حذاء فيلليني‮:‬ثنائية الضحية والجلاد ‬‬

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

رضوي الأسود

"كلنا ضحايا وكلنا مجرمين".

من أشهر عبارات السينما المصرية، والتي أتت علي لسان ضابط البوليس والجلاد خالد صفوان (كمال الشناوي) في فيلم "الكرنك" والمأخوذ عن رواية لنجيب محفوظ بنفس العنوان، صرخ بها حينما سقط بين ضحاياه، متخوفاً من رد العذاب الذي اقترفه بحقهم.

في الرواية الأحدث لوحيد الطويلة بعنوان (حذاء فيلليني) والصادرة عن منشورات المتوسط، كان الضابط/الجلاد (اسمه الحركي في الرواية الكعب العالي) هو المرادف لخالد صفوان، وفي المقابل نجد مطاع أحد ضحاياه، الذي ظل بطول الرواية في حالة صراع مع النفس يفكر في كيفية الانتقام منه، والطرق المختلفة لفعل ذلك، متدرجاً من البشعة إلي الأكثر بشاعة، حتي يأتي المخرج الإيطالي الأشهر فيلليني لينقذه من حيرته ويساعده في إخراج المشهد النهائي لمعاناته!

ينضم إليه في الرغبة الانتقامية، زوجة الضابط، التي عانت هي الأخري عشرين عاماً من معاملته القاسية وتعذيبه لها جنسياً.

وبما أن الروائي هو صوت من لا صوت له، صوت المستضعفين في الأرض، المهمشين، المعذبين، الذين يعانون في صمت، لذا يهدي وحيد الطويلة روايته “إلي من صرخوا ولم يسمعهم أحد وإلي من لم يستطيعوا أن يصرخوا“، لنطالع بأرواحنا رواية صادمة حد الوجع.

كلما توغلنا في الرواية، تتكشف لنا تفاصيل الحكاية الغامضة، وتتواتر إجابات أسئلة من نوعية: “لماذا أتيت إلي هنا؟ أي تهمة ارتكبتها؟ من هي تلك المرأة، ومن هو مأمون؟!”، أسئلة ظلت علامات استفهامها مفتوحة، لنرتطم بتفاسير اللغز كما بطل الرواية الذي يتذكر فجأة كل شيء في النهاية، فنكتشف أن مُطاع، هو طبيب نفسي، يتم تعذيبه وإهدار كرامته علي ذنب لم يقترفه، وأن كل الحكاية أن أحدهم (مأمون) قد زج باسمه في موضوع يخص آخر!

اللغة فصحي إلا من بعض مفردات عامية قليلة، جاءت قوية، عنيفة كالواقع الذي تتحدث عنه، لكن كعادة وحيد الطويلة في حسه الساخر، لم تخل ابداً من سخرية لاذعة أحياناً، ومريرة أحياناً أخري.

هناك تداخل شديد بين الواقع والفانتازيا، ليصبح من الصعب أن تميز الحد الفاصل بينهما.

يتحدث الراوي بضمير المتكلم، فهو إما مطاع/مطيع، أو الضابط، أو زوجته، أو مأمون (مخبر).

أجواء الرواية قاتمة كما يليق بقبو في باطن الأرض يتم فيه تعذيب البشر ومسخهم حتي يصيروا آخرين، وحيث المحظوظ منهم ينتهي به الأمر في مشفي للأمراض العقلية “القبو مكان آخر غير السجن، جحيم آخر، القبو مكان تحت القبر، مكان الحساب علي الأرض، يقيمه آلهة من البشر، لم تمر عليهم كلمة الرحمة في قاموس الحياة، لا رحمة ولا صراطٌ مستقيمٌ تمشي عليه، بالكاد صراط غير مستقيم، جهة اليمين تؤدي فقط إلي النار، واليسار تؤدي إلي الجحيم“، وأيضاً كما يليق بنفسية مشوهة، منسحقة، متحولة، ليصبح مطيعاً بعد أن كان مطاعاً “اسمك مطيع منذ الآن، أعد كتابة ما كتبته، وابدأ باسم مطيع، هو اسمك منذ الآن، وحتي تموت قريباً“.

الرواية تنتقد الحاكم الأوحد، أو الحاكم الإله بسخرية لاذعة “نولد من طين واحد، نعبد عدة آلهة، وقائداً واحداً طول العمر“،وكذلك تفضح السلطة المتجبرة الفاسدة القمعية التي يؤمن أفرادها “أن علي رؤوسهم ريشة، شعب الله المختار“، أيضاً يعري الراوي تلك السلطة التي يتناحر أبنائها فيما بينهم داخلياً، لكنها تكون كالبنيان المرصوص أمام أي خطر يحدق بأحد أبنائها، محتفظة بفسادها الذي يتنامي، دون أي رغبة في تطهيره، بل الحرص عليه، وكأن الفساد أهم دعائم حمايتها “السلطة ليست طيبة فيما بينها، إلا حين يقترب الأذي من حرمها، لحظتها تكون الأم الرؤوم، تغطي علي أعضائها، تمنحهم الحصانة مهما كانت الخطيئة، تخبئهم تحت جناحها كلما كانت الغلطة فادحة حتي لا يحترق ثوبها“.

كل ما سبق يجعل الشعب – المحكوم بالقبضة الحديدية -ينظر لنفسه نظرة دونية “نحن فقط مجرد حشرات يحق لهم تحويرنا وبالقسطاس المستقيم علي هيئتنا الجديدة“.

في علم النفس، هناك علاقة طردية بين الضحية والجلاد، يحدث من خلالها عملية تحول يستحيل فيها الضحية إلي جلاد، ويكون ذلك بسبب خلل يُحدِثه التأثير السلبي الذي يتركه الجلاد في وعي الضحية وبالتالي سلوكه، فتبقي الآثار مستديمة في كل تعاملاته، حتي أن في كثير من الأحيان يتفوق الضحية علي جلاده، فيصبح أكثر إجراماً ووحشية ودموية منه! وهذا ما نلمسه في الرواية، فالضابط نفسه كانت عائلته ضحية ضابط متجبر ظالم، فأصبح هو بدوره ضابطاً متخصصاً في التعذيب “عزرائيل الأرض” كما اسماه الراوي، كذلك مطاع حين يقع جلاده بين يديه يتصور طرقاً لقتله أقل ما يقال عنها أنها بشعة، لنعود مجدداً إلي العبارة التي استهللنا بها المقال.

تتحدث الرواية عن كيفية صناعة الديكتاتور والجلادين “هل تعرف شعور ماو، عندما تهتف باسمه ثلاثمائة مليون حنجرة في توقيت واحد .. ما لا يمكن أن تراه أن عضلات الإستبداد تتورم في هذه اللحظة، تنتفخ، وان العظمة في روحه تتمدد .. في هذه اللحظة يولد ماو آخر اسمه الإله ماو .. في هذه اللحظة تحديداً يفقس الديكتاتور جلادين ، يدخل في عقولهم، يبدل أمخاخهم، فيقدسونه ويسبحونه“. من هنا يري الراوي أن الشعب هو الصانع الحقيقي والأوحد للديكتاتور، ومن ثم الجلاد “أنتم من تصنعون الجلاد، ثم تطلبون منه أن يكون بشراً عادياً“.

ولسخرية القدر، نجد الضابط/الجلاد مؤمناً بثقة ويقين بأهمية وخطورة دوره، بأنه شخص صالح يصنع شيئاً جليلاً لله وللوطن، وذلك بتحويل الناس السيئين لصالحين! يقدمه الروائي شخصية متمحورة حول ذاتها المتضخمة، هستيرية، إذ نسمعه يقول “ماذا سيفعل الضباط إذن، لو اطلقنا سراح الجميع“، متفاخراً بأنهم يمسخون البشر ويحولونهم لآلات بلا عقول تفقه “نحن من اخترعنا الروبوتات قبل أن يخترعها اليابانيون، هم يصنعونها من جماد ونحن نتفوق عليهم بصنعها من بشر، هم يحركونها من بعيد بريموت، ونحن وضعنا الريموت نفسه داخلك“.

من أشهر عبارات فيلليني: “لا شيء أصدق من حلم“، وقد ظل يحلم مطاع، المتيَّم بفيلليني، بأن يقع جلاده بين يديه لينتقم منه، وهو ما قد حدث بالفعل، وحينما وقع ظل يحلم ويتخيل أيضاً كيف سيكون شكل انتقامه. لكن في الجزء الأخير من الرواية، وقبل مشاهد النهاية المتعددة، يتم طرح فكرة التغاضي والتسامح، كبديل أخلاقي واستثنائي يدحض نظرية الضحية التي تستحيل جلاداً، فكان بداخل مطيع ما يقنعه بأنه يكفيه أنه الآن بين يديه يتمدد عاجزاً، شبه ميت، مجرداً من منصبه وجبروته وسلطته “هناك حياة أخري ممكنة، لا يجب أن تتماهي مع الجلاد حتي لا تقع فريسة لروحه الشريرة أو لشبحه الذي يحوم حول سريرك، ليس صحيحاً أن النار تدمر كل شيء، تبقي دائماً بارقة أمل، لا تنس أن تمنحه لحبيبتك، للشوارع، للمرايا، لمفاتيح الكهرباء، للشروخ في الجدران، الأمل رشوة يقبلها الجميع“.

هناك أكثر من نهاية للرواية بمساعدة ورؤية فيلليني، الذي يبدو أن البطل استدعاه ليخرجه من مأزق إسدال الستار علي صراعه المميت والطويل، فمرة يكون المشهد عبارة عن مضاجعة جنسية بين مطاع وزوجة الضابط أمام الضابط المضطجع عجزاً ومرضاً، ليذبحانه ألماً، وأخري نري عملية قتل للضابط بسكين، لتتناثر دماؤه في كل مكان. تلك المشاهد تحديداً والتي قدمت برؤية سينمائية، بدت وكأنها أحد أفلام فيلليني المثيرة للجدل،أو لوحة سريالية لسلفادور دالي تحمل الكثير من الجنون.

وكما اهتم فيدريكو فيلليني، بالتوغل في عمق نفسيات شخوص أفلامه، تأثر بالعبثية، وكانت أهم أدواته السخرية اللاذعة، وتجاوز مدرسته، الواقعية الجديدة، بتوظيفه لمشاهد سريالية عديدة، نجد بالمثل أن وحيد الطويلة، قد قدم لنا رواية تغوص في الأعماق النفسية لشخصيات رواياته في محاولة لسبر أغوارها ورأب تصدعاتها، استخدم هو الآخر نفس السخرية اللاذعة والمشاهد السريالية وتحديداً في النهاية.

كان فيلليني يحلم، ثم يصحو فيرسم أحلامه ويحولها لمشاهد سينمائية، لم يكن يحمل سيناريو محدد الملامح لأفلامه، كسر كل ما هو تقليدي ومتعارف عليه في فن السينما، لذا أصبح واحدا من أشهر المخرجين العالميين، فالمخاطرات الكبري تأتي بالنجاحات الكبري، وها هو وحيد الطويلة يكسر شكل الرواية المعتاد، يحيد عن (باب الليل) التي جلبت له الشهرة والجائزة، يبتعد عن لغتها الناعمة وأجوائها المغرية، ليخوض بنفسه وبنا أجواء وبناء ونصاً غير تقليديين، ليثبت بالفعل أنه فنان حقيقي، يملك من الجرأة ما يضعه في خانة كبار المبدعين.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم