حدود التجريب في قصيدة النثر النسوية

ناهد راحيل
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 د. ناهد راحيل

تقديم:

     لا يقترن التجريب بفكرة التجديد بقدر ما يطمح إلى توظيف عناصر شكلية ودلالية بطرائق مغايرة، دون أن يعني ذلك أن هذه العناصر لم توجد من قبل في نصوص سابقة، إلا أن طرق توظيفها وسياق إنتاجها يكسبها دلالة وتحققا مختلفين تبدو معها جديدة قياسا لفترات ماضية.

فالتجريب نوع من الوعي الحداثي يتمرد على قواعد الكتابة الجاهزة المستقرة؛ فهو كما جاء في موسوعة كامبريدج* في النقد الأدبي: “وعي ضدي ينبذ التمثيل باعتباره ضرورة فنية، ويستبدل به التجريب في الأشكال والكلمات”.

     وتحمل قصيدة النثر في حد ذاتها هذا الوعي المتمرد على قواعد الكتابة التقليدية للشعر الخاضعة للوزن والقافية لخلق الإيقاع الشعري، لتتخلى عن تلك القواعد وتنساب حرة طليقة –بتعبير إليوت- وتخلق لنفسها إيقاعا خاصا يتنصل من كل محاولة تقييد شكلية أو رؤيوية.

     فقد نفت قصيدة النثر التعارض بين الشعر والنثر لتوجد نصا جامعا ـ بتعبير جينيت- له خصائصه النوعية وسماته الشكلية الجديدة، وصاحب هذا التمرد في تاريخ الشكل الشعري تمردا آخر؛ تحدد في التمرد على طرق تمثل المرأة وفق النسق الثقافي ومحدداته الاجتماعية الثابتة، ومرتكزاته التي يصيغها في صورة أعراف وقوانين.

     فالنصوص التي اعتادت تمثيل المرأة ـ سواء كانت أدبية أو نقدية- يتم التعامل معها بوصفها منظومات وليست نصوصا، حيث تم تمثيل المرأة في إطار منظومة الكتابة الذكورية مرة، وفي إطار منظومة الخطاب الاجتماعي مرة أخرى، ولا يمكننا إغفال المنظومة الدينية وأسسها الملزمة كذلك.

     ومن هنا تسعى الدراسة إلى التعرف على الطريقة التي مثلت بها الشاعرات أنفسهن بشكل خاص وفق أنوية الشعر، والمرأة بشكل عام وفق تقاطع التجارب النسائية، والموضوعات التي اعتمدتها للتعبير عن القضايا التي تشغلها لتتعالق مع الطرح النسوي العام. وذلك عبر استقراء المنجز النسوي لنصوص عدد من الشاعرات اللاتي ينتمين إلى مراحل عمرية متباينة، وينتمين إلى خلفيات ثقافية قد تكون مختلفة.

ويسبق الدرس التطبيقي إطار تنظري يهتم بتقديم مقاربة تعريفية تهدف إلى تحديد مفهوم الكتابة النسوية والشروط التي يجب أن تتوفر في النص النسوي، وتوضيح المصطلحات التي اعتمدتها المقولات المختلفة للدرس النسوي في إجراءاته النقدية.

     اعتمدت الدراسة على المقاربة النسوية للنصوص التي تستدعي الجمع بين النظرية الأدبية التي تمنحها أدوات تحليل النص من منطلق عناصره الفنية والأدبية وسياقاته التاريخية والاجتماعية، والنظرية النسوية التي توجهنا إلى موقع المرأة في منظومة علاقات القوى بين الجنسين.

     من هنا كانت مقولات الدرس النقدي النسوي هي المنهج الذي اعتمدته الدراسة؛ حيث محاولة إعادة صياغة المعارف الثابتة وتشكيل وعي جديد بالأنثى يختلف عما هو مطروح عنها من قبل المتن الثقافي المهيمن، بجانب الإفادة من إجراءات ما بعد البنيوية وأدواتها الخاصة التي تهدف إلى التحليل الفني للنص الأدبي.

القسم الأول- النص النسوي والوعي بنسوية النص

     تسعى الدراسة في قسمها الأول إلى التعريف بالنسوية، معتمدة على عدد من الدراسات التي تنتهي في مجملها إلى أن النص النسوي هو ذلك النص الذي يعبر عن التجربة التي تعكس واقع حياة المرأة بعيدا عن أشكال التمثيل النمطية في الخطاب السائد وعن الهيمنة الذكورية في سرد التجربة.

     كما تهتم بالوقوف على المفاهيم التي تعتمد عليها النظرية النسوية في تحليلها للنص النسوي، والإجراءات التي تتخذها للكشف عن خصائص الكتابة النسائية وموقع النساء في منظومة علاقات القوى الجندرية.

     وهنا يجب الحديث عن الكتابة النسائية Women’s writing التي تعنى الأدب الذي تكتبة المرأة أيًا كان الموضوع الذي تتناوله في كتابتها، والكتابة النسوية feminist writing التي تعنى الكتابة من منظور نسوي سواء كانت هذه الكتابة من إبداع المرأة، وهي الغالبة، أو من إبداع الرجل وهي النادرة[i].

     فالكتابة النسائية ليست مرادفا للكتابة النسوية التي تنتج نصا يتبنى منظورا نسويا يعبر عن وعي نسوي، ذلك الوعي النسوي هو ما يهم الدراسة النصية الحالية -التي لجأت إلى تحليل نصوص نسوية مكتوبة بأقلام نسائية-، وهو الدرس الذي تنتطلق منه للوقوف على خصائص قصيدة النثر النسوية ومحدداتها وإجراءاتها من ناحية، وتتبع التقليد النسائي في الكتابة من المنظور النسوي من ناحية أخرى.

     تؤكد ماري إيجلتون في كتابها “النظرية الأدبية النسوية” أن النص النسوي هو ذلك النص غير المقيد بالمفاهيم التقليدية، والذي لا يلقي بالا لمعايير الرجل، والذي يعكس واقع حياة المرأة بشكل صادق بقصد زيادة وعي المرأة[ii].

وأبرز ملامح النص النسوي وفق إيجلتون[iii]:

الاعتقاد بالموثوقية والأصالة

ضرورة الكشف عن هوية أنثوية حقيقية

أن يحوي تجربة مرجعية واقعية

      ومن تلك الملامح يتضح ضرورة تعبير النص عن تجربة خاصة تعكس واقع حياة المرأة بشكل صادق، ذلك لأن المرأة تم تمثيلها لفترات طويلة في أنماط بعيدة عن الحقيقة بواسطة نماذج أدبية مضللة إلى حد بعيد- وفق الطرح النسوي ـ.

     وعند محاولة تعريف الوعي النسوي نجد أنه وفق جيردا ليرنر “وعي النساء بإنتمائهن إلى فئة هامشية، وتعرضن للظلم باعتبارهن نساء، وإدراكهن بأن ذلك الوضع ليس وضعا طبيعيا إنما مفروضا اجتماعيا، وأنه يجب عليهن التحالف للتخلص من أشكال الظلم الواقع عليهن، وأن يقدمن رؤية بديلة للنظام الاجتماعي بحيث تتمتع فيه النساء بالاستقلالية وحق تقرير المصير”[iv].

     فالوعي النسوي لا يكتفي بإدراك النساء لوضعهن الثانوي في المجتمع باعتباره وضعا ظالما مفروضا عليهن في السياق الأبوي السائد، إنما يتجاوز ذلك إلى مرحلة الفعل الإيجابي المتمثل في السعي لتغيير تلك المكانة الهامشية بطرح رؤية بديلة تدحض رؤية المتن السائدة عن النساء.

     وهو ما تعبر عنه ماجي همّ في تعريفها للنسوية باعتبارها “مفهوما يتضمن قاعدة المساواة في الحقوق، كما يتضمن توجها فكريا يسعى لتحقيق تحول اجتماعي يهدف إلى خلق عالم يسع النساء دون الاكتفاء بمجرد المساواة”[v].

     ورغم ارتباط الدرس النسوي بمفهوم الجنوسة، أي الفصل الواضح بين البيولوجي والاجتماعي، الذي يرى أن مفهومي الذكورة والأنوثة لا يتحددان مسبقا من خلال الجسد، بل إنهما يتكونان من داخل الثقافة التي ينتميان إليها، وعلى ذلك فإن الأنثى مسألة جنس بينما الأنوثة مسألة ثقافة.

     فإن هناك بعض الأصوات النسوية تقاوم هذا التعارض المزدوج لمسألتي جنس وجنوسة، وترى أن الاختلافات الثقافية تظل مغروسة في المعطيات البيولوجية. وحديثا فإن بعض النسويين –مثل تيريزا دي لوريتس- يرون أن مسألة الجنس نفسها قد تكّونت تاريخيا، وأن تمييز الذكر/الأنثى اعتمد على افتراضات ثقافية كالتي اعتمد عليها تقسيم الذكورة/الأنوثة[vi].

     لذلك نجد أن الموضوعات التي تتعامل مع طبيعة التجربة الأنثوية تعد معلما أساسيا من معالم النص النسوي، كتجربة الزواج والجنس والأمومة، وما ذلك من موضوعات ذات صلة كبيرة بالمرأة يتحكم فيها النوع البيولوجي وما ترتب عليه من أدوار اجتماعية وأنماط ثقافية محددة.

     يبقى أن نشير إلى دور النقد الأدبي النسوي الذي اتسم في مرحلته الأولى بالتركيز على صورة النساء في الأدب، ثم ركز بعد ذلك على التأصيل للكتابة النسائية مع الاتجاه إلى تمثيل النساء عامة على اختلاف خلفياتهن الطبقية والعرقية وميولهن الجنسية، مستندا إلى مفاهيم كـ “السرديات العليا” لتفكيك الهيمنة الأبوية في تاريخ الأدب والنقد، ومعتمدا على نظريات ما بعد الحداثة التي تدعم قيم الاختلاف والتعددية والتنوع، باعتبارها قيما أصيلة في التحليل النسوي.

     فتناول النص الأدبي من منظور نسوي يستدعي “التركيز على وضع المرأة في النص كذات وكموضوع، وضرورة البحث عن الصوت السائد والكشف عن الأصوات الخفية، وتأمل سمات الهوية ومدى تمتع المرأة بسلطة السرد وتمثيل الذات”[vii]؛ أى قدرة الكاتبة على التعبير عن حياة النساء والموقف الايديولوجي -السائد والمطروح.

ويسلط النقد النسوي الضوء على تجارب النساء الخاصة، والسمات المشتركة التي توحد الصوت النسوي في مواجهة التهميش والتشويه، والتي تجعل من تلك التجارب المشتركة ثقافة هامشية أو فرعية في إطار الثقافة السائدة في المجتمع.

     ومن هذا المنطلق ستعنى الدراسة في قسمها الثاني بالتطبيق على أعمال مجموعة متنوعة من شاعرات قصيدة النثر اللاتي ينتمين إلى خلفيات مختلفة، لكن يتفقن في الرؤية النسوية وفي المنظور النقدي لقضايا التعبير النسوي وموضوعاته.

القسم الثاني –  ملامح التجريب في قصيدة النثر النسوية:

     تهتم الدراسة في قسمها الثاني الوقوف على ملامح التجريب في قصيدة النثر النسوية سواء على مستوى موضوعات الكتابة وأشكال التمثيل، أو على مستوى الشكل الفني وآليات التعبير عن تلك الموضوعات.

     فقد تخطت الشاعرات الموضوعات التي حددها المتن الثقافي والاجتماعي بوصفها موضوعات للكتابة النسائية والتي كانت تندرج تحت ما يمكن تسميته بـ “الكتابة الوجدانية”، ومن هنا نجد عددا من الموضوعات البديلة التي تطرحها الشاعرة النسوية بوصفها خطابا يتجاوز حدود السائد ويتحرر من قيوده شكلا ومضمونا.

     وانفتاح قصيدة النثر على مستويات عدة من الصيغ والأشكال وانفتاح خطابها التعبيري على كافة الأنساق السردية والشعرية، جعلها فضاء مفتوحا للتعبير عن التجارب بشكل أكثر حرية؛ لذلك اتجهت الشاعرات إليها كنمط كتابي قادر على احتواء التجربة الأنثوية التي ظلت خاضعة للصوت الذكوري لفترات طويلة بوصفه الوسيط الوحيد في عملية التلقي بين المرأة والقارئ.

     ومن هنا بدأت الشاعرات تعبر عن قضاياها بنفسها وبصوتها الخاص، خاصة تلك القضايا التي تمس خصوصيتها وذاتها، فالمشاكل التي يتعرض لها النساء تختلف عن تلك التي يتعرض لها الرجال، لذلك بدأت الشاعرات بعرض تجربتهن من منظورهن الخاص في خطاب شعري ذات أبعاد رؤيوية وجمالية واضحة، يحرص على عدم محاكاة النموذج الذكوري وخطابه المهيمن.

     فقد تعاظم الإنتاج النسوي مع صعود مفهوم النسوية والاهتمام بإعادة قراءة إنتاج المرأة المبدعة، فشهدت تسعينيات القرن الماضي على صياغة مغايرة لنمط المرأة كذات وموضوع. في حين أثار العقد الأول من القرن الواحد والعشرين اتجاها جديدا من النسوية المتحررة وموضوعات جديدة مثل التجارب الجنسية، ووصف الجسد، والكتابة الإيروسية الإيروتيكية.

     فكشفت تلك الموضوعات ـ بوصفها بنية سياسية وثقافية- عن علاقات القوى بين الأنواع الاجتماعية، وهو ما تزامن مع نهاية الموجة النسوية الثانية وبداية الموجة الثالثة من النسوية الأوروبية والأمريكية.

وتظل العلاقة بين الرجل والمرأة إحدى موضوعات الكتابة في قصيدة النثر النسوية، وتظل علاقة متوترة دائما بسبب خلل ميزان القوى الجندري وعنصرية توزيع الأدوار الاجتماعية بين الجنسين؛ ومن ثم فإن صورة الرجل تتأدى بطرق مختلفة في القصيدة النسوية، ويتخذ هذا الأداءعدة أشكال منها نفي للرجل أو السخرية منه أو تمثله في صورة سلبية بهدف نقده وتعرية ما يتباهى بامتلاكه.

     وهنا يدور النقاش حول الجوانب البيولوجية كأساس الاختلاف بين الرجل والمرأة، وهو الأمر الذي يستخدمه الرجل لإبقاء المرأة في مكانتها، وتستخدمه المرأة للإعلاء من شأن صفاتها البيولوجية بوصفها مصادر للتفوق وليس الدونية.

     ففي قصيدة “المرشد الأمين للبنات والبنين بعد سن الأربعين” تؤسس إيمان مرسال وجهة نظر – تقوم على مبدأ الاختلاف الذي تنادي بها النظرية النسوية- يمكن من خلالها تقويض مركزية الذكورة وتجزئتها:

قال خبير أيضًا إنه ليس بالأعراض السابقة فقط نفرق

بين الحيوانين، فقد أثبتت دراسته أنه بعد الأربعين يفخر الرجل

بعدد النساء اللاتي وصلن للأورجازم بواسطته

بينما تندم المرأة لأنها مثلت ذلك المشهد كثيرا،

وليس بعيدا عن فطنتكم أن المرأة لا تتكلم في هذه الأشياء

لأنها بئر نفسها، بينما يتألق الرجل بالحبور كأنه شارعٌ عمومي

ولا تظنوا أيتها النسويات أن ذلك ليس عدلا

فمستمعو الرجل يعرفون أنه يكذب.  (حتى أتخلى عن فكرة البيوت، ص 77)،.

     وفي المقابل تطالعنا الشاعرة غادة خليفة في قصيدتها “تقاطع مع سليفيا” بما يعرف باسم “النظرية التقاطعية”[viii] التي توحد من طبيعة التجارب النسائية وإمكانية تقاطعها رغم اختلاف الهويات والإنتماءات التي يكتسبنها بسبب مواقعهن المكانية والزمانية المختلفة؛ الأمر الذي يخلق نوعًا من التضامن النسوي على جميع المستويات، وتفعيل الممارسة العملية التي تحاول النسويات عن طريقها فهم التجارب المركبة للنساء.

     فتستدعي غادة خليفة تجربة الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث وزواجها من الشاعر تيد هيوز وحياتها التي أنتهت بالانتحار بعد الاستسلام لغواية الرجل/الشعر، لتمثل خليفة تجربتها من خلال إعادة تمثل تجربة بلاث وتستشرف من خلالها نهايتها التي ترى أنها لن تختلف عن نهاية بلاث:

لقد أغواني بشعره فذهبتُ

لكنني لم أتزوجه يا سيلفيا

رأيت تعاستي تتسلق جدران حبنا بصبرٍ

واخترت أن أكتب فقط

لم أترك نفسي للحب

بل وضعته تحت سيطرتي

لويت ذراعه كي أبتهج

لكنه كان يبكي دائما (نسيج يستقيظ، ص 12)

     وفي قصيدة “مكعب روبيك” تعتمد غادة خليفة على اتحاد الصورة البصرية والصورة الشعرية، فتستعين بالسيناريو السينمائي شكلا ومضمونا، مع عدم الالتزام بطرق كتابته إنما بتطويعه لطبيعة التجربة الشخصية ولطبيعة خطابها الشعري الذي يقوم بتوحيد التجارب النسائية مرة أخرى:

الكاميرا تدخل من الباب

تتحرك ببطء نحو الحجرة

تليفزيون صغير وجهاز كمبيوتر

على الأرض

تجلس امرأة في منتصف الثلاثينيات

Zoom in

عينان على وشك البكاء وأنف أحمر

يدان تغزلان بلوفر في آلية

العينان تحدقان في التليفزيون

     تستلزم قراءة القصيدة والوقوف على خطابها ومقصدية الشاعرة خبرة سابقة من القارئ ومروره بالفيلم الذي توظفه الشاعرة داخل بنية القصيدة ليكمل الفجوات السردية لتجربة الذات الشاعرة بمشاهد السيناريو السينمائي.

     فعبر حركة الكاميرا التي تتنقل بين ثلاث شخصيات رئيسة: الذات الشاعرة، وكيت ونسلت، وكاميرون دياز تنقل خليفة التجارب التي تمر بها الشخصيات النسائية والتي يتحدد العامل المشترك بينها في شخصية “الرجل” والذي يتمحور دوره ما بين الاستغلال أو الخيانة أو الغياب:

(كاميرون دياز) تجلس في البانيو، وتفكر في أفعالها

المتكررة لإبعاد الآخرين، تكتشف نفسها كامرأة تخاف

الصوت يعلو داخل رأسها مخبرا إياها بأنها تكرر أخطاءها

تقفز فجأة

تقوم بفعل أحمق كي يتغير العالم

Zoom in

حياتي سلسلة من الأفعال الفاشلة

حياتي لا تتغير

بل تتكرر

تتكسر

Cut

(كيت ونسلت) تشاهد أفلاما قديمة وتنسج علاقة دافئة

مع رجل عجوز، يساعدها على أن تخلع أوهامها

بسرعة. (تسكب جمالها دون طائل، ص 58)

     وحسب النظرية النسوية نجد أن هناك سعيا واضحا تجاه كتابة تساعد على فهم التجربة الأنثوية، الأمر الذي يفرض حديثا عن الجسد الأنثوي باعتباره مصدرا مهمًا لتلك الكتابة.

     فوعي الجسد يعني بالضرورة وعيا بالذات الأنثوية، لذلك كان الجسد الأنثوي- ككيان مادي- حاضرا بقوة في النص النسوي؛ فالوعي النسوي بالحقائق البيولوجية عن جسد المرأة دفعها أن تكتب عنه، وأن تكتشفه وتعبر عنه بنفسها بعيدا عن الخطاب الذكوري الذي أساء عرضها.

     تعتمد فاطمة قنديل في قصيدتها “الحب ناصية للتسكع” خطابا شعريا يدعو إلى إزاحة ما هو جسدي، وبالتالي تغيب دور الرجل الذي يتعامل مع الأنثى وفق الأدوار التي حددها ـ سواء هو أو المجتمع- لها، حيث تم تحديد كيانها تبعا لحدود كونها موضوعات جنسية للرجل (عذراوات أو عاهرات أو زوجات أو أمهات)، ومن هنا كان التخلص من الجسدانية هو تخلص من الرجل ودوره في حياة المرأة:

لن أرتدي جسدي هذا الصباح، لأن جسدي:

1) يجب أن ينقلب كجورب

2) لأنه قد يصلح إفريزا

3) لأنني لا أذكر أين تركته بالأمس

وهي لن تمطر هذا الصباح، فلماذا أسير وفوقي ظل

يراقبني طوال اليوم؟ (صمت قطنة مبتلة، ص 70)

     وإذا كانت هذه الصورة عند فاطمة قنديل تعبر عن أهمية هذا الجسد وأهمية الأنوثة كما ينشدها الرجل، فإن هذا الجسد يصبح مجرد «جثة» في قصيدة زيزي شوشة “أظن أنني أعرفه” الذي عبر جهازها العنواني عن مفارقة تتصل بالشك في المعرفة، فبرعم غياب اليقين في معرفة الذات الشاعرة لماهية “الرجل”، إلا أنه يقينيها بماهية ذاتها تتأكد في نهاية القصيدة:

 كل ليلة

يأتي رجل

أظن أنني أعرفه جيدا

أعرف مشيته الضيقة،

نظرته البعيدة،

اسمه الدائم،

حذاءه الذي يشبه مدينة

لا نوافذ لها

الرجل الذي يأتي كل ليلة

يضع قبلتين جامدتين على وجهي،

ثم يجلس إلى جواري

ينبش في ذاكرتي

يكسر صوتي على المائدة

وبعد أن يفرغني

يحرك يده على جثتي (اسمح لليل بالدخول، ص 23)

     من هنا تتفق الأصوات النسوية على أن علاقة الرجل بالجسد الأنثوي واحتياجاته تختلف عن علاقة المرأة به؛ كما أن خطابه يشوه صور تمثيلها ويفرغها من علاماته، ويعرضها في نسق يظهر الجسد الأنثوي كوجود سالب.

     فقد استخدمت الحركات النسوية الجسد بوصفه سلاحا لمحاربة كل أنواع السلطة أو التسلط الذي مورس ضدها، متأثرة بمقولات ميشيل فوكو عن أن “الجسد هو أول موضوع تمارس عليه السلطة فعلها، والحقيقة إن السلطة تخلق الفرد ابتداء من جسده”[ix]، ومن هذا المنطلق علت أصوات نسوية تنادي بضرورة كتابة المرأة لجسدها الذي هو ملكيتها الخاصة، وأن تصف ما تم سرقته منها من قبل المنظومة الذكورية.

     لذلك تعلن غادة خليفة عن رغبتها الواضحة في ألا تقابل جسدها لأنه كما جاء في ختام خطابها الشعري “معاقب للأبد” من قبل المجتمع ومحدداته، وهنا تطالعنا خليفة بخطاب “الأم” المستدعى بوصفها ممثلة للنظام الأمومي الذي استقى الخطاب الذكوري منه -في أغلب الأحيان- قوته، الذي يعادل النظام الأبوي في خطابة المهيمن:

لا أرغب في مقابلة جسدي،

مرآة الحمام تتحداني وتضع جسدي عنوة أمامي،

أتجاهل مهبلي، هذا الجزء ليس موجودًا لديّ،

قطّعت مهبلي بسكين الخيال وخرجت إلى العالم بجسد خالٍ من الأذى.

في المرآة أنظر إليه باحتقار وخوف، أليس هو باب عذابي القديم/ الجديد.

أمي جذبتني من شعري لأنني أنثى وعلامة أنوثتي المهبل

ألم تجلب لي الأنوثة الأذى في الشارع

هذا المهبل هو الذي أفقدني حريتي وقادني داخل حروب طويلة.

أحمل فضيحة متحركة بين فخذيّ،

مهبلي يتكلم في أحلامي ويشكوني إلى أسناني

وهي تساعده وتصرخ معه كي أرضخ لهما معًا. (حنان أخضر يغلي)

     اعتمدت خليفة الإيروتيكة بوصفها نمطا من أنماط كتابة الجسد وتحولاته يختلف عن نمط البورنوجراف؛ لبحث وضعية المرأة وإنتاج ثقافة جديدة تعطي لها المكانة التي تستحقها-وفق الخطاب النسوي-.

     فعمدت إلى وصف الجسد من منظور نسوي واضح، عبر صوت نسائي على وعي كامل بلغة جسده ومفرداته وأماكن تحقيق متعته، فجاء وصف التجربة الإيروتيكية ليكشف المساحة المحدودة التي منحتها الثقافة الذكورية للتجربة الجنسية النسوية من خلال صوت نسائي وسرد بوحي داخلي:

     نفسي بريئة ومغوية، تغزل ذاتها بمكر وتصطاد الحب من أفواه الطيور الجائعة.

جسدي جديد وناعم، يشتبك بسرعة فائقة ويتبادل الأدوار،

القبلة الأولى مُرّة والقبلة الأحدث تشبه الآيس كريم.

الشفاه تدور في محاولة لأن تصل، تدور ببطء مثل صامولة ناعمة ثم بقوة،

ثم بقوة أعلى كي تثقب جدارًا راسخًا اسمه الطفولة.

جسدي يفاجئني برغبة تتكاثر، لا أستطيع البقاء طويلا في العناق،

ترغب أسناني في قطعة صغيرة من الرقبة.

أسناني تحب وتأكل كل ما تحبه فورًا.

العناق لا يشبه خيالي عن العناق،

العناق الحي خليط من الصفاء والألم والرغبة والخوف

وتبادل الأجساد والاطمئنان،

العناق الحي يتكلم وعناق الخيال يسكت وينتظر. (حنان أخضر يغلي)

     ومن الممكن القول بأن المتعة الجنسية ليست جسدية في الأساس بل هي متعة روحية، فالاضطراب النفسي الذي يحيط بالشخصية يضطرها إلى الهروب من الوحدة بالإثارة الجنسية، التي من خلالها تجد الوسيلة لإطلاق سراحها، فـ”الشبقية” هنا ليست توظيفا للمعنى الحرفي المباشر، بل هي لغة جسد من شأنها أن تحرر لغة الواقع المضطرب:

زوجي يلتصق بي فأتشبث به مثل امرأة ترغب في فقدان نفسها

أخلع حياتي السابقة كلها قربانًا لدبلة صغيرة

الوحدة تنام جواري وتراقب علاقتي بزوجي،

الوحدة تلتصق بالسرير

أحتاج إلى زار كي أطردها إلى الصالة

زوجي أخبرني أنه تزوجها معي في اليوم ذاته

وأنه قادرعلى إمتاعنا معًا (حنان أخضر يغلي)

     وتلجأ زيزي شوشة في قصيدتها “المأساة” إلى الكتابة الإيروتيكية في محاولة لإعادة صياغة مفهوم الإيروتيكا وتعريفه من وجهة نظر نسائية، واستخدامه للتعبير عن الألم أو الجرح أو الصدمة أو المأساة كما اتضح من الجهاز العنواني.

     وعبر رمزية واضحة وعبر أسلوب طلبي يزاوج بين النهي والأمر، تتوجه الذات الشاعرة بخطابها الشعري “للآخر” وتنصحه بالطريقة التي يجب من خلالها أن يتعامل مع جسدها بعيدا عن أفكاره المسبقة عن الجسد الأنثوي واختزاله له بما يتوافق مع شروطه الخاصة، مشيرة إلى وعيها الكامل بحقائق جسدها وأماكن قوته وضعفه:

القبلات

التي تتعمد وضعها على جبيني،

تنبش في ذاكرتي السوداء

من فضلك: لا تكرر المأساة

أسنانك

التي لا تجيد التعامل مع التفاح

تذكرني بمناطق الوجع فيّ،

أرجوك: كن رقيقا معها

أنصحك:

لا تفكر في الدخول إلى غابتي المظلمة،

أخشى عليك من الهلع

كما أنني لا أفكر في التخلص من أعشابها،

وقبل أن ترقد على الأرض لتمحو الخسارات

دعني أجلس معك معها طويلا؛

أريد التمعن فيها

لا تنزعج

فالرب نفسه

يخسر كل يوم (اسمح لليل بالدخول، ص 42)

     فالكتابة الإيروتيكية جاءت بوصفها مجابهة مع المحظورات التي حددها المتن الثقافي، ووسيلة لاقتحام الصوت النسوي الخطاب الذكوري وإعادة تمثيل الدوافع والرغبات الجنسية كوسيلة لقمع المرأة.

وتعد تجربة الأمومة والكتابة عنها موضوعا من موضوعات الكتابة النسوية لقصيدة النثر التي لا ينفصل عن كتابة الجسد، وفي هذا الصدد تطالعنا مقولات جوليا كريستيفا عن “التأثيرات الجسدية للنساء الأمهات”، ومقولات أدريان ريتش عن مفهوم “التناقض الأمومي” الذي يعني حتمية الحب المبطن بالمعاناة.

     تعتبر “ريتش” التقلُّب بين مشاعر الألم والمتعة والإحباطات والإنجاز والوفاء، نتيجة للسلطة الأبوية، التي اعتادت تقسيم النساء إلى صالحة وغير صالحة، خيرة وشريرة، ولود وعقيم، وما إلى ذلك من ثنائيات تخلق توقعات عن مثالية الأمهات؛ بعيدا عن مشاعرها الخاصة المتناقضة[x].

     وتتخذ المجموعة الشعرية “وبيننا حديقة” أزمة الأمومة موضوعا لها؛ معتمدة على بنية الرسائل التي تتبادلها الشاعرتان سارة عابدين ومروة أبو ضيف. وكفلت هذه البنية حضورا مزدوجا للتلقي؛ فنجد أنفسنا أمام نوعين من المتلقي، متلقي الرسالة الحقيقي الذي يستهدفه المرسل بنص رسالته (مروة/ سارة بالتبادل)، والمتلقي الذي يتحدد في القارئ الضمني –بتعبير فولفغانغ إيزر- الذي يرافق المرسِل في جميع مراحل إنجازات العمل، ويصطحبه في رسم كل الاستراتيجيات التي تكون الرؤيا الشمولية للنص.

     وقد انشغلت الشاعرتان في رسائلهما بسؤال الأمومة وبمحاولاتهما لإيجاد تعريف له، بعدما خبرا تلك التجربة بكل تبعاتها التي تركت آثارها المادية والمعنوية على الجسد، ففي إحدى الرسائل، تثير الذات الشاعرة سؤال الأمومة وعددا من التساؤلات حول ماهيتها، ثم تضع إجابة مقترحة لسؤالها يعبر عن إحباطها من تلك التجربة:

ولكن ما هي الأمومة يا سارة؟

لكزة في الروح؛ لتفيق من نوبة تأملٍ طويلة

أم صفعة على الوجه بعد سنوات من اللا مبالاة والطمأنينة الزائفة؟

مهاراتٌ غير ضرورية نتعلمها على مضض… (وبيننا حديقة، ص 85)

     وفي الجانب الآخر، لا تستطيع الذات الشاعرة تعريف الأمومة، لكنها تستطيع أن تلمح تبعات ذلك الدور عليها وآثاره الواضحة الموسومة على وجهها، ويتضح في رسالتها هيمنة الرؤية السردية الذاتية، ونمط “الكتابة من الداخل” التي تميز كتابة المرأة عموما، والمبنية على فكرة المعايشة:

ربما لا أعرف الأمومة جيدًا

لكن،

أنا المرأة التي تحتفي بالهالات السوداء

أربت عليها كل يوم؛ لأتأكد من وجودها حول عيني، ثم أنزعها برفق صباحا

أضعها في المتحف الصغير الذي أقدمتهُ في ركن الدولاب

أتخيل أنها ستكون المرة الأخيرة

وأن كريم ماكس فاكتور أقوى من نوبات الأرق والبكاء

في الليل، تنبت لي هالات جديدة

أُفسح لهم مكانا جديدا في الدولاب. (وبيننا حديقة، ص 87)

     بجانب مشاعر اليأس والإحباط وما تم تسميته بخطاب التناقض الأمومي الذي طرحته “أدريان ريتش”، نجد خطاب العنف الذي يعنى بوصف التغييرات الجسدية التي تطرأ على جسد الأم بسبب تلك التجربة؛ فبعد أن يكون جسد المرأة ملكية في يد الرجل، تنتقل تلك الملكية إلى الأبناء أثناء الحمل وبعد الولادة، فالجنين يحافظ على بقائه باستغلال جسد الأم معتمدا عليه في كل ما يحتاجه ليعيش في تغذيته الداخلية، وفي عملية التغذية الخارجية كالإرضاع والاعتناء:

أنا أذكر جيدا:

تآكل جسدي تماما لصالح بطن منتفخ

رأسي أُفرغت بكاملها وملأتها الكوابيس

 أما عيناي؛ فتبدلتا كرتين جاحظتين وحمراوين

أنا على يقينٍ أن شيئا ما كان يأكلني من الداخل. (وبيننا حديقة، ص 49)

     بجوار الخطابين السابقين يطالعنا خطاب الذنب، فعلى مدار التاريخ الأدبي والاجتماعي لم تدن المنظومة الثقافية نمط الأب الهارب أو المتنصل من المسؤولية أو المحبط، ولم تعرضه بصورة وحشية أو تجعله يعاني إحساس الشعور بالذنب في التمثلات الأدبية، خلافا لنمط الأم التي أصبح الشعور بالذنب هو الشعور الأكثر ملازمة لها طوال تجربتها الخاصة وممارستها لفعل الأمومة.

     ومن هنا يرتبط الشعور بالذنب بالمحددات التي وضعها النسق الثقافي في خطابه الخاص بمثالية الأمومة ومقوماتها وكيفية ممارستها، كما يرتبط كذلك بالفجوة الواضحة بين الحلم والواقع، بين ما ترغب الأم في تحقيقه وما يفرضه الواقع من معوقات نفسية واجتماعية قد تحول دون ذلك.

     ويتصدر المشهد كذلك الخبرات الشخصية للأم، وعلاقتها أيضا بأمها في مرحلة سابقة أثرت على تكوينها النفسي الحالي، وتشككها في مدى صدق ما تغرزه الآن داخل أبنائها من قيم ومبادئ قد لا تتوافق مع ما تعلمته في السابق:

فتاة ترقص مع ثلاث ورداتٍ صغار

وتهمس لهن:

بألا يصدقن الناس

ويرقصن الفلامنكو بخفةٍ في الحديقة النابتة في قلوبهن الصغيرة

ليدققن بكعوبهن عنق العالم

وتعلو بهن كرانيش الفستان إلى السماء

ليتركن العلبة الملونة ويرمين الذاكرة الثقيلة

ويصبحن مثل مظلات ملونة تظلل سماء الكون. (وبيننا حديقة، ص 77)

     ربما يصبح الشعور بالذنب الشعور الأكثر ملازمة للأم طوال تجربتها الخاصة وممارستها الأمومة، بسبب إحساس التقصير من ناحية، وكسر التوقعات التي بناها الأبناء عنها من ناحية أخرى، ورغبتهم-في المقابل- في أم بديلة، وهو ما نجده في اعتراف إحدى الشاعرتين في رسالتها:

نحن عاديون يا سارة

وهذا ما يؤلمنا …

حتى الصغار

لن ينظر إلينا أيٌ منهم بإعجابٍ أو تمنٍّ.

أتصور يوما يقول لي أحدهم

“أوووف! لماذا أنتِ؟

لماذا ليست السيدة العظيمة هناك؟!”. (وبيننا حديقة، ص 79)

     ويعود السبب في ذلك ـ حسب الطرح النسوي- إلى تلك المعارضات الأبوية الثنائية بشأن الأمومة، بوصفها الوسيلة التي بواسطتها يستمر قمع المرأة بشكل عام والأم بشكل خاص داخل النسق الاجتماعي، والأساس الذي وفق له يُسمح بتمثيل الأم في صورة سلبية في النص الأدبي.

     ومثلما تؤثر تجربة الأمومة على النساء يؤثر غيابها عليهن كذلك؛ فهي التجربة الأكثر إلحاحا على المرأة. وترى الشاعرة غادة خليفة أن تلك التجربة كان من شأنها أن تحسن علاقتها بأمها، وهي علاقة متوترة كما يتضح من ذلك النص ومن خطاب الشاعرة في بنيته الكبرى:

قلبي مفطور وفارغ،

رحمي خصبة ونابضة،

بويضاتي تشيخ معي،

الأمومة جذبتني من شعري على السلم،

وابتسمت في تشفٍ.

ابنتي من الخيال تموت،

جسدي يأمرني أن ألزم حدودي

لن يكون لي طفلة يا أمي،

كنت أجهز الخيوط والإبر كي أرتق ما بيننا

دربت نفسي على الحياة لأتنافس معك،

كنت سأفوز،

أمومتي خالية من الأذى.

للأسف وصلتُ متأخرة

ليس بإمكان ابنتي أن تأتي الآن. (حنان أخضر يغلي)

     ولا تنفصل صورة الأمومة عن فضاء الذاكرة واستدعاءاته الواضحة لفضاءات الطفولة، ليصبح موضوعا من موضوعات الكتابة الذاتية القائم على خطاب البوح الذي يعمل على صوغ الذات ويكثّف من حضورها؛ فمثلما سعت قصيدة النثر النسوية إلى تقديم الرؤية الأنثوية للعالم بعيدا عن الوصاية الذكورية، سعت كذلك إلى تقديم ذاتها بشكل صريح عبر كتابة سيرذاتية واضحة.

     فتستعيد إيمان مرسال علاقتها بأمها في قصيدة “لعنة الكائنات الصغيرة” عبر استعادة فترة طفولتها؛ معتمدة على تقنية الصورة التي من شأنها أن تجمد الزمن في لحظة معينة، وبالتالي تعيد بناء فضاء المكان بسياقاته النفسية كجزء من استراتيجية بناء فضاء بديل:

امرأة وطفلة، شاحبتان لأن الصورة لم تكن خالية من

الأحماض، المرأة لا تبتسم (رغم أنها لم تكن تعرف

أنها ستموت بعد ذلك بسبعة وأربعين يوما بالضبط)،

البنت لا تبتسم (رغم أنها لم تكن تعرف ما هو الموت)،

للمرأة شفتا البنت وجبينها (للبنت أنف الرجل الذي

سيظل دائما خارج الصورة)، يد المرأة على كتف

الطفلة، كف الطفلة منقبض (ليس ذلك بفعل الغضب بل

لوجود نصف حبة من الكراميل)، فستان البنت ليس من

القطن المصري (عبد الناصر ـ الذي كان يصنع كل

شيء- مات من سنين) والحذاء وارد غزة (غزة كما

تعرف لم تعد منطقة حرة على الإطلاق). ساعة المرأة

لا تعمل ولها حزام عريض (هل يتماشى

ذلك مع موضة 1974؟).  (حتى أتخلى عن فكرة البيوت، ص 11)

     وفي النهاية، يمكن القول بأن حدود التجريب في قصيدة النثر النسوية تحددت بشكل أوضح في القضايا التي طرحها الخطاب الشعري والذي جاء حاملا الصوت النسوي الواضح للشاعرات محل الدراسة، ومتقاطعا مع الخطاب النسوي في عمومه.

     أما الآليات الفنية فجاءت متوافقة مع ضروريات النسق الثقافي الذي انفتح على الفنون البصرية والأنواع الأدبية المختلفة، ومتوافقة كذلك مع خصائص قصيدة النثر العامة، إلا أن خصوصيتها تكمن في طرق توظيفها بصورة تخدم مقصدية الخطاب.

 

 

هوامش الدراسة:

* روبرت هولب: الحداثة والحداثية والتحديث، ت: فاتن مرسي، ضمن: موسوعة كامبريدج في النقد الأدبي، القرن العشرون- المداخل التاريخية والفلسفية والنفسية، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000، ص 400

 

[1] رضا الظاهر: غرفة فرجينيا وولف، دراسة في كتابة النساء، دار المدى، دمشق، 2001، ص 10

[1] Mary Eagleton: feminist literary theory, Wiley-Blackwell press, Second Edition, 1996, p. 164

[1] Ibid, ibid

[1] Gerda Lerner, The Creation of Feminist Consciousness, from the middle ages to eighteen-seventy,  oxford university press, 1993, p.14

[1] Maggie Humm: : Feminist Literary Theory, Contemporary Feminist Theories, Stevi Jackson, Jackie Jones (editors), Edinburgh University Press, 1998, p. 74

[1] Teresa de lauretis: upping the anti (sic) in feminist theory, in: feminisms, an anthology of literary theory and criticism, Robyn R. Warhol and Diana price herndl (editors), Rutgers, the state university, 1997, p. 326

[1] هالة كمال (تحرير وترجمة): النقد الأدبي النسوي، سلسلة ترجمات نسوية، العدد 5، مؤسسة المرأة والذاكرة، 2015، ص 11

[1] راجع: كمبرلي ويليامز كرينشو: استكشاف الهامش، التقاطعية، سياسات الهوية والعنف ضد النساء الملونات، ت: تامر موافي، اختيار، 2016

[1] راجع: ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة، ولادة السجن، ت: على مقلد، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990، ص 204

[1] Adrienne Rich: Of Woman Born : Motherhood as Experience and Institution, W. W. Norton Company, new York, 1995, p. 11-19

………………

د. ناهد راحيل

مدرس الأدب الحديث والمقارن

كلية الألسن قسم اللغات السامية (عبري)

شاركت في العديد من المؤتمرات الدولية، والورش الإبداعية العربية

الكتب المنشورة:

ـ يهود البلدان العربية والإسلامية في المناهج التعليمية الإسرائيلية،  

  ضمن: المفاهيم الصهيونية في الكتب الدراسية العبرية في إسرائيل،    

  إعداد أ.د. محمد الهواري، دار الآفاق العربية، القاهرة، 2016

ـ شعرية العتبات- دراسة في النص الموازي لشعر محمد عفيفي مطر،  

  إصدارات دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، 2016

ـ فضاء البوح والذاكرة، ضمن: المبشرون بالشعر، إعداد حسين

  القباحي، إصدارات دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، 2016

ـ الشعر والفنون، دراسة مقارنة في آليات التداخل، الهيئة المصرية    

  العامة للكتاب، القاهرة، 2019

الجوائز:

ـ جائزة النقد في المسابقة الأدبية المركزية، التابعة للهئية العامة لقصور

  الثقافة 2014/ 2015

ـ جائزة الشارقة للإبداع العربي- الإصدار الأول، محور النقد، دائرة

  الثقافة والإعلام ـ الشارقة ـ دولة الإمارات العربية المتحدة 2016

ـ جائزة محمد عفيفي مطر، محور النقد، ضي – أتيليه العرب للثقافة   

  والفنون، 2018

……………………………….

*تنشر هذه الدراسة بالاتفاق مع مؤتمر قصيدة النثر المصرية ـ الدورة السادسة

مقالات من نفس القسم