جَسدان من ماءٍ

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 22
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

البشير الأزمي

 أتذكر ..

أتذكر أنه لمّا انحسر الفجر وبدأ نور الصبح يرسل خيوطه ليضيء جدران الغرفة بدت صورة جدك وأبيك تُطِلَّان عليك.

أحسست برطوبة الدمع في عينيك لكنك صبرت، عضضتَ على شفتك السفلى وصبرت، منعتَ صوتك من أن يخرج ويفضح ضعفك، سالت دمعة من عينيك لم تستطع حبسها.. عُدْتَ القهقرى وتواريت.. سألتَ أمَّكَ، ذات مرة، لماذا لا تضع صورتها وصورة جدتك على الجدار جنب الصورتين. نظرت إليك، نظرتها أوحت لك بسيل من المشاعر التي تجتاحها..

كَلَّمْتَ أُمَّكَ عن المساواة بين الجنسين، ابتسمت.. كانت ابتسامتها تَنِمُّ عن أمرٍ لم تستوعب فَحْواه، قالت ” كلامُك عديم النفع..”، صمتَتْ لبرهة وتابعت:” جراحات الزمن…”، لم تستوعب ماذا تقصد بجراحات الزمن، الجرح الوحيد الذي كنتَ تعرفه هو ما سَبَّبَتهُ، باستمرار، معاملة أبيك لكَ منذ علمتَ بمعاشرته أرملة من القرية المجاورة لقريتكم. عَلِمَ أبوك الأمرَ فكانت الجراحات..

كبرتَ.. اندملت جراحاتك إلا جرحك الداخلي ظل ينزف.. أمك أمامك صامتة، صمتها يقتلك.. صَمْتٌ مثقلٌ بالإشفاق والعجز..

أتذكر أنك حكيت لي مرة أنه كلما اقترب أبوك منك كنت تعتدل في وقفتك، تباعد ما بين رجليك وتزم قبضة يديك استعداداً لصدِّ المفاجأة.. كلما التقت عيونكما كانت عيناك تهربان بعيداً.. تَحُوصُ في محجريهما، تتراقصُ عضلات خَدَّيك وأنت تخشى أن تلتهم عيناه وجهك..

أتذكر أنكَ كنت، دوماً، تعتقد أنَّ الشَّرَّ يوجد في مكان آخر.. في عمق روحك تَرَسَّبت أحلامُ أفراحٍ مُؤَجَّلَة.. أطللتَ من النافذة.. عصافير تتقافز على حبل الغسيل، تحط وتطير، تنتقل إلى أشجار باسقة، تعاود الطيران.. ترسم أشكالاً في السماء وأنت تضغط بكفك على الجرح لتحبس سريان ألم يفور منه.

لم تعدْ تحلم أن تعود إلى مرتع لهوك الطفولي كما يفعل أقرانُك.. مرتعُ لَهوكَ أضحى جحيماً، كلما ملأك الشوق إلى العودة إليه تحرقك شظايا نار تهب من نظرات أبيك، ترى الحياة تسعى إلى الناس، وتبتعد عنك، تفر منك.. وَخَزَكَ الزمنُ.. كلما وقف أبوك أمامك تُهَرِّبُ نظراتك نحو النافذة كأن الأمر لا يعنيك.. لم تعد تشعر بدفء الأبوة.. الصمتُ يحوم حول المكان ونظراتك تشرد في العتمة..

أتذكر أنك قلتَ، في مثل هذا الضعف علينا أن نستنجد بالماضي.. كان الماضي بالنسبة إليك أن تغمض عينيك وتستدعي ذاكرتك تبحث فيها عن طيف حلم، يصالحك مع واقعك الذي انفلت منك أو انفلتَّ منه.. لم يكن ذلك الحلم المنفلت من الذاكرة سوى جدتك…

اقتربت من النافذة، أطللتَ، جدتك وأمك رابضتان على الهضبة، ثيابهما حال لونها وفاحت منها رائحة عطنة، وصلتك تلك الرائحة رغم بعد المسافة.. قاومتَ دوار رأسك، مسحت عرقك بكفيك.. جدتك تنفخ في النار ليشتد أوارها سعياً لصد بردٍ أوشك أن يرديهما جثتين هامدتين.. خِفْتَ إن اشتدَّ أوار النار أن يلتهب الجسدان ويذوبان. عَزَّ على نفسك أن يتحول جسدا جدتك وأمك إلى ماء..

التفتَّ خلفك لا أثر للصور على الجدار سوى صورة جدتك.. أطللت النظر إليها, من عيني جدتك يطل الفرح.. كادت آمالك أن تتقزم، أغمضتَ عينيك.. فتحتهما.. كانت جدك جالسةً إلى جانبك تصيخ لك بسمعها مستطلعةً.. حكيتَ وحكَيْتَ.. امتلأتِ اشمئزازاً مما حكيتَ لها، كانت تصغي إليك مندهشة، فَكَّتْ أصابع يديها المتشابكتين، لَوَّحَت بيديها في غضب واقتربتْ منك أكثر، أحاطتكَ بذراعيها، أحسستَ بنبضك الداخلي يتسارع، همستَ لها أنك أحسستَ أن وجودك معها لم يكن إلا بهجة عابرة..

التفَتَّ خلفك، صورتا جدك وأبيك تطلان عليك من الجدار..

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون