. كأنه بالعثور على مأزقهم، يكون قد عثر على مأزقه هو. هذا ما يمنح مشروع حسن عبد الموجود القصصى والروائى (روايتان وثلاث مجموعات قصصية) هذه الوحدة، رغم أنه موزع على نحو عشرين عاماً منذ نشر كتابه الأول “ساق وحيدة”. ليس معنى هذا أن حسن يكتب النص نفسه، فجهامة الواقع الداخلى لشخصيات “ساق وحيدة” صارت لامبالاة متخففة فى “السهو والخطأ” و”حروب فاتنة” (المجموعتين المتتاليتين)، وأسطورة الخرافة “المحلية” المتوارثة فى “عين القط” باتت مجاز الفرد “الوجودي” أياً كان مكانه فى “ناصية باتا”. كذلك تراوح التساؤل (المضني) حول علاقة الفرد بالآلة الهائلة الغامضة، والمعممة، التى تحركه كقطعةٍ خامدة فى لعبة غامضة، بين تعميم “المؤسسة” مجهولة الملامح، وتحديد أمكنة عمل وتنظيمات سرية وكتائب عسكرية لا يصعب على أحد تعيينها. غير أن السؤال نفسه يظل مقيماً كسحابة استفهامٍ معبأة تعبر سموات كل هذه الرتوق، حيث يرفض حسن، أو لا يقوى، على خيانة السؤال: أين يمكن للفرد أن يعثر على موطئ قدم، لا ليتحقق، لكن، بالكاد، ليحلم؟

شخصيات أحلام اليقظة

الحلم فى “حروب فاتنة”، هو حلم اليقظة بالتحديد. تقريباً لا وجود لأحلام المنام فى “حروب فاتنة”، نحن أمام ذوات مفتوحة العينين، فى شوارع المدينة، فى البيوت، فى أماكن العمل. تكاد القصة، مرةً بعد أخرى، تتشكل من حلم اليقظة الذى يطفو لمسافةٍ محسوبة فوق الواقع، بحيث نبقى أمام نص واقعى منطقه “المحاكاة”، نص كنائى لا يطفو ليصير استعارياً أبداً. جميع نصوص هذه المجموعة يمكن ردها للواقع، وتخيل “الواقعة” التى أنتجت الحدث القصصى فى وجودها التجريبي.

تضع أحلام اليقظة شخصيات “حروب فاتنة” فى أشد المواقف هزلية، فى سخريةٍ سوداء، لأنها تكشف أحلامهم المحرمة وخياناتهم المستورة فى العالم الواعى بورقة التوت الهشة المسماة بالأخلاق: “الكلمة المعتادة التى كرهها دائماً هى الضمير”.

جميع شخصيات “حروب فاتنة” تُخرج عنفها المكبوت فى التمثيل بالآخر عبر القصص المتخيلة لأحلام يقظتها، حيث يمكن لها أن تمارس كافة أشكال القمع التى ترزح تحت وطأتها، حتى لو كان هذا الآخر هو “الحبيبة” نفسها: “كل قصصه حزينة، تموت فيها مونيكا ميتات بشعة، بالرصاص وتحت وطأة تعذيب رجال الأمن، يكسرون عظام يديها ويخلعون أظافرها، وينزعون خصلات من شعرها بعنف، لدرجة أن تلك الخصلات تخرج بجزء من جلد رأسها، فى كل مرة يبكي، ويشعر بالذنب لأنه قتلها عدداً مهولاً من المرات”.

تحتمل أحلام اليقظة أيضاً تلك الخيانات الهزلية لتماسك السياق الاجتماعى الظاهرى وغرقه فى نظاميته. يُقبِّل بطل “الغرف المنسية” ملابس زوجته الراحلة حديثاً، فيما يفكر فى عاملة النظافة الشابة التى تملأ أفق القصة بوعد الخيانة الموشكة، بل إن ظهور تلك الفتاة ينبع من تذكر السارد فى قصة “الغرف المنسية” لرائحة زوجته بالذات: “تلك الرائحة جرّت وراءها إحساساً بالذنب، أدركتُ أن ظهور فتاة النظافة رغدة سيغير شيئاً ما من طبيعة حياتي. تلك الفتاة تتحيّن التفاتاتى إليها وتبتسم، تعرف أننى أنظر إليها، وتنظر لى فجأةً محاولةً القبض على نظراتي، وتنجح غالباً”.

كذلك يفكر بطل “دراجة تعيد رفيق الحزب القديم” فى خيانة الخلية من أجل الهروب بحبيبته. ثمة “معزة” عالقة تصبح موضوعاً لحلم يقظة مكتمل الأركان فى قصة “معزة جوركي”، التى تمثل صرخة هزلية فى وجه جميع الإيديولوجيات التى حولت حتى الوجود الطبيعى أو الغريزى إلى ترس فى آلة مقولاتها: “أعلنت المعزة الاستسلام فى هذه اللحظة وسارت أمام صاحبها، وأشعر بالغيظ من هذا المصير المدهش لجوركى وبقية عائلته، المصير الذى لم يقف عند ذلك، إذ أن الأقدام المتلاحقة للمارة بدأت فى دهسهم الآن، وأصحابها يصبون اللعنات على المعزة وعلينا”.

تنزع أحلام اليقظة نفسها من شراكة الواقع لتسمح للكائن أن يعيش كمتوحد، طالما تعذّر أن يعيش كوحيد، بالتالى فهى تمثل خيانة للشريك حتى فى أشد اللحظات احتفاءً بالحضور المشترك: “بالتأكيد لا تعرف سيمون ما يدور فى رأسي، بالتأكيد لا تعرف أنها بطلة عرض إجباري”.

وتصل “حروب فاتنة” باختبارها لوجوه حلم اليقظة لسقفه الأقصى، ممثلاً فى لعبة “الأبراج”، فى قصة “ماء العقرب وتراب العذراء”، حيث يمسك “التنبؤ” ناصية الحياة الإنسانية نفسها لتقع الحياة بأكملها فى المستقبل بوصفها متحققة سلفاً ولا تنتظر من الشخص سوى محاكاتها وصولاً للحظة الموت نفسها: “كوّنت بمرور الوقت خبرةً كبيرة استطعتُ من خلالها فهم الكيفية التى تتحرك بها، متى تنذر بالسوء ومتى تعد بالأمل، متى تأتى كالطوفان وتلقينا بقسوة ومتى تحملنا بحنو فوق سحاباتها، كنت مقتنعاً بتأثيرها على العمل والرزق، على العاطفة والجنس والحب والكراهية، حتى المرض والموت، الأبراج تتحكم بنا، وبكل شيء حولنا، تبدأ حركتها من حركة الحياة ذاتها، الحياة بتدرجاتها الملونة الزاهية، وتنتهى بالسكون، حيث يحلُّ الموت بصورته النمطية، الأسود الحزين”.

لكن شخصيات حسن عبد الموجود تردد مع بيسوا عبارته: “عدم الفعل، كان دائماً هاجس حياتى وشاغلها”. هى شخصيات تنتظر أن يعيرها شخصٌ آخر أفعالها، وجميع ما تُقدم عليه يظل موقوفاً على أحلام يقظتها، وكأن الحاضر هو أشد أزمنة الفرد توفراً على العجز وانعدام القدرة على الخطو.

لحلم اليقظة خصيصة أخرى، فهو استباق تخيلى ذاهب للمستقبل، وبالتالى فالحدث القصصى فى نصوص “حروب فاتنة” كثيراً ما يقع فى المستقبل، كتكهن أو استباق فى دماغ صاحبه. إنها قصص تنطلق دائماً من فرضية “ماذا لو؟”.. المستقبل هو الزمن الفعلى الذى يتحقق فيه الحدث القصصى فى “حروب فاتنة”. تغيب الشخوص فى قصصها المستقبلية المختلَقة، ودائماً تعود للحاضر فى الوقت، حين يكون القطار الذى تحاول اللحاق به قد غادر بالفعل، وصار من المستحيل أن يعرف الشخص أين هو أو ما هو: “ألقى الكرسى والكتب على الرمال بالقرب من البحر، ربما المياه زرقاء، وربما هى خضراء، ربما بحر العرب، وربما المحيط الهندي، ربما يرتدى ملابسه وربما لا يرتديها”.

الشخصيات نفسها، نابعة من شقوق المدينة المخفية، إنها جرذان المدينة الضخمة المختبئة فى ظلامها، تخرج لتواجه الشمس قبل أن ترتد سريعاً إلى أمان مخابئها. شخصيات لا أسماء لها، كأنها محض أدوار أو وظائف لا “ذوات”، تنخرط فى مهام تافهة على هامش الآلة الهائلة التى تُدوّرها، شخص يعمل كوسيط لإيصال رسائل (لا يعرف ماذا تحوي) بين الحزب الذى يعمل لديه وفتاة بلا اسم، جندى لا يمثل أكثر من زيه المموه، أو امرأة متزوجة ترى العالم بالعينين الذاويتين لزوجها المريض وكأنها ذاهبة للموت عوضاً عنه. رغم أن جميع شخوص “حروب فاتنة” هامشية إلا أنها ليست خارجة على السلطة أو متألبة على شرطها، فهى شخوص متواطئة مع جلاديها، سواء بفعل العجز أو الضعف أو حتى اللا مبالاة. شخصيات “حروب فاتنة” دائماً فى “مهمات سهلة”، (وهو التعبير الذى ورد فى القصة الأولى ويمكن أن ينسحب على كافة المهمات الموكلة لأبطال هذه المجموعة، إن جاز أن نصفهم بالأبطال)، مهمات تتم لحساب مستخدميهم دون ضيق أو ضجر. تحضر هذه الشخصيات مؤطرة طوال الوقت بصورة الزعيم أو صاحب العمل أو رئيس الحزب أو قائد الكتيبة، كأنها أصداء سلطة لا تملك حيال انسحاقها فى صورها أن تعثر على أصواتها.

لغةٌ تحاكى شخوصها

بالاتصال مع الشخصيات المموهة غير المسماة، ينهض الزمن السردي، مموهاً بدوره، بحيث يصعب رد قصة لزمن بعينه. جميع قصص “حروب فاتنة” يمكن أن تقع فى أى زمن، وكأن جميع الأزمنة على تراوحاتها هى الزمن نفسه: زمن قمع الفرد لصالح خلود السلطة القائم خارج أى حاضر. بالمقابل، تتراوح أمكنة القصص بين الأمكنة المغلقة وفضاء المدينة المفتوح، لكن اللافت أن لا قصة تجمع المكانين معاً رغم أننا أمام قصص طويلة، فالقصة تخلق لنفسها سياقها المكانى كمحدد نفسى يجعلها إما تتخبط بين الحوائط دون أمل فى الخروج، أو تتعثر فى المدينة دون أمل فى العودة لمكان يغلق عليه بابه.

بالتقاطع مع هذه العناصر الفنية، تحضر لغة “حروب فاتنة”، كلغة لا مبالية، أقرب ما تكون للّغة المحايدة غير المتورطة، والرافضة للحمولات البلاغية والعاطفية معاً. كأن اللغة هى تمثيل هذه الشخصيات القلقة لكن اللامبالية والعاجزة عن الفعل فى الوقت نفسه. أقصى مجاز يمكن للغة “حروب فاتنة” أن تسمح لنفسها به، هو “التشبيه”، سهل الهضم والمغذى لكنائية العالم القصصي، من قبيل: “كان صدرى يُطلق أصواتاً تشبه صوت سريرى المتهالك حينما أتقلّب عليه”.

بالعدل، تُقسَّم نصوص الكتاب العشرة على ضميرين فى ما يخص موقع “السارد”. ثمة خمس قصص يكتبها الضمير الأول (بضمير المتكلم حيث البطل هو نفسه السارد)، فيما تتحقق القصص الخمس الأخرى بالضمير الثالث حيث يقارب السارد بطله من أقرب نقطة كسارد “مصاحب”، لا هو بالعليم كلى المعرفة ولا هو بالسارد المحايد الذى لا يملك عن بطله سوى الرصد السلوكي. هو على الأغلب تقسيم غير مقصود بهذا الجلاء، غير أن تتبعه يكشف موقعين متواشجين فى وجهة النظر، بين رؤية الشخصية القصصية كـ”أنا”، ومقاربتها كـ”آخر”.

فى إحدى قصص حروب فاتنة (النوم مع فتاة مودلياني)، ثمة شخص يرتدى البيجامة تحت القميص والبنطلون، تحسباً لأى طارئ. إنها شخصية تطمح، يائسةً، إلى أن تكون فى الخارج والداخل معاً. فى الحقيقة تصلح هذه الشخصية كتمثيلٍ رمزى أشمل ينسحب على كافة شخوص هذه المجموعة: ذوات تواجه العالم بملابس البيت، تبقى عالقة بين الاثنين، دون أن تصبح فى لحظة جزءاً من الفضاء أو الزنزانة.

……………..

*عن الإذاعة والتلفزيون

مقالات من نفس القسم