جمال القصاص: السبعينيات آخر جيل شعري

جمال القصاص: السبعينيات آخر جيل شعري
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حوار: إسـراء النمر

في طريقه إلى مكتبه بالمهندسين، كان يمر جمال القصاص على بائعة جرجير تُدعى فوزية. كانت بائعة كأي بائعة، وكان هو كأي عابر، يلقي عليها نظرة لا تخلو من لامبالاة، ولأن هذا كان يحدث بشكل يومي، تراكمت لديه النظرات، حتى صارت تزاحمه، وتشكل سؤالاً كبيراً: ما الذي يجعل ابتسامة هذه المرأة مُشعة، ما الذي يجعل وجهها مُشرقاً كما لو أنها تنتظر حبيباً، أو حلماً، سيغدو للتو حقيقة؟

لجمال القصاص -بالطبع- عينان، لكنهما عينان تخصان شاعراً وصحفياً معاً. عينٌ منهما تريد أن تظل متأملة.. ومتألمة، والأخرى تريد أن تعري كل ما يصادفها من أشخاص وأماكن وقطط.

لم يفكر الشاعر الذي بداخله -مرة- في الحديث إليها. الشاعر الذي بداخله لا يبحث عن إجابة، الشاعر الذي بداخله ما هو -أساساً- إلا جسد متناثر على شكل سؤال.

الصحفي الذي بداخله أيضاً لم يفكر في ذلك إلا حين اضطر لأن يعد “فيتشر”، كي يملأوا به بياضاً مُباغتاً.

يبتسم جمال وهو يحكي: “لا أعرف لِمَ خطرت على بالى هذه المرأة. ربما لأنها كانت قريبة مني، وربما لأنني ارتبطت بها من فرط رؤيتها. لا أعرف صراحة”.

بدا كلامها له في البداية عادياً، إنها تبدأ عملها في السادسة صباحاً، وتحرص على أن تكون بضاعتها طازجة. يتذكر: “كانت فرشتها تتحوّل إلى كرنفال شهي من الألوان الحية”.

في لحظة الكتابة، التي لا يستطيع فيها أن ينحي الشاعر جانباً، اكتشف جمال القصاص أن صراع هذه المرأة الأساسي مع اللون الأخضر، إذ تقضي وقتها كُله في رش الجرجير بالماء، حتى لا تصفر وريقاته.

كان صراعه هو أيضاً – في ظني – مع اللون الأخضر؛ أخضر قلبه، وأخضر القصيدة.

إنه لم يسمح لقلبه -طوال سنوات عمره التي تزحف نحو السبعين- بأن يضمر، في حين ترك للوهن الفرصة كاملة لأن يتسلل إلى بقية أعضائه، حتى أصبح محض جذر شائخ يبحث عن شيء يسند الظهر. وبالنسبة لقصيدته فعكف على مدها بصور شعرية مجنونة، ومُدهشة، مثل: “لصمتك رائحة الخبز” و “أنت نعناع صوتي”.

أما أخضر الحياة، فكان الأخضر الذي كلما بهت، أخذ جمال من أخضر قلبه وأخضر القصيدة، كي يعيد له بريقه.

هكذا ظل يحاوط الأخضر، كما تحاوط أم طفلها، وكما تحاوط ذراع خصراً تشتهيه.

لكن هل ثمة أخضر في الموت؟

قبل سنوات، اشترى جمال القصاص -وهو الذي لم يعتد لأن يمتلك شيئاً- مقبرة. ولأنه لا يجد راحته في أي مكان، ولأنه يعيش وحيداً، صار يتردد عليها، لكي يستمد منها الطمأنينة، ولكي يجد فيها من يحادثه!

هو لا يريد الموت، هو يريد حياة داخل الموت. أو يريد -كما قال في ديوانه الأحدث (جدار أزرق)- أن يرووا عنه أنه أحب بشجاعة.. مات بشجاعة، وكان ثمرة لم ينضج رحيقها في عطش الفم.

في هذا الحوار نقترب من جمال القصاص بالقدر الذي يقترب فيه من جسده، ومن الشعر.

  • كان مفاجئاً للبعض، خصوصاً من الذين ينتمون لنفس جيلك، أن تمنح لديوانك عنواناً لا يتماشي مع ذائقتهم، ولا يتماشي حتى مع رؤيتهم لما أفرزه هذا الجدار الأزرق من نصوص وشعراء. هل أردت باختيارك لهذا العنوان أن تعلن انحيازاً ما، أم أنه محض تغريد خارج السرب؟

ليس الأمر كذلك بالضبط. اخترت عنوان (جدار أزرق) لأنني كتبت غالبية نصوص الديوان على الفيسبوك، وهذا لا يعني أنني منحاز تماماً له، ولما يخرج عنه، لأن الكتابة على الفيسبوك تظل -بالنسبة لي- كتابة عابرة، ولا ترسخ لأشياء ذات قيم حقيقية، وهو ما دفعني لإعادة كتابة النصوص، واستبعاد الكثير منها، ناهيك عن النصوص التي لم أستطع جمعها والتي بهذا الشكل فقدتها للأبد.

اخترت هذا العنوان أيضاً، كتحية لهذا الجدار، الذي ساعدني منذ تشيده على ألا تتوقف يدي، والذي وفر لي قيمتين أساسيتين هما: المتعة والتسلية. ففي الفيسبوك تشعر أنك ممثل يقف على مسرح أمام جمهور عريض، جمهور قد يصفق، وقد لا يصفق -للغرابة- حين يعجبه شئ. أو تشعر أنك فنان تشكيلي، عليه أن يرسم من اللمسة الأولي، بشكل فيه قدر كبير من التلقائية والحميمية.

وأنا فعلت ذلك، كتبت الشعر بإحساس الرسام، الذي حين يعود بلوحته إلى بيته، يقضي الليل كله وهو يعدل ويضيف ويغير من ألوانها. في الفن لا يوجد رضا تام. كل إحساس بالنقص هو في الحقيقة إحساس بالإضافة. التمام في الفن هو تمام النقص، وليس تمام الكمال النهائي.

وهذه هي المعضلة الرئيسية التي يواجهها، ويعاني منها، الفنان، أو الشاعر.

صحيح أن هناك نصوصاً تحقق نوعاً من الإشباع، لكنه إشباع مؤقت، إشباع يكون بمثابة جسر للبحث عن لحظات إشباع أخرى. لذا يجب على الشاعر أن يكون لديه القدرة والشجاعة على الحذف، لكي يخلص نصه من أي ترهلات لغوية، ومن أي زوائد دلالية ورمزية، ولكي يستوي النص إلى ذاته.. إلى ما يخصه هو.

العالم أساساً بكل مضامينه الاجتماعية والسياسية والإنسانية، مليء بإغراءات بإمكانها أن تشوش على ما أسميه الوعي الداخلي للنص، هذا الوعي به لحظة نور، على الشاعر أن يبحث عنها، ويمسك بها.

  • ماذا تقصد بلحظة النور هذه؟

هي لحظة إدراك الشاعر لذاته، ووعيه بأن هذه الذات لا تشكل فقط هويته، إنما هوية المكان والزمان. لذا هي لحظة مشربة بنفس صوفي لأنها تتعلق أيضاً برؤية الشاعر للوجود. للشاعر ثلاثة مستويات من الرؤية: رؤية العالم كما هو في الواقع، ورؤية العالم كما ينبغي أن يكون، ورؤية العالم كما يريده هو. هذه الرؤية الخاصة تتشكل عبر التوحد بين هذه الذات والمشاع الخارجي. هي لحظة متوترة. لحظة يحاول فيها الشاعر اصطياد نفسه. لحظة تتلاقح فيها أسئلته حول المجتمع والمرأة والآخر، وعلاقته بهم، لتصبح مرئية وواضحة بداخله. لحظة تجعل النص قابلاً للتجدد والانفتاح والمعايشة، تجعل النص قادراً على أن يعطي نفسه كل يوم، ليس فقط له، وإنما للقارئ أيضاً. لحظة فيها الكثير من المكابدات. الكثير من التيقظ.

وأتصور أنني استطعت أكثر من مرة أن أضع يدي على هذه اللحظة العصية جداً، والشائكة جداً. العثور على هذه اللحظة كان مشوباً بغموض ما في دواويني السابقة. إذ كان يسيطر عليّ إحساس أن هذه اللحظة تشكل نوعاً من السر، والذي لا ينبغي لأحد أن يطلع عليه، سواي أنا، كذات شاعرة، ونصي. لكن في ديواني الأحدث (جدار أزرق) كان يجب أن تخرج هذه اللحظة من هذا الحيز الضيق الخاص بوعي النص، لوعي أوسع: وعي الفضاء الخارجي.

أحياناً أسمي هذه اللحظة بزمن النص أو زمن الشاعر الذي يحس فيه بأن ثمة لغة أخرى في اللغة.. رمزاً آخر في الرمز.. دلالة أخرى في الدلالة.. جمالاً آخر في الجمال. زمن الشاعر لا نستطيع أن نقيسه بمقاييس اللغة، لأن اللغة بها بعد مجازي.. زمن الشاعر هو زمن النص وزمن الواقع والعالم الخارجي.

هناك نصوص حين أقرأها أشعر أنني واقف على عتبة الشعر، وأخرى تجعلني أتجاوز هذه العتبة.. تجعلني أدخل في النص بروحي وجسدي معاً. هذه هي النصوص التي تعيش، التي تبقي.

  • هذا يأخذنا إلى إشكالية القصائد الخالدة، وذلك بغض النظر عن كونها قصائد تفعيلة، أو قصائد عمودية، أو قصائد نثر.. ما هي ملامح هذه القصائد، وهل زوال شكل فني يعني بالضرورة زوال نصه؟

في عالم الموضة الزوال قيمة. لابد أن تزول موضة كي تأتي غيرها، وذلك للحفاظ على قيمة الموضة، ومعناها. الزوال لا يعني المحو، إنما يعني أن ثمة بحث عن تجدد ما. يمكن أن نقارن هذا بالأشكال الفنية. الأشكال لا تُفني، لكنها تأتي في فترات وتقبع فوق الرف، لتتيح الفرصة لأشكال جديدة لأن تمارس وجودها، وتتصارع معها. هذا الصراع هو الضامن الوحيد لعنصر استمرار الفن، وبقاءه. لذا تظل هذه الأشكال الجديدة مدينة دوماً للقديم. القديم في الحقيقة ليس قديماً، إنه قادر طيلة الوقت على إحياء نفسه، كأنه يكتب للتو.

على المستوى الشخصي، أجد شعراء مثل امرئ القيس وطرفة بن العبد وعنترة بن شداد وأبو النواس أقرب إلى جلدي من شعراء معاصرين. وكثيراً ما فكرت في ذلك. لماذا حين أضجر من الحياة، ومن الشعر، أحتمي بهم؟ لماذا حين أحب أن أحرك نفسي شعرياً ألجأ إلى شعر المعلقات؟ لماذا توفر لي هذه النصوص تلك الهزة العنيفة التي أحبها؟

ربما سبب بقائها، هو قدرتها على أن تمتد في الزمان والمكان، وهذا في التراث العالمي كله.

النص الباقي -في رأيي- هو نص قادر على التجاوز.. على التخطي. قادر على أن يرى ما وراء الأشياء والعناصر. لأن ما وراء الأشياء والعناصر مجهول وغامض.

النص الباقي هو النص المنفتح على أزمنة شتى.. على حدوثات معرفية شتى.. حتى لو كان محض بضعة أسطر.

النص الباقي هو النص الذي يقف على شفا المجهول والمعلوم معاً. لأن وجوده في هذه المنطقة يعني أنه المجهول، وأنه المعلوم أيضاً، ويعني أنه يقفز بنفسه إلى مساحة أبعد من الاثنين، هذه المساحة هي روحه الخاصة.

النص الباقي هو النص الذي لديه قدرة على الاشتباك مع الذاكرة البشرية، بشرط ألا يتحول إلى حُلم، أما النص الخالد هو النص الذي يشتبك مع الذاكرة البشرية لكنه يتحول إلى حُلم.

  • ماذا عن اللغة، وعن إخلاص الشاعر لها؟

هذا ضروري بالتأكيد، لكنني أريد أن أقول الاحترام، وليس الإخلاص.

الشاعر فوضوي بطبعه. الشاعر متمرد ونزق، ولديه قدرة على إحراق العالم في قصيدته. لكن يظل سلاحه الأول هو اللغة، وينبغي أن يعرف أن لهذه اللغة احترامها، لأنها لغة إبداع، وليست لغة خطاب عادي. وهذا يعني أن ثمة قواعد لهذه اللغة.. ثمة حواس.. ثمة جماليات. عليه أن يكون مُلماً بها، كي تساعده على امتلاك قاموسه الخاص.

للأسف، أرى -الآن- أن هناك استسهالاً لدى بعض شعراء قصيدة النثر في استخدامهم للغة، لأن هناك فرقًا بين الفرح بالخطأ، وبين الضجر به. الفرح يأتي عندما تكون ابن تجربة حقيقية، لأن جميعنا يقع في الخطأ، ولأن الخطأ شكل من أشكال الوصول للصواب. أما الخطأ المجاني الذي يتعلق بعدم معرفة الشاعر لأبسط قواعد اللغة، غير مقبول، ويفقد النص جماله، والشاعر احترامه.

  • ما أزمة قصيدة النثر في تصورك؟

أزمة قصيدة النثر أنها لم تكن يوماً هامشاً ثورياً، وأنها لم تمر بمرحلة التمرد، لأن أي هامش ثوري جديد في الكتابة لابد أن يتمرد على المتن، ولم يكن هناك متن حين ظهرت قصيدة النثر، إذ كانت قصيدة التفعيلة لا تزال هامشاً ثورياً، ولا تزال في مرحلة تمردها على متن القصيدة العربية الذي استمر أكثر من 18 قرنا، وهو القصيدة العمودية.

إذن، هي لم تظهر ككائن مستقل، إذ ظلت تحت عباءة الهامش الشعري التفعيلي المتمرد على المتن، إلى أن خفتت نبرة قصيدة التفعيلة، وتسرب شعراؤها إليها، ما يعني أنها فرضت وجودها كمتن.

المشكلة أن هذا المتن لم يفرز حتى الآن خصوصية ما، على مستوى واقعه الاجتماعي والإنساني، وعلى مستوى ثقافته وتراثه، وعلى مستوى لغته.

  • هل بسبب ذلك يحاول البعض من شعراء التسعينيات، والشعراء الذين جاءوا بعدهم، تجريد قصيدة النثر من مصريتها، وترسيخ مبدأ أن الشعر شعر، وأن القصيدة قصيدة، أي كان الموطن الذي خرجت منه؟

أتردد كثيراً أن أقول على القصيدة التسعينية أنها قصيدة نثر مصرية، وذلك بسبب تأثر شعراءها -بعد انفتاح الترجمة- بموجز الشعر الغربي، سواء إبداعاً أو نقداً، والدليل على ذلك أنهم أخذوا من كتاب (قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا) لسوزان برنار ركيزة أساسية لهم، متجاهلين تراثهم في قصيدة النثر، الذي يمتد جذوره إلى أدبيات الفراعنة، والذي كان بإمكانه أن يثقلهم، وأن يساعدهم في الحفاظ على هوية نصوصهم.

كما أرى أن غالبية ما يُكتب الآن باسم قصيدة النثر لا علاقة له بها. إذ صرنا أمام كتابة لا نستطيع تحديدها. كتابة هجينة. كتابة تأخذ من هنا، ومن هناك. كتابة لا ملامح لها، ولا قواعد. كتابة يمكن النظر إليها على أنها قصة، أو ومضة شعرية، أو نص مفتوح.

هذا التميع حدث بعد أن دشن إدوار الخراط مفهومه (الكتابة عبر النوعية)، أو العابرة للأجناس، والتي أدت إلى إزالة الفوارق بين الأنواع الأدبية. حتى أصبحنا أمام شكل أحادي، وأمام حالة من تحييد الصراع الهامشي لصالح المتن.

لقد جاءت عليّ فترة كرهت فيها قصيدة النثر بسبب مجانيتها.

  • لماذا لا يُرَحب -في الغالب- بآراء جيل السبعينيات في قصيدة النثر؟

لأن السبعينيات آخر جيل شعري، وما أتى من بعدها محض تيارات شعرية، ولأن تجربة السبعينيات يعدها النقاد جذراً أساسياً للحداثة الشعرية المصرية، والعربية أيضاً، ما أدى إلى ما يمكن أن نسميه بعقدة شعراء السبعينيات، رغم أنهم أول من دافعوا عن قصيدة النثر، وكانوا وحدهم القادرين على حل مشاكل الإيقاع الداخلي لقصيدة النثر، لأن لديهم إحساساً عاليا بموسيقي النص اكتسبوه من تجربتهم في كتابة الشعر العروضي أو العمودي أو التقليدي.

الذين كتبوا قصيدة نثر مباشرة ليست لديهم هذه الخبرة.

  • لا أريد أن أقطع كلامك عن جيل السبعينيات، لكن هل على الشاعر الذي يريد كتابة قصيدة النثر أن يبدأ بكتابة الشعر العمودي، أو التفعيلي؟

ليس شرطاً، لكن عليه أن يكون مُلماً بالتراث الشعري القديم، وبتجارب الذين سبقوه، كي يكون قادراً على تخطي كل هذا، ففعل التخطي يتطلب معرفة الشيء وهضمه، حتى يكون التخطي إيجابياً، وليس مجانياً.

  • قلت في أحد الحوارات: “لطالما خشيت من جيلي الذي نشأ في حضن تكتلات وجماعات شعرية”، كيف نبع عندك هذا التخوف وأنت أحد مؤسسي هذه الجماعات، وهي جماعة إضاءة؟

حين أسسنا أنا وحلمي سالم ورفعت سلام وحسن طلب (جماعة إضاءة) اتفقنا على أن يكون الشعر عقيدتها. صحيح أن انتماءاتنا كانت مختلفة، فكان منّا الشيوعي، وكان منّا الماركسي، وكان منّا الوجودي، إلا أن أفكارنا الشعرية كانت واحدة، وهذا ما أخافني، أن تذوب وتنمحي الفروق والسمات الجمالية بيننا، ونصبح أمام نص واحد، يراكم التشابه والتكرار، وليس المغايرة والتخطي، وهو ما لم يحدث، إذ صار لكل منّا قصيدته الخاصة التي تشبهه.

ظلت (إضاءة) قرابة العشرين عاماً، واستطعنا أن نحافظ فيها على التنوع، كما كانت مظلة أسرية واجتماعية خصوصاً بعد انضمام عدد من الشعراء إلينا.

وكحال كل الجماعات والتكتلات آنذاك تم حلها لأسباب تتعلق برغبتنا في أن يتعامل القارىء مع كل منّا باعتباره فرد، ولأسباب أخرى تتعلق بالسياسة والأمن، كما أننا كُنا قد وصلنا إلى مرحلة فقدنا فيها حماسنا بعد زيادة أعباءنا المالية.

بشكل عام، كنت أمقت الايدولوجيا، ومازلت، لأنني أعتبرها حاملة لأفكار وآراء زائفة، كما أنها ترتبط بشكل كبير بالسياسية، لكنني رغم ذلك أعتز بجيلي، وبانتمائي له، وأحترم حروبه ونزقه ومكائده. إنه جيل مفصلي، وكان وجوده ضرورياً، ليس فقط على الصعيد الشعري، إنما على الصعيد الاجتماعي والسياسي أيضاً.

لقد وجد جيل السبعينيات نفسه في مأزق حقيقي بعد هزيمة 67، مأزق الهوية، إذ سيطر على الجميع إحساس بالتشيؤ واللاجدوى. وكان المشهد الشعري خلال هذه الفترة معقداً جداً. وهو ما دفعنا إلى التخلي عن السلطة والمؤسسة الرسمية، والاعتماد على أنفسنا، لكي نكون طرفاً في عملية الحراك الثقافي، وأتصور أننا نجحنا في ذلك، إذ كان الشعر وقتها صدى لقضايا سياسية واجتماعية، وكان لذلك أثر كبير على الشاعر، خاصة شاعر الستينيات، الذي ظل مهموماً بالذات الشعرية لكن في مأزق الوجود.

لذا يُحسب لجيل السبعينيات أنه أعاد للشعر المصري حيويته، وأنه استطاع أن يبحث عن شجن خاص بالذات يعلو فيه على الألم الوجودي، يُحسب له أيضاً أنه جعل القصيدة هي القضية.

  • من أقرب شعراء السبعينيات إلى قلبك؟

طبعا حلمي سالم. كُنا قريبين جداً من بعضنا. أعرف ما يكتبه، ويعرف ما سأكتبه. وكُنا في أحايين كثيرة نكتب سوياً، ونقرأ سوياً. حلمي كان –ربما- الشاعر الوحيد القادر على استفزاز خيالي وحواسي. كان لديه قلق وتمرد في نصوصه، وأنا لم أندم في حياتي على زعلي من أحد، مثلما ندمت على زعلي منه، وذلك بسبب قصيدته (شرفة ليلي مراد)، التي أثارت جدلاً كبيراً، وورطته في قضية إساءة الذات الإلهية، إذ كنتُ واحداً من الذين تخلوا عنه، وأدانوه. أذكر أنني كتبتُ مقالاً في (أخبار الأدب) قلت فيه إن القصيدة ركيكة، وإن مجلة إبداع أخطأت حين نشرتها له. كان من الممكن ألا أفعل ذلك، أن أذهب له على القهوة، كما اعتدت، وأتناقش معه وأعبر له عن غضبي، وأدعمه أيضاً في محنته. لكنني كنتُ قاسياً جداً وخاصمته عاماً كاملاً.

لم يرض حينها سيد حجاب بوضعنا، ورتب لنا لقاء يجهله كل منّا، لنتصالح. حين رأيت حلمي سالم، لم أفكر، احتضنته على الفور، وبكيت، وبكى هو أيضاً. لقد كان طيب القلب، لا يملك سوى أن يمنح محبته للجميع. كما كان رجلاً نبيلاً، يعوّل عليه خاصة في الشدائد.

أشعر أن وحدتي تضاعفت كثيراً بعد موته، يكفي أنني لم أعد أتحدث مع أحد، ولم يعد يحدثني أحد، في الشعر.

  • في مقدمة أعمالك المُجمعة التي جاءت بعنوان (مثلما في الحب)، تساءلت قائلاً: “هل ولدتُ في الشعر، أم ولد الشعر فيّ”.. هل ثمة إجابة صارت لديك؟ وهل ثمة تفسير لهذا الانجراف الذي يُصيب الواحد نحو الشعر؟

الشعر ليس ابن أجوبة جاهزة. الشعر دائماً مفتوح على الذات، وعلى الواقع والعناصر والأشياء. فعل الشعر بالنسبة لي فعل تساؤل. والتساؤل هنا دليل نقص. ودليل على غموض الأشياء. أنا حين أكتب الشعر، لا أفكر في البحث عن إجابة، ولا في الهواجس التي تسيطر عليّ، المتعلقة بخلود القصائد، وبقاءها، أكتب فقط لأتسلى، ولأصل إلى هذه النشوة، التي تهز كياني وتجعلني أكسر القلم فرحاً، أو أرقص لأنني ابتكرت صورة شعرية مغايرة.

هدفي من الشعر، إن كان لي هدف، أن أحب نفسي. لأن العالم أفقد المبدع القدرة على أن يحب نفسه. لذا أرى أن دعاوي تغييره بالشعر، أو بالكتابة، دعاوي وهمية، وغير واقعية. الذي يُغير العالم القوة، لا الشعر. الذي صنع التاريخ الطغاة والأباطرة، لا الشعراء.

الشعر يساعدنا فقط على اكتشاف العالم؛ العالم الخارجي والعالم الذي في القصيدة. وهذا يمنح الشاعر القدرة على الاستبصار أو النفاذ إلى ما وراء الأشياء.

إن كان لي أن أصف الشعر، سأقول إنه رئة لا تكف عن التنفس.. رحم يلدني كل لحظة، وألده.

  • لماذا يظهر دوماً في نصوصك أن ثمة صراعا بينك وبين الشاعر الذي بداخلك؟

هذا حقيقي. بداخلي صراع كبير. صراع مع كينونتي كشاعر، وصراع مع كينونتي كإنسان عادي في الواقع والوجود. مشكلتي أنني لا أستطيع أن أخلق مسافة بين هذين الصراعين. والشاعر الذي بداخلي لا يريد سوى أن يرعى الشعر، ويصير أكثر حيوية وجمالاً، وأكثر نبلاً حتى في آلامه ومآسيه الصغيرة، لذا هو حاضر دائماً، ولا يختفي، أشعر به وأنا نائم، وأنا آكل، وأنا أمشي، لكن حضوره يكون مكثفاً في لحظة الكتابة.

  • في ديوانك الأول (خصام الوردة) أهديت قصيدة (سأغني لك) إلى نفسك، وكان هذا غريباً حينها، حتى تطور الأمر بعد ذلك، وصرت تقحم اسمك في النص، قلت مرة مثلاً: “يا أطفالى الخونة/ أنا جمال القصاص/ ما دلني أحدٌ عليّ”. ديوانك الأحدث أيضاً لم ينج منك. أي ثقة هذه التي تجعل الشاعر يعلن عن اعتداده بنفسه؟

منذ أول قصيدة كتبتها، وأنا أشعر أنني شاعر كُتب عليه أن يكون موجوداً في العالم لكي يعرفه، وليس لكي يعيشه. وأنا أعرف العالم بالشعر. وهذه هي معاناتي الحقيقة التي أحملها على ظهري، مثل صخرة، التي حلمت مراراً أن تصير وردة. وما أفعله هو أنني أؤكد لنفسي، قبل الجميع، أنني قادر على تحمل هذه الصخرة.

منذ ديواني الأول، وأنا حريص على ألا أنفي الشاعر الذي بداخلي، وأن أستصرخه دائما، وأثبته في جدار الروح. وكان هذا سبب سخريتهم مني، إذ ظلوا يقولون لي: غني يا جمال!

إنها لمخاطرة أن يقول الشاعر: أنا. لأنه بهذا يعلن عن ثقته اللانهائية بنفسه وبقدرته على أن يمتلئ بنصه بحيث يُصبح قناعه، وأن بإمكانه في المقابل أن يخلع هذا القناع، ويضعه فوق الرف، ويعود شخصاً عادياً.

هذا القناع لن يساهم في إخفاء الشاعر، أو إلغائه. لأن هذا القناع في النهاية هو نصه. إنه قناع الحلم إن صح التعبير، لا الواقع أو الوجود.

لكنني أحاول كثيراً أن أتخفف من جمال القصاص، وعانيت منه جداً في (جدار أزرق).

  • من الأشياء الواضحة أيضاً، أنك تراوح دوماً بين الجديد والقديم، وبين الوضوح والغموض، كيف ترى هذا؟

إنه الشعر ببساطة، فعل لعب، وخلق، فلا يستطيع الشاعر، الشاعر الحقيقي، أن يشعر بالرضا، إلا إذا اكتشف صوراً شعرية جديدة. صوراً مفاجئة له قبل أن تكون مفاجئة للقارئ. أنا حين يحدث معي ذلك أقفز فرحاً، وأحتفي بنفسي.

لهذا أنا أحب الشعر المحرض، وكثيراً ما أذهب -كما قلت في البداية- إلى المعلقات، كي أنعش روحي، وأستعيد مزاجي الشعري. سأبوح لك بسر، حين أجد لدى شاعر صورة مغايرة وتعجبني، أشعر أنني أتحداه بيني وبين نفسي، أنني سأبتكر صوراً أكثر دهشة وجمالاً من التي عنده. وأنا بالطبع لا أبحث عن معقولية الصور الشعرية أو معقولية الفعل الشعري.

من ضمن المكابدات التي تواجهني أثناء الكتابة: الصراع بين المجاز والواقع، وبين الغموض والوضوح. هذا المزج أساساً يعكس جذرية الحياة. فهي لا تسير على وتيرة واحدة. بها هذه التعرجات. هذه المنعطفات. وبالنسبة لي، كل وضوح ابتذال.. كل غموض باب. وذلك لأن عملية الفهم، أو التذوق، تفوق أحياناً اللغة، فمن الممكن أن أسمع شعراً مكتوباً بلغة أجهلها، وأشعر بذبذبة داخلية، الأمر أشبه تماماً حين تقف أمام لوحة لا تعرف بالضبط معناها، لكنك تشعر بنغزة في قلبك.

وهذا يعني أن لغة الإبداع مجرد وسيط، وأن هناك لغة أخرى تتخلق أسميها الرنين، أو دفقة النور.

  • هل تؤمن بالمفهوم الذي يتبناه البعض عن القصيدة، أنها رسالة يلقيها الشاعر في البحر، علها تصل لأحد لا يتوقعه؟ أسألك لأنك قلت: “أكتب قصيدتك وارمها في البحر”.

لا يستطيع الواحد أن يئول شعره، لكن ما هو أكيد أن الشاعر ليس ساعي بريد. كما أن الرسالة تعني أن المضمون واضح، وأن الهدف واضح. والقصيدة ليست كذلك، وعلى الشاعر ألا يكبحها، وألا يضع أمامها العراقيل، والحواجز. لأن حرية القصيدة من حريته. ودائماً ما أقول أن لحظة الكتابة لحظة حلم، ولا أحد يستطيع أن يصادر الحلم، ولا أحد يستطيع أن يسجنه، سوى المبدع نفسه. لحظة الكتابة لحظة انعتاق من كل المكبلات والجوامح الظلامية. إنها لحظة الحرية.

  • بِمَ تصف القصيدة إذن؟

أحيانا أتخيل القصيدة امرأة باذخة الجمال، امرأة تعيش معي، امرأة تتحملني وتبادلني كل الأدوار. امرأة ذات أقنعة محببة إلىّ.

  • المرأة عندك، ليست محض حبيبة، إنها ذات شاعرة، لها في القصائد كما لك بالضبط، أليست مجازفة أن تفعل ذلك، أن تتحدث بلسانها، وحواسها؟

أنا لا أتحدث بلسانها، أنا فقط أتقمصها، وأرى أنني نجحت في الوصول إلى أعمق نقطة في مشاعرها. أنا مشغول أساساً بما هو أبعد من الصوت، بما هو أبعد من التقمص. المرأة في نصي تحضر بشكل مجازي، وواقعي أيضاً. تحضر كفعل حرية. لأن في الحب، ليس حقيقياً أن الرجل والمرة يصيران جسداً واحداً، دائماً ثمة جسدان، ثمة حريتان تتصارعان من أجل حرية واحدة. المرأة في شعري ليست للزينة، وليست طرف ضرورة. هي تضيف للكتابة وتعمقها. وتفتح مجالات إدراك جديدة. حينما ألامس هذه المجالات، تصبح الحالة الشعرية أكثر حيوية على مستوى الرؤية والخيال.

  • كثيراً ما يبتعد الشعراء عن السنتمنتالية خشية أن يوصفوا بالعاطفيين، لكنك لم تفعل ذلك، حتى بدا الحب هاجسك الأول. وصفته مثلاً بأنه “خسارة مبهجة”.. “زلة لسان”.. “ومرض يُصعب الاستشفاء منه”. هل مازلت تراه كذلك؟

في دراسة له، وصفني إدوار الخراط بأنني صاحب الرومانسية الصارمة. بدون الحب تنتفي ضرورة الوجود. وجودي كشاعر. الحب هو من يجعلني أحيا، ليس فقط الحب العاطفي، إنما الحب في المطلق. أنا لا أتصور أن هناك كتابة لا تعرف الحب. الكتابة حين تحرض على الكراهية، كراهية أي شيء، حتى لو كان الظلم والاستبداد، لا تكن كتابة. الكتابة لا تكرس الكراهية كقيمة مطلقة، لكنها توظفها في إطار محدد. لماذا لا أحض على الكراهية بفعل الحب نفسه، من أجل أن يظل هذا الحب قائماً ويصفو لذاته؟ الحب فعل جوهري، أما الكراهية فعابرة، ومؤقتة.

  • حسناً، في قصائدك العاطفية كان حضور الإيروتيكية هادئاً، إلى أي مدى تعمدت فعل ذلك؟

لا أحب أن تظهر اللحظات الحميمة بشكل واضح، فقط تلمح عن وجودها، لأنني أعتبرها لحظات سرية، ومقدسة، وانكشافها في النص يفقدها خصوصيتها، ويعرضها للابتذال. كما أنني أريد أن يظل القارئ منجذباً ومتشوقاً لهذه اللحظة، وأن يبذل جهداً في تخيلها وتصور ما وراءها. دوري كشاعر أن أضعه على هذه العتبة. وهذا ما تعلمته من الفن التشكيلي، أن يكون الفنان قادراً على المواءمة بين التجسيد والتجريد، كي يكون المعنى الإنساني أكثر تجلياً، وحضوراً. في القصيدة، لا يجب أن يكون هناك تصريح كامل. لأن القصيدة ليست سلعة، لذا هي لا تَمنح نفسها للقارئ من المرة الأولي. بجانب أنني أردت أن أضع في نصي عراقيل أمام الجسد، لاعتبارات كثيرة، من بينها الحياء الفني، ورغبتي في ألا امتهنه في نزوات فنية، وشخصية.

  • أنت تمجد جسدك كثيراً، خاطبته مرة قائلاً: “أيها المُبجل رغم أنفي”. هل لا تزال علاقتك به جيدة، أم أنه تحوّل إلى قفص لا يُري؟

جسدي الآن مقيد بحكم العمر. جسدي هو البيت، بيت الشاعر. وأحاول أن أحافظ عليه وأرعاه وأصنع له طقوسه الخاصة. علاقتي بجسدي لا تقل أهمية عن علاقتي بالحياة والشعر. لذا أنا أقدسه، وأحتفي به. يكفي أنه يحملني، ويصونني. يكفي أنه كان معي في كل خطوة، وأنه خاض حروباً لأجلي.

أحياناً أطبطب على جسدي، لأهون عليه ما مر به، وأحياناً أخاصمه، ولا أطاوعه في الحيوات التي لم يأت مناخها بعد.

وهذا ما أسميه الوعي بالجسد، الذي يزيد في الشيخوخة، لأن في هذه المرحلة يصبح الإنسان قريباً جداً من جسده. وإن لم يكن لديه هذا الوعي، لن يستطيع التعامل مع التغيرات التي ستطرأ عليه، لن يستطيع تقبل فكرة أن طاقته على الكلام، وعلى الفعل، تقل.

ما يشغلني هذه الأيام، هو أن أكتب عن هذه المرحلة، وعن حيويتي فيها.

  • سؤال الحياة من ضمن أسئلتك التي تحاول أن تبحث لها عن إجابة، ويبدو أنك وضعت يدك على شيء، إذ قلت في ديوانك الأحدث: (الحياة فكرة لا متناهية الصغر/ لا متناهية الكبر)، وقلت مرة -لا أذكر صراحة أين- أن الحياة حقيقة مؤلمة. كيف كانت حياتك.. كيف كان الطريق؟

كثيراً ما أشعر أنني لم أعش الحياة كما أحب وأشتهي، وأنها هي التي عاشتني، وفرضت عليّ عالمها، وقانونها، حتى أصبحت مهزوماً أو كما عليّ أن أرتضي برشاقة الهزيمة، فحين تجد نفسك في النهاية وحيداً، تصبح أمام حقيقة مؤلمة.

من البداية، وأنا أعي ما تفعله معي الوحدة، وكل ما كنتُ أخشاه أن يكون وجودها مشروطاً بالفقد.

أمي ماتت حين كان عمري تسع سنوات، وكان هذا قاسياً، لأنني لم أكن قد تمكنت بعد من التحديق في وجهها، وهو ما أحسسني بالظلم، خصوصاً أنني لا أملك صورة شخصية لها.

وظللت سنوات طويلة من عمري أحلم لو أراها ثانية، وحين كنتُ أكتب ديواني الرابع (ما من غيمة تشعل البئر)، بالأحرى حين كنتُ أكتب قصيدتي (البحيرة تصفو لطائرها) أتتني أمي في الحلم، فوجدتني أقول:

“زمانٌ، وأنت تخايل صورتها في الرذاذ/ تهدهدها في يديكَ/ وتنفضُ عنها السماء وقبعة الغيم.. يا روح ميلي قليلاً/ هي الآن تدنو/ تعدُ الحليب وكعك الصباح/ ترتبُ فوضي خطاي على سلم البرق”.

رحيلها المبكر، كان سبباً في جعلي ابن طفولة مهدورة. فأنا لم أعش هذه المرحلة كما عاشها أي أحد. كنت أستعجل نموي، كي أتخلص من إحساسي باليُتم، إذ صادقت كل من يكبرني في العمر.

أبي كان مأذون قريتنا، وكان لديه ولع بالحياة، فتزوج ثانية، كما كان لديه ولع باللغة. هو من شجعني على القراءة، ومن دفعني لكتابة الشعر.

لم يكن لدينا في البيت مكتبة، وكانت الكتب التي يشتريها أبي لها علاقة بتفاسير القرآن، لذا كنت أذهب دوماً إلى قصر ثقافة كفر الشيخ وأستعير الكتب وأنسخها بيدي، أذكر أنني نسخت أعمال جبران خليل جبران كاملة.

حياتي في القرية جعلتني أبحث عن بكارة الأشياء، وأتفاعل مع الطبيعة من حولي؛ مع رائحة الخبز وشجر الجميز، كما جعلتني أنفض عن اللغة آثار الغير.

في السابعة عشرة من عمري انتقلت للعيش في القاهرة، وكنت لأول مرة أرى مدينة تبدأ الحياة فيها بعد منتصف الليل. وكثيرا ما كنتُ أهرب منها، وأسافر إلى الإسكندرية، وهو ما يفسر لماذا هي حاضرة بشعري أكثر من القاهرة.

مع الوقت شعرت برغبتي في أن أكون أباً، وأن أحيا في أسرة. فتزوجت، وأنجبت ولداً وبنتاً. واكتشفت أنني صرت وحيداً أكثر، فحينما تختنق لغة التواصل بينك وبين الآخر، أو تصبح مشروطة بغاية ما، تتحوّل إلى إنسان مشوش، ومضطرب، وهذا يعوق فعل الإبداع. لكنني عدتُ وتزوجت ثانية وأنجبت ولداً أسميته حابي. والآن، ومنذ تسع سنوات، أعيش بمفردي.

  • هل بإمكاني أن أقول أنك عبرت النهر وحدك؟

هناك من رافقني حتى الشاطئ، لكن العبور كان بمفردي، بإمكانك أن تقولي أنني مازلت أعبر النهر.

  • ما سر استدعائك للحظة الميلاد، ففي ديوانك جدار أزرق كتبت عن الخامس من ديسمبر، في حين أن لديك قصيدة طويلة وكافية عنه في (فراغات صوتية)؟

لحظة الميلاد لحظة متجددة. لحظة تتداعي فيها كل شيء. هذا التداعي محكوم بسؤال الوجود: لماذا أنا هنا في هذه الحياة التي بها قدر كبير من الضجر والدراما والوجع؟ هذا محكوم أيضاً بسؤال الزمن: لماذا هذا الزمن على وجه التحديد؟

صراحة كنت أتمنى أن أكون موجوداً في زمن خاص بي. كنت أتمنى أن أختبر الزمن، لا أن يختبرني هو، ويحدد لي نقطة البداية والنهاية، ويحدد لي معني الحياة، والوجود.

  • وماذا عن اللحظة الأخيرة.. لحظة الموت؟

أنا الآن منشغل بالموت، لكنني لا أخشاه، وكلما شعرت به واضحاً في اللغة، أتعامل معه باعتباره ونسا شعريا، أو صديقا مقربا. في الموت تفتح آخر على الحياة. الأصعب من الموت الشيخوخة، لأنها تجعلك تشعر أن الأشياء تنساب كالماء من بين يديك.

أسعى دوماً لكسر الحاجز بين الوجود والعدم. لا وجود مطلق، ولا عدم مطلق. هناك دائماً شيء بين الاثنين. فحينما أختفي من الحياة لا يعني هذا أن هناك عدماً، لأن الحياة مستمرة. المسألة بها قدر كبير من النسبية والتداخل والتقاطع.

أجد نفسي هذه الفترة بلا رغبة في الحصول على شيء. أجد نفسي أيضاً خفيفاً، وحراً. ولا أحلم سوى أن أظل قادراً على صنع الشعر، وأن ترافقني القصيدة إلى قبري.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نُشر بجريدة أخبار الأدب ــ يونيو 2018

حوار: إسـراء النمر

في طريقه إلى مكتبه بالمهندسين، كان يمر جمال القصاص على بائعة جرجير تُدعى فوزية. كانت بائعة كأي بائعة، وكان هو كأي عابر، يلقي عليها نظرة لا تخلو من لامبالاة، ولأن هذا كان يحدث بشكل يومي، تراكمت لديه النظرات، حتى صارت تزاحمه، وتشكل سؤالاً كبيراً: ما الذي يجعل ابتسامة هذه المرأة مُشعة، ما الذي يجعل وجهها مُشرقاً كما لو أنها تنتظر حبيباً، أو حلماً، سيغدو للتو حقيقة؟

لجمال القصاص -بالطبع- عينان، لكنهما عينان تخصان شاعراً وصحفياً معاً. عينٌ منهما تريد أن تظل متأملة.. ومتألمة، والأخرى تريد أن تعري كل ما يصادفها من أشخاص وأماكن وقطط.

لم يفكر الشاعر الذي بداخله -مرة- في الحديث إليها. الشاعر الذي بداخله لا يبحث عن إجابة، الشاعر الذي بداخله ما هو -أساساً- إلا جسد متناثر على شكل سؤال.

الصحفي الذي بداخله أيضاً لم يفكر في ذلك إلا حين اضطر لأن يعد “فيتشر”، كي يملأوا به بياضاً مُباغتاً.

يبتسم جمال وهو يحكي: “لا أعرف لِمَ خطرت على بالى هذه المرأة. ربما لأنها كانت قريبة مني، وربما لأنني ارتبطت بها من فرط رؤيتها. لا أعرف صراحة”.

بدا كلامها له في البداية عادياً، إنها تبدأ عملها في السادسة صباحاً، وتحرص على أن تكون بضاعتها طازجة. يتذكر: “كانت فرشتها تتحوّل إلى كرنفال شهي من الألوان الحية”.

في لحظة الكتابة، التي لا يستطيع فيها أن ينحي الشاعر جانباً، اكتشف جمال القصاص أن صراع هذه المرأة الأساسي مع اللون الأخضر، إذ تقضي وقتها كُله في رش الجرجير بالماء، حتى لا تصفر وريقاته.

كان صراعه هو أيضاً – في ظني – مع اللون الأخضر؛ أخضر قلبه، وأخضر القصيدة.

إنه لم يسمح لقلبه -طوال سنوات عمره التي تزحف نحو السبعين- بأن يضمر، في حين ترك للوهن الفرصة كاملة لأن يتسلل إلى بقية أعضائه، حتى أصبح محض جذر شائخ يبحث عن شيء يسند الظهر. وبالنسبة لقصيدته فعكف على مدها بصور شعرية مجنونة، ومُدهشة، مثل: “لصمتك رائحة الخبز” و “أنت نعناع صوتي”.

أما أخضر الحياة، فكان الأخضر الذي كلما بهت، أخذ جمال من أخضر قلبه وأخضر القصيدة، كي يعيد له بريقه.

هكذا ظل يحاوط الأخضر، كما تحاوط أم طفلها، وكما تحاوط ذراع خصراً تشتهيه.

لكن هل ثمة أخضر في الموت؟

قبل سنوات، اشترى جمال القصاص -وهو الذي لم يعتد لأن يمتلك شيئاً- مقبرة. ولأنه لا يجد راحته في أي مكان، ولأنه يعيش وحيداً، صار يتردد عليها، لكي يستمد منها الطمأنينة، ولكي يجد فيها من يحادثه!

هو لا يريد الموت، هو يريد حياة داخل الموت. أو يريد -كما قال في ديوانه الأحدث (جدار أزرق)- أن يرووا عنه أنه أحب بشجاعة.. مات بشجاعة، وكان ثمرة لم ينضج رحيقها في عطش الفم.

في هذا الحوار نقترب من جمال القصاص بالقدر الذي يقترب فيه من جسده، ومن الشعر.

  • كان مفاجئاً للبعض، خصوصاً من الذين ينتمون لنفس جيلك، أن تمنح لديوانك عنواناً لا يتماشي مع ذائقتهم، ولا يتماشي حتى مع رؤيتهم لما أفرزه هذا الجدار الأزرق من نصوص وشعراء. هل أردت باختيارك لهذا العنوان أن تعلن انحيازاً ما، أم أنه محض تغريد خارج السرب؟

ليس الأمر كذلك بالضبط. اخترت عنوان (جدار أزرق) لأنني كتبت غالبية نصوص الديوان على الفيسبوك، وهذا لا يعني أنني منحاز تماماً له، ولما يخرج عنه، لأن الكتابة على الفيسبوك تظل -بالنسبة لي- كتابة عابرة، ولا ترسخ لأشياء ذات قيم حقيقية، وهو ما دفعني لإعادة كتابة النصوص، واستبعاد الكثير منها، ناهيك عن النصوص التي لم أستطع جمعها والتي بهذا الشكل فقدتها للأبد.

اخترت هذا العنوان أيضاً، كتحية لهذا الجدار، الذي ساعدني منذ تشيده على ألا تتوقف يدي، والذي وفر لي قيمتين أساسيتين هما: المتعة والتسلية. ففي الفيسبوك تشعر أنك ممثل يقف على مسرح أمام جمهور عريض، جمهور قد يصفق، وقد لا يصفق -للغرابة- حين يعجبه شئ. أو تشعر أنك فنان تشكيلي، عليه أن يرسم من اللمسة الأولي، بشكل فيه قدر كبير من التلقائية والحميمية.

وأنا فعلت ذلك، كتبت الشعر بإحساس الرسام، الذي حين يعود بلوحته إلى بيته، يقضي الليل كله وهو يعدل ويضيف ويغير من ألوانها. في الفن لا يوجد رضا تام. كل إحساس بالنقص هو في الحقيقة إحساس بالإضافة. التمام في الفن هو تمام النقص، وليس تمام الكمال النهائي.

وهذه هي المعضلة الرئيسية التي يواجهها، ويعاني منها، الفنان، أو الشاعر.

صحيح أن هناك نصوصاً تحقق نوعاً من الإشباع، لكنه إشباع مؤقت، إشباع يكون بمثابة جسر للبحث عن لحظات إشباع أخرى. لذا يجب على الشاعر أن يكون لديه القدرة والشجاعة على الحذف، لكي يخلص نصه من أي ترهلات لغوية، ومن أي زوائد دلالية ورمزية، ولكي يستوي النص إلى ذاته.. إلى ما يخصه هو.

العالم أساساً بكل مضامينه الاجتماعية والسياسية والإنسانية، مليء بإغراءات بإمكانها أن تشوش على ما أسميه الوعي الداخلي للنص، هذا الوعي به لحظة نور، على الشاعر أن يبحث عنها، ويمسك بها.

  • ماذا تقصد بلحظة النور هذه؟

هي لحظة إدراك الشاعر لذاته، ووعيه بأن هذه الذات لا تشكل فقط هويته، إنما هوية المكان والزمان. لذا هي لحظة مشربة بنفس صوفي لأنها تتعلق أيضاً برؤية الشاعر للوجود. للشاعر ثلاثة مستويات من الرؤية: رؤية العالم كما هو في الواقع، ورؤية العالم كما ينبغي أن يكون، ورؤية العالم كما يريده هو. هذه الرؤية الخاصة تتشكل عبر التوحد بين هذه الذات والمشاع الخارجي. هي لحظة متوترة. لحظة يحاول فيها الشاعر اصطياد نفسه. لحظة تتلاقح فيها أسئلته حول المجتمع والمرأة والآخر، وعلاقته بهم، لتصبح مرئية وواضحة بداخله. لحظة تجعل النص قابلاً للتجدد والانفتاح والمعايشة، تجعل النص قادراً على أن يعطي نفسه كل يوم، ليس فقط له، وإنما للقارئ أيضاً. لحظة فيها الكثير من المكابدات. الكثير من التيقظ.

وأتصور أنني استطعت أكثر من مرة أن أضع يدي على هذه اللحظة العصية جداً، والشائكة جداً. العثور على هذه اللحظة كان مشوباً بغموض ما في دواويني السابقة. إذ كان يسيطر عليّ إحساس أن هذه اللحظة تشكل نوعاً من السر، والذي لا ينبغي لأحد أن يطلع عليه، سواي أنا، كذات شاعرة، ونصي. لكن في ديواني الأحدث (جدار أزرق) كان يجب أن تخرج هذه اللحظة من هذا الحيز الضيق الخاص بوعي النص، لوعي أوسع: وعي الفضاء الخارجي.

أحياناً أسمي هذه اللحظة بزمن النص أو زمن الشاعر الذي يحس فيه بأن ثمة لغة أخرى في اللغة.. رمزاً آخر في الرمز.. دلالة أخرى في الدلالة.. جمالاً آخر في الجمال. زمن الشاعر لا نستطيع أن نقيسه بمقاييس اللغة، لأن اللغة بها بعد مجازي.. زمن الشاعر هو زمن النص وزمن الواقع والعالم الخارجي.

هناك نصوص حين أقرأها أشعر أنني واقف على عتبة الشعر، وأخرى تجعلني أتجاوز هذه العتبة.. تجعلني أدخل في النص بروحي وجسدي معاً. هذه هي النصوص التي تعيش، التي تبقي.

  • هذا يأخذنا إلى إشكالية القصائد الخالدة، وذلك بغض النظر عن كونها قصائد تفعيلة، أو قصائد عمودية، أو قصائد نثر.. ما هي ملامح هذه القصائد، وهل زوال شكل فني يعني بالضرورة زوال نصه؟

في عالم الموضة الزوال قيمة. لابد أن تزول موضة كي تأتي غيرها، وذلك للحفاظ على قيمة الموضة، ومعناها. الزوال لا يعني المحو، إنما يعني أن ثمة بحث عن تجدد ما. يمكن أن نقارن هذا بالأشكال الفنية. الأشكال لا تُفني، لكنها تأتي في فترات وتقبع فوق الرف، لتتيح الفرصة لأشكال جديدة لأن تمارس وجودها، وتتصارع معها. هذا الصراع هو الضامن الوحيد لعنصر استمرار الفن، وبقاءه. لذا تظل هذه الأشكال الجديدة مدينة دوماً للقديم. القديم في الحقيقة ليس قديماً، إنه قادر طيلة الوقت على إحياء نفسه، كأنه يكتب للتو.

على المستوى الشخصي، أجد شعراء مثل امرئ القيس وطرفة بن العبد وعنترة بن شداد وأبو النواس أقرب إلى جلدي من شعراء معاصرين. وكثيراً ما فكرت في ذلك. لماذا حين أضجر من الحياة، ومن الشعر، أحتمي بهم؟ لماذا حين أحب أن أحرك نفسي شعرياً ألجأ إلى شعر المعلقات؟ لماذا توفر لي هذه النصوص تلك الهزة العنيفة التي أحبها؟

ربما سبب بقائها، هو قدرتها على أن تمتد في الزمان والمكان، وهذا في التراث العالمي كله.

النص الباقي -في رأيي- هو نص قادر على التجاوز.. على التخطي. قادر على أن يرى ما وراء الأشياء والعناصر. لأن ما وراء الأشياء والعناصر مجهول وغامض.

النص الباقي هو النص المنفتح على أزمنة شتى.. على حدوثات معرفية شتى.. حتى لو كان محض بضعة أسطر.

النص الباقي هو النص الذي يقف على شفا المجهول والمعلوم معاً. لأن وجوده في هذه المنطقة يعني أنه المجهول، وأنه المعلوم أيضاً، ويعني أنه يقفز بنفسه إلى مساحة أبعد من الاثنين، هذه المساحة هي روحه الخاصة.

النص الباقي هو النص الذي لديه قدرة على الاشتباك مع الذاكرة البشرية، بشرط ألا يتحول إلى حُلم، أما النص الخالد هو النص الذي يشتبك مع الذاكرة البشرية لكنه يتحول إلى حُلم.

  • ماذا عن اللغة، وعن إخلاص الشاعر لها؟

هذا ضروري بالتأكيد، لكنني أريد أن أقول الاحترام، وليس الإخلاص.

الشاعر فوضوي بطبعه. الشاعر متمرد ونزق، ولديه قدرة على إحراق العالم في قصيدته. لكن يظل سلاحه الأول هو اللغة، وينبغي أن يعرف أن لهذه اللغة احترامها، لأنها لغة إبداع، وليست لغة خطاب عادي. وهذا يعني أن ثمة قواعد لهذه اللغة.. ثمة حواس.. ثمة جماليات. عليه أن يكون مُلماً بها، كي تساعده على امتلاك قاموسه الخاص.

للأسف، أرى -الآن- أن هناك استسهالاً لدى بعض شعراء قصيدة النثر في استخدامهم للغة، لأن هناك فرقًا بين الفرح بالخطأ، وبين الضجر به. الفرح يأتي عندما تكون ابن تجربة حقيقية، لأن جميعنا يقع في الخطأ، ولأن الخطأ شكل من أشكال الوصول للصواب. أما الخطأ المجاني الذي يتعلق بعدم معرفة الشاعر لأبسط قواعد اللغة، غير مقبول، ويفقد النص جماله، والشاعر احترامه.

  • ما أزمة قصيدة النثر في تصورك؟

أزمة قصيدة النثر أنها لم تكن يوماً هامشاً ثورياً، وأنها لم تمر بمرحلة التمرد، لأن أي هامش ثوري جديد في الكتابة لابد أن يتمرد على المتن، ولم يكن هناك متن حين ظهرت قصيدة النثر، إذ كانت قصيدة التفعيلة لا تزال هامشاً ثورياً، ولا تزال في مرحلة تمردها على متن القصيدة العربية الذي استمر أكثر من 18 قرنا، وهو القصيدة العمودية.

إذن، هي لم تظهر ككائن مستقل، إذ ظلت تحت عباءة الهامش الشعري التفعيلي المتمرد على المتن، إلى أن خفتت نبرة قصيدة التفعيلة، وتسرب شعراؤها إليها، ما يعني أنها فرضت وجودها كمتن.

المشكلة أن هذا المتن لم يفرز حتى الآن خصوصية ما، على مستوى واقعه الاجتماعي والإنساني، وعلى مستوى ثقافته وتراثه، وعلى مستوى لغته.

  • هل بسبب ذلك يحاول البعض من شعراء التسعينيات، والشعراء الذين جاءوا بعدهم، تجريد قصيدة النثر من مصريتها، وترسيخ مبدأ أن الشعر شعر، وأن القصيدة قصيدة، أي كان الموطن الذي خرجت منه؟

أتردد كثيراً أن أقول على القصيدة التسعينية أنها قصيدة نثر مصرية، وذلك بسبب تأثر شعراءها -بعد انفتاح الترجمة- بموجز الشعر الغربي، سواء إبداعاً أو نقداً، والدليل على ذلك أنهم أخذوا من كتاب (قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا) لسوزان برنار ركيزة أساسية لهم، متجاهلين تراثهم في قصيدة النثر، الذي يمتد جذوره إلى أدبيات الفراعنة، والذي كان بإمكانه أن يثقلهم، وأن يساعدهم في الحفاظ على هوية نصوصهم.

كما أرى أن غالبية ما يُكتب الآن باسم قصيدة النثر لا علاقة له بها. إذ صرنا أمام كتابة لا نستطيع تحديدها. كتابة هجينة. كتابة تأخذ من هنا، ومن هناك. كتابة لا ملامح لها، ولا قواعد. كتابة يمكن النظر إليها على أنها قصة، أو ومضة شعرية، أو نص مفتوح.

هذا التميع حدث بعد أن دشن إدوار الخراط مفهومه (الكتابة عبر النوعية)، أو العابرة للأجناس، والتي أدت إلى إزالة الفوارق بين الأنواع الأدبية. حتى أصبحنا أمام شكل أحادي، وأمام حالة من تحييد الصراع الهامشي لصالح المتن.

لقد جاءت عليّ فترة كرهت فيها قصيدة النثر بسبب مجانيتها.

  • لماذا لا يُرَحب -في الغالب- بآراء جيل السبعينيات في قصيدة النثر؟

لأن السبعينيات آخر جيل شعري، وما أتى من بعدها محض تيارات شعرية، ولأن تجربة السبعينيات يعدها النقاد جذراً أساسياً للحداثة الشعرية المصرية، والعربية أيضاً، ما أدى إلى ما يمكن أن نسميه بعقدة شعراء السبعينيات، رغم أنهم أول من دافعوا عن قصيدة النثر، وكانوا وحدهم القادرين على حل مشاكل الإيقاع الداخلي لقصيدة النثر، لأن لديهم إحساساً عاليا بموسيقي النص اكتسبوه من تجربتهم في كتابة الشعر العروضي أو العمودي أو التقليدي.

الذين كتبوا قصيدة نثر مباشرة ليست لديهم هذه الخبرة.

  • لا أريد أن أقطع كلامك عن جيل السبعينيات، لكن هل على الشاعر الذي يريد كتابة قصيدة النثر أن يبدأ بكتابة الشعر العمودي، أو التفعيلي؟

ليس شرطاً، لكن عليه أن يكون مُلماً بالتراث الشعري القديم، وبتجارب الذين سبقوه، كي يكون قادراً على تخطي كل هذا، ففعل التخطي يتطلب معرفة الشيء وهضمه، حتى يكون التخطي إيجابياً، وليس مجانياً.

  • قلت في أحد الحوارات: “لطالما خشيت من جيلي الذي نشأ في حضن تكتلات وجماعات شعرية”، كيف نبع عندك هذا التخوف وأنت أحد مؤسسي هذه الجماعات، وهي جماعة إضاءة؟

حين أسسنا أنا وحلمي سالم ورفعت سلام وحسن طلب (جماعة إضاءة) اتفقنا على أن يكون الشعر عقيدتها. صحيح أن انتماءاتنا كانت مختلفة، فكان منّا الشيوعي، وكان منّا الماركسي، وكان منّا الوجودي، إلا أن أفكارنا الشعرية كانت واحدة، وهذا ما أخافني، أن تذوب وتنمحي الفروق والسمات الجمالية بيننا، ونصبح أمام نص واحد، يراكم التشابه والتكرار، وليس المغايرة والتخطي، وهو ما لم يحدث، إذ صار لكل منّا قصيدته الخاصة التي تشبهه.

ظلت (إضاءة) قرابة العشرين عاماً، واستطعنا أن نحافظ فيها على التنوع، كما كانت مظلة أسرية واجتماعية خصوصاً بعد انضمام عدد من الشعراء إلينا.

وكحال كل الجماعات والتكتلات آنذاك تم حلها لأسباب تتعلق برغبتنا في أن يتعامل القارىء مع كل منّا باعتباره فرد، ولأسباب أخرى تتعلق بالسياسة والأمن، كما أننا كُنا قد وصلنا إلى مرحلة فقدنا فيها حماسنا بعد زيادة أعباءنا المالية.

بشكل عام، كنت أمقت الايدولوجيا، ومازلت، لأنني أعتبرها حاملة لأفكار وآراء زائفة، كما أنها ترتبط بشكل كبير بالسياسية، لكنني رغم ذلك أعتز بجيلي، وبانتمائي له، وأحترم حروبه ونزقه ومكائده. إنه جيل مفصلي، وكان وجوده ضرورياً، ليس فقط على الصعيد الشعري، إنما على الصعيد الاجتماعي والسياسي أيضاً.

لقد وجد جيل السبعينيات نفسه في مأزق حقيقي بعد هزيمة 67، مأزق الهوية، إذ سيطر على الجميع إحساس بالتشيؤ واللاجدوى. وكان المشهد الشعري خلال هذه الفترة معقداً جداً. وهو ما دفعنا إلى التخلي عن السلطة والمؤسسة الرسمية، والاعتماد على أنفسنا، لكي نكون طرفاً في عملية الحراك الثقافي، وأتصور أننا نجحنا في ذلك، إذ كان الشعر وقتها صدى لقضايا سياسية واجتماعية، وكان لذلك أثر كبير على الشاعر، خاصة شاعر الستينيات، الذي ظل مهموماً بالذات الشعرية لكن في مأزق الوجود.

لذا يُحسب لجيل السبعينيات أنه أعاد للشعر المصري حيويته، وأنه استطاع أن يبحث عن شجن خاص بالذات يعلو فيه على الألم الوجودي، يُحسب له أيضاً أنه جعل القصيدة هي القضية.

  • من أقرب شعراء السبعينيات إلى قلبك؟

طبعا حلمي سالم. كُنا قريبين جداً من بعضنا. أعرف ما يكتبه، ويعرف ما سأكتبه. وكُنا في أحايين كثيرة نكتب سوياً، ونقرأ سوياً. حلمي كان –ربما- الشاعر الوحيد القادر على استفزاز خيالي وحواسي. كان لديه قلق وتمرد في نصوصه، وأنا لم أندم في حياتي على زعلي من أحد، مثلما ندمت على زعلي منه، وذلك بسبب قصيدته (شرفة ليلي مراد)، التي أثارت جدلاً كبيراً، وورطته في قضية إساءة الذات الإلهية، إذ كنتُ واحداً من الذين تخلوا عنه، وأدانوه. أذكر أنني كتبتُ مقالاً في (أخبار الأدب) قلت فيه إن القصيدة ركيكة، وإن مجلة إبداع أخطأت حين نشرتها له. كان من الممكن ألا أفعل ذلك، أن أذهب له على القهوة، كما اعتدت، وأتناقش معه وأعبر له عن غضبي، وأدعمه أيضاً في محنته. لكنني كنتُ قاسياً جداً وخاصمته عاماً كاملاً.

لم يرض حينها سيد حجاب بوضعنا، ورتب لنا لقاء يجهله كل منّا، لنتصالح. حين رأيت حلمي سالم، لم أفكر، احتضنته على الفور، وبكيت، وبكى هو أيضاً. لقد كان طيب القلب، لا يملك سوى أن يمنح محبته للجميع. كما كان رجلاً نبيلاً، يعوّل عليه خاصة في الشدائد.

أشعر أن وحدتي تضاعفت كثيراً بعد موته، يكفي أنني لم أعد أتحدث مع أحد، ولم يعد يحدثني أحد، في الشعر.

  • في مقدمة أعمالك المُجمعة التي جاءت بعنوان (مثلما في الحب)، تساءلت قائلاً: “هل ولدتُ في الشعر، أم ولد الشعر فيّ”.. هل ثمة إجابة صارت لديك؟ وهل ثمة تفسير لهذا الانجراف الذي يُصيب الواحد نحو الشعر؟

الشعر ليس ابن أجوبة جاهزة. الشعر دائماً مفتوح على الذات، وعلى الواقع والعناصر والأشياء. فعل الشعر بالنسبة لي فعل تساؤل. والتساؤل هنا دليل نقص. ودليل على غموض الأشياء. أنا حين أكتب الشعر، لا أفكر في البحث عن إجابة، ولا في الهواجس التي تسيطر عليّ، المتعلقة بخلود القصائد، وبقاءها، أكتب فقط لأتسلى، ولأصل إلى هذه النشوة، التي تهز كياني وتجعلني أكسر القلم فرحاً، أو أرقص لأنني ابتكرت صورة شعرية مغايرة.

هدفي من الشعر، إن كان لي هدف، أن أحب نفسي. لأن العالم أفقد المبدع القدرة على أن يحب نفسه. لذا أرى أن دعاوي تغييره بالشعر، أو بالكتابة، دعاوي وهمية، وغير واقعية. الذي يُغير العالم القوة، لا الشعر. الذي صنع التاريخ الطغاة والأباطرة، لا الشعراء.

الشعر يساعدنا فقط على اكتشاف العالم؛ العالم الخارجي والعالم الذي في القصيدة. وهذا يمنح الشاعر القدرة على الاستبصار أو النفاذ إلى ما وراء الأشياء.

إن كان لي أن أصف الشعر، سأقول إنه رئة لا تكف عن التنفس.. رحم يلدني كل لحظة، وألده.

  • لماذا يظهر دوماً في نصوصك أن ثمة صراعا بينك وبين الشاعر الذي بداخلك؟

هذا حقيقي. بداخلي صراع كبير. صراع مع كينونتي كشاعر، وصراع مع كينونتي كإنسان عادي في الواقع والوجود. مشكلتي أنني لا أستطيع أن أخلق مسافة بين هذين الصراعين. والشاعر الذي بداخلي لا يريد سوى أن يرعى الشعر، ويصير أكثر حيوية وجمالاً، وأكثر نبلاً حتى في آلامه ومآسيه الصغيرة، لذا هو حاضر دائماً، ولا يختفي، أشعر به وأنا نائم، وأنا آكل، وأنا أمشي، لكن حضوره يكون مكثفاً في لحظة الكتابة.

  • في ديوانك الأول (خصام الوردة) أهديت قصيدة (سأغني لك) إلى نفسك، وكان هذا غريباً حينها، حتى تطور الأمر بعد ذلك، وصرت تقحم اسمك في النص، قلت مرة مثلاً: “يا أطفالى الخونة/ أنا جمال القصاص/ ما دلني أحدٌ عليّ”. ديوانك الأحدث أيضاً لم ينج منك. أي ثقة هذه التي تجعل الشاعر يعلن عن اعتداده بنفسه؟

منذ أول قصيدة كتبتها، وأنا أشعر أنني شاعر كُتب عليه أن يكون موجوداً في العالم لكي يعرفه، وليس لكي يعيشه. وأنا أعرف العالم بالشعر. وهذه هي معاناتي الحقيقة التي أحملها على ظهري، مثل صخرة، التي حلمت مراراً أن تصير وردة. وما أفعله هو أنني أؤكد لنفسي، قبل الجميع، أنني قادر على تحمل هذه الصخرة.

منذ ديواني الأول، وأنا حريص على ألا أنفي الشاعر الذي بداخلي، وأن أستصرخه دائما، وأثبته في جدار الروح. وكان هذا سبب سخريتهم مني، إذ ظلوا يقولون لي: غني يا جمال!

إنها لمخاطرة أن يقول الشاعر: أنا. لأنه بهذا يعلن عن ثقته اللانهائية بنفسه وبقدرته على أن يمتلئ بنصه بحيث يُصبح قناعه، وأن بإمكانه في المقابل أن يخلع هذا القناع، ويضعه فوق الرف، ويعود شخصاً عادياً.

هذا القناع لن يساهم في إخفاء الشاعر، أو إلغائه. لأن هذا القناع في النهاية هو نصه. إنه قناع الحلم إن صح التعبير، لا الواقع أو الوجود.

لكنني أحاول كثيراً أن أتخفف من جمال القصاص، وعانيت منه جداً في (جدار أزرق).

  • من الأشياء الواضحة أيضاً، أنك تراوح دوماً بين الجديد والقديم، وبين الوضوح والغموض، كيف ترى هذا؟

إنه الشعر ببساطة، فعل لعب، وخلق، فلا يستطيع الشاعر، الشاعر الحقيقي، أن يشعر بالرضا، إلا إذا اكتشف صوراً شعرية جديدة. صوراً مفاجئة له قبل أن تكون مفاجئة للقارئ. أنا حين يحدث معي ذلك أقفز فرحاً، وأحتفي بنفسي.

لهذا أنا أحب الشعر المحرض، وكثيراً ما أذهب -كما قلت في البداية- إلى المعلقات، كي أنعش روحي، وأستعيد مزاجي الشعري. سأبوح لك بسر، حين أجد لدى شاعر صورة مغايرة وتعجبني، أشعر أنني أتحداه بيني وبين نفسي، أنني سأبتكر صوراً أكثر دهشة وجمالاً من التي عنده. وأنا بالطبع لا أبحث عن معقولية الصور الشعرية أو معقولية الفعل الشعري.

من ضمن المكابدات التي تواجهني أثناء الكتابة: الصراع بين المجاز والواقع، وبين الغموض والوضوح. هذا المزج أساساً يعكس جذرية الحياة. فهي لا تسير على وتيرة واحدة. بها هذه التعرجات. هذه المنعطفات. وبالنسبة لي، كل وضوح ابتذال.. كل غموض باب. وذلك لأن عملية الفهم، أو التذوق، تفوق أحياناً اللغة، فمن الممكن أن أسمع شعراً مكتوباً بلغة أجهلها، وأشعر بذبذبة داخلية، الأمر أشبه تماماً حين تقف أمام لوحة لا تعرف بالضبط معناها، لكنك تشعر بنغزة في قلبك.

وهذا يعني أن لغة الإبداع مجرد وسيط، وأن هناك لغة أخرى تتخلق أسميها الرنين، أو دفقة النور.

  • هل تؤمن بالمفهوم الذي يتبناه البعض عن القصيدة، أنها رسالة يلقيها الشاعر في البحر، علها تصل لأحد لا يتوقعه؟ أسألك لأنك قلت: “أكتب قصيدتك وارمها في البحر”.

لا يستطيع الواحد أن يئول شعره، لكن ما هو أكيد أن الشاعر ليس ساعي بريد. كما أن الرسالة تعني أن المضمون واضح، وأن الهدف واضح. والقصيدة ليست كذلك، وعلى الشاعر ألا يكبحها، وألا يضع أمامها العراقيل، والحواجز. لأن حرية القصيدة من حريته. ودائماً ما أقول أن لحظة الكتابة لحظة حلم، ولا أحد يستطيع أن يصادر الحلم، ولا أحد يستطيع أن يسجنه، سوى المبدع نفسه. لحظة الكتابة لحظة انعتاق من كل المكبلات والجوامح الظلامية. إنها لحظة الحرية.

  • بِمَ تصف القصيدة إذن؟

أحيانا أتخيل القصيدة امرأة باذخة الجمال، امرأة تعيش معي، امرأة تتحملني وتبادلني كل الأدوار. امرأة ذات أقنعة محببة إلىّ.

  • المرأة عندك، ليست محض حبيبة، إنها ذات شاعرة، لها في القصائد كما لك بالضبط، أليست مجازفة أن تفعل ذلك، أن تتحدث بلسانها، وحواسها؟

أنا لا أتحدث بلسانها، أنا فقط أتقمصها، وأرى أنني نجحت في الوصول إلى أعمق نقطة في مشاعرها. أنا مشغول أساساً بما هو أبعد من الصوت، بما هو أبعد من التقمص. المرأة في نصي تحضر بشكل مجازي، وواقعي أيضاً. تحضر كفعل حرية. لأن في الحب، ليس حقيقياً أن الرجل والمرة يصيران جسداً واحداً، دائماً ثمة جسدان، ثمة حريتان تتصارعان من أجل حرية واحدة. المرأة في شعري ليست للزينة، وليست طرف ضرورة. هي تضيف للكتابة وتعمقها. وتفتح مجالات إدراك جديدة. حينما ألامس هذه المجالات، تصبح الحالة الشعرية أكثر حيوية على مستوى الرؤية والخيال.

  • كثيراً ما يبتعد الشعراء عن السنتمنتالية خشية أن يوصفوا بالعاطفيين، لكنك لم تفعل ذلك، حتى بدا الحب هاجسك الأول. وصفته مثلاً بأنه “خسارة مبهجة”.. “زلة لسان”.. “ومرض يُصعب الاستشفاء منه”. هل مازلت تراه كذلك؟

في دراسة له، وصفني إدوار الخراط بأنني صاحب الرومانسية الصارمة. بدون الحب تنتفي ضرورة الوجود. وجودي كشاعر. الحب هو من يجعلني أحيا، ليس فقط الحب العاطفي، إنما الحب في المطلق. أنا لا أتصور أن هناك كتابة لا تعرف الحب. الكتابة حين تحرض على الكراهية، كراهية أي شيء، حتى لو كان الظلم والاستبداد، لا تكن كتابة. الكتابة لا تكرس الكراهية كقيمة مطلقة، لكنها توظفها في إطار محدد. لماذا لا أحض على الكراهية بفعل الحب نفسه، من أجل أن يظل هذا الحب قائماً ويصفو لذاته؟ الحب فعل جوهري، أما الكراهية فعابرة، ومؤقتة.

  • حسناً، في قصائدك العاطفية كان حضور الإيروتيكية هادئاً، إلى أي مدى تعمدت فعل ذلك؟

لا أحب أن تظهر اللحظات الحميمة بشكل واضح، فقط تلمح عن وجودها، لأنني أعتبرها لحظات سرية، ومقدسة، وانكشافها في النص يفقدها خصوصيتها، ويعرضها للابتذال. كما أنني أريد أن يظل القارئ منجذباً ومتشوقاً لهذه اللحظة، وأن يبذل جهداً في تخيلها وتصور ما وراءها. دوري كشاعر أن أضعه على هذه العتبة. وهذا ما تعلمته من الفن التشكيلي، أن يكون الفنان قادراً على المواءمة بين التجسيد والتجريد، كي يكون المعنى الإنساني أكثر تجلياً، وحضوراً. في القصيدة، لا يجب أن يكون هناك تصريح كامل. لأن القصيدة ليست سلعة، لذا هي لا تَمنح نفسها للقارئ من المرة الأولي. بجانب أنني أردت أن أضع في نصي عراقيل أمام الجسد، لاعتبارات كثيرة، من بينها الحياء الفني، ورغبتي في ألا امتهنه في نزوات فنية، وشخصية.

  • أنت تمجد جسدك كثيراً، خاطبته مرة قائلاً: “أيها المُبجل رغم أنفي”. هل لا تزال علاقتك به جيدة، أم أنه تحوّل إلى قفص لا يُري؟

جسدي الآن مقيد بحكم العمر. جسدي هو البيت، بيت الشاعر. وأحاول أن أحافظ عليه وأرعاه وأصنع له طقوسه الخاصة. علاقتي بجسدي لا تقل أهمية عن علاقتي بالحياة والشعر. لذا أنا أقدسه، وأحتفي به. يكفي أنه يحملني، ويصونني. يكفي أنه كان معي في كل خطوة، وأنه خاض حروباً لأجلي.

أحياناً أطبطب على جسدي، لأهون عليه ما مر به، وأحياناً أخاصمه، ولا أطاوعه في الحيوات التي لم يأت مناخها بعد.

وهذا ما أسميه الوعي بالجسد، الذي يزيد في الشيخوخة، لأن في هذه المرحلة يصبح الإنسان قريباً جداً من جسده. وإن لم يكن لديه هذا الوعي، لن يستطيع التعامل مع التغيرات التي ستطرأ عليه، لن يستطيع تقبل فكرة أن طاقته على الكلام، وعلى الفعل، تقل.

ما يشغلني هذه الأيام، هو أن أكتب عن هذه المرحلة، وعن حيويتي فيها.

  • سؤال الحياة من ضمن أسئلتك التي تحاول أن تبحث لها عن إجابة، ويبدو أنك وضعت يدك على شيء، إذ قلت في ديوانك الأحدث: (الحياة فكرة لا متناهية الصغر/ لا متناهية الكبر)، وقلت مرة -لا أذكر صراحة أين- أن الحياة حقيقة مؤلمة. كيف كانت حياتك.. كيف كان الطريق؟

كثيراً ما أشعر أنني لم أعش الحياة كما أحب وأشتهي، وأنها هي التي عاشتني، وفرضت عليّ عالمها، وقانونها، حتى أصبحت مهزوماً أو كما عليّ أن أرتضي برشاقة الهزيمة، فحين تجد نفسك في النهاية وحيداً، تصبح أمام حقيقة مؤلمة.

من البداية، وأنا أعي ما تفعله معي الوحدة، وكل ما كنتُ أخشاه أن يكون وجودها مشروطاً بالفقد.

أمي ماتت حين كان عمري تسع سنوات، وكان هذا قاسياً، لأنني لم أكن قد تمكنت بعد من التحديق في وجهها، وهو ما أحسسني بالظلم، خصوصاً أنني لا أملك صورة شخصية لها.

وظللت سنوات طويلة من عمري أحلم لو أراها ثانية، وحين كنتُ أكتب ديواني الرابع (ما من غيمة تشعل البئر)، بالأحرى حين كنتُ أكتب قصيدتي (البحيرة تصفو لطائرها) أتتني أمي في الحلم، فوجدتني أقول:

“زمانٌ، وأنت تخايل صورتها في الرذاذ/ تهدهدها في يديكَ/ وتنفضُ عنها السماء وقبعة الغيم.. يا روح ميلي قليلاً/ هي الآن تدنو/ تعدُ الحليب وكعك الصباح/ ترتبُ فوضي خطاي على سلم البرق”.

رحيلها المبكر، كان سبباً في جعلي ابن طفولة مهدورة. فأنا لم أعش هذه المرحلة كما عاشها أي أحد. كنت أستعجل نموي، كي أتخلص من إحساسي باليُتم، إذ صادقت كل من يكبرني في العمر.

أبي كان مأذون قريتنا، وكان لديه ولع بالحياة، فتزوج ثانية، كما كان لديه ولع باللغة. هو من شجعني على القراءة، ومن دفعني لكتابة الشعر.

لم يكن لدينا في البيت مكتبة، وكانت الكتب التي يشتريها أبي لها علاقة بتفاسير القرآن، لذا كنت أذهب دوماً إلى قصر ثقافة كفر الشيخ وأستعير الكتب وأنسخها بيدي، أذكر أنني نسخت أعمال جبران خليل جبران كاملة.

حياتي في القرية جعلتني أبحث عن بكارة الأشياء، وأتفاعل مع الطبيعة من حولي؛ مع رائحة الخبز وشجر الجميز، كما جعلتني أنفض عن اللغة آثار الغير.

في السابعة عشرة من عمري انتقلت للعيش في القاهرة، وكنت لأول مرة أرى مدينة تبدأ الحياة فيها بعد منتصف الليل. وكثيرا ما كنتُ أهرب منها، وأسافر إلى الإسكندرية، وهو ما يفسر لماذا هي حاضرة بشعري أكثر من القاهرة.

مع الوقت شعرت برغبتي في أن أكون أباً، وأن أحيا في أسرة. فتزوجت، وأنجبت ولداً وبنتاً. واكتشفت أنني صرت وحيداً أكثر، فحينما تختنق لغة التواصل بينك وبين الآخر، أو تصبح مشروطة بغاية ما، تتحوّل إلى إنسان مشوش، ومضطرب، وهذا يعوق فعل الإبداع. لكنني عدتُ وتزوجت ثانية وأنجبت ولداً أسميته حابي. والآن، ومنذ تسع سنوات، أعيش بمفردي.

  • هل بإمكاني أن أقول أنك عبرت النهر وحدك؟

هناك من رافقني حتى الشاطئ، لكن العبور كان بمفردي، بإمكانك أن تقولي أنني مازلت أعبر النهر.

  • ما سر استدعائك للحظة الميلاد، ففي ديوانك جدار أزرق كتبت عن الخامس من ديسمبر، في حين أن لديك قصيدة طويلة وكافية عنه في (فراغات صوتية)؟

لحظة الميلاد لحظة متجددة. لحظة تتداعي فيها كل شيء. هذا التداعي محكوم بسؤال الوجود: لماذا أنا هنا في هذه الحياة التي بها قدر كبير من الضجر والدراما والوجع؟ هذا محكوم أيضاً بسؤال الزمن: لماذا هذا الزمن على وجه التحديد؟

صراحة كنت أتمنى أن أكون موجوداً في زمن خاص بي. كنت أتمنى أن أختبر الزمن، لا أن يختبرني هو، ويحدد لي نقطة البداية والنهاية، ويحدد لي معني الحياة، والوجود.

  • وماذا عن اللحظة الأخيرة.. لحظة الموت؟

أنا الآن منشغل بالموت، لكنني لا أخشاه، وكلما شعرت به واضحاً في اللغة، أتعامل معه باعتباره ونسا شعريا، أو صديقا مقربا. في الموت تفتح آخر على الحياة. الأصعب من الموت الشيخوخة، لأنها تجعلك تشعر أن الأشياء تنساب كالماء من بين يديك.

أسعى دوماً لكسر الحاجز بين الوجود والعدم. لا وجود مطلق، ولا عدم مطلق. هناك دائماً شيء بين الاثنين. فحينما أختفي من الحياة لا يعني هذا أن هناك عدماً، لأن الحياة مستمرة. المسألة بها قدر كبير من النسبية والتداخل والتقاطع.

أجد نفسي هذه الفترة بلا رغبة في الحصول على شيء. أجد نفسي أيضاً خفيفاً، وحراً. ولا أحلم سوى أن أظل قادراً على صنع الشعر، وأن ترافقني القصيدة إلى قبري.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نُشر بجريدة أخبار الأدب ــ يونيو 2018

مقالات من نفس القسم