جسدي والجسد

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

المطر ينهمر بغزارة، قطرات ماء تنقر بقوة زجاج نافذة غرفتي المطلة على الخارج، وعواء ريح قوية يخدش الآذان. أحاول صَدَّ صدى العويل الذي يقرع أذني، ويتسلل ليعبر إلى نفسي ويحدث بها شروخاً. أنهض من فراشي، أقترب من النافذة، أطل فيغمرني ظلام حالك.. أطياف أشباح تتراقص قبالتي وتعزف على أوتار حزني.

أتراجع عن النافذة نصف خطوة إلى الوراء. أترك الستائر تنسدل حتى تخفي شبحي عن الظهور. أطل مرة ثانية. أرى أمي، مع الجمع المشكِّل للدائرة، تقترب من جثة ملقاة على الأرض المبللة، وترفع عنها الغطاء، تمعن النظر إليها، تشرع في لطم خديها، وتغرق في نوبة بكاء لا يصلني صداه، النافذة تحجز الصوت وتحد من انتشاره، أرى حركات أمي المكلومة، بيديها ترسم خطوطاً  وهمية على صفحة الفضاء. التهم الحزن عينيها ومسحَ فرحتها.

تجمع رجال القرية بعد صلاة العشاء، كانوا كثرة، حتى أولئك الذين لا يصلون حضروا. حب الاستطلاع قادهم إلى بيتنا. لغط وصراخ وبكاء. لا أستطيع تبين سمات الجسد المسجى؛ جسد يقترب من حجم جسدي، خيوط برق تضيء المكان بشكل متقطع.. أدقق النظر إلى الجسد، تنفلت من الظلمة صورة له، إنه جسدي. لا، لا يمكن أن يكون جسدي، أنا داخل الغرفة ولست خارجها. فعلاً، شبهٌ كبير بيني وبين جسدي، بل بيني وبين الجسد المسجى في باحة المنزل. طفق صدري يخفق خوفاً.  جسدي يتصفَّدُ عرقاً، وارتعاشة تسري في بدني. أمطَّ قامتي لأتأكد من أني أحمل جسدي. أنفض عن ذاتي رذاذ الخوف الذي يطوقني. جسم أمي ينتفض من البكاء، في عينيها تقبع غيمة حزن. أيدي كثيرة متشابكة تسعى للالتفاف حول أمي، قصد إبعادها عن جسدي المسجى هناك. وأنا أحاول جاهداً أن أتأكد من أني هنا وليس هناك. هذا جسدي ألمسه، أحس بدقات قلبي المتسارعة. جسم أمي ينتفض من البكاء.. تسقط أمي أرضاً، تغيب عن وعيها.. شُلَّتْ حركاتها.. بقي لسانها وحده يصدر صراخاً عالياً.. تلَهَّى الناس عن جسدي؛ بل عن الجسد المسجى هناك. من بين خصاص النافذة ألمح جسدي المسجى هناك، يلتفت نحوي، يحدق في جسدي المطل عليه. يرسم على وجهه ابتسامة ماكرة، ويرسم على وجهي هلعاً قاتلاً.

أحاول أن أتخلص من جسدي المسجى هناك، وأعيد الثقة لجسدي الذي أحمله، أو يحملني، ما عدت أدري..

يغفل الجسد عني، وأغافل الأجساد المتلهية بجسد الساحة. أترك غرفتي خلسة، في غفلة من جسدي المسجى وبقية الأجساد المحيطة به، بل المسيجة إياه. أتسلق الجدار المحيط بالبيت، أجهد نفسي كي لا أثير انتباه الأجساد المنشغلة بجسدي القابع هناك.. وأغادر البيت..

أبتعد عن القرية، مسرعاً أعدو.. تسرقني المسافات.. ألتفت خلفي، لا أرى إلا وهاداً وأودية وقرص الشمس يتوسط كبد السماء.. المكان يتلفَّحُ بهواء حارق.. وأنا أسعى للبحث عن ظل شجرة تقيني من سياط الشمس.. لا لم تكن الشمس التي تلقي بسياطها على جسدي. الليل جهم،  ووجه بدر بئيس ينير، بصعوبة، مسالكي.. جسدي يحلم بطمأنينة كاذبة.. أحس بنظرات الجسد تتابع خطواتي، تعيقها قصد الإيقاع بجسدي. يقترب الجسد من جسدي، يضع ذراعه على كتفي، بحركة عدائية أحاول صدَّهُ.. أنزوي جانباً.. أتسمَّر واقفاً.. تسري في جسدي رعشة.. يتمكَّن الخوف منِّي، يعلق الكلام في حلقي عندما أهم بالصراخ في وجهه. تتلاشى قوتي وتَخِرُّ. يتفتت جسد الجسد، خيوط نور تنبثق منه تتشتت في الفضاء الشاسع.

ضباب كثيف يبسط رداءه على القرية هذا الصباح الندي. أقترب من بيتنا، صمتٌ يخيم على المكان. صباح هذا اليوم على غير ما كان عليه في الأيام السابقة. خيوط حزينة تصارع في دفع بقايا سواد الليل للتراجع، أكلته الأشجار المتناثرة هنا وهناك، والأزقة التي تعطلت مصابيحها..

أصل إلى عتبة باب بيتنا. فيض من الحزن الجماعي يخيم على المكان. ألقي التحية،. لم أنتظر أن يرد الجمع تحيتي، مَسَحتهُمْ بنظرة عابرة. دلفت إلى ساحة المنزل، أمي وأبي وإخوتي جالسون. شققت طريقي بينهم، أرنو إلى وجه أمي.. تضع مرفقيها على ركبتيها، جعلتهما سندين حاملين لرأس أثقلتها الهموم وبَدأتْ تَنْشُجُ..

تجاوزت الجمع، اقتربت من أمي، نظرت إليها.. خاطبني صمت جريح..

صعدت إلى غرفتي.. اقتربتُ من النافذة.. أطللتُ.. رأيتُ الجسدَ مُسْجى بباحة المنزل.. نظر إلي وابتسم.

أويت إلى فراشي، أغمضتُ عيني.. رأيتُ الجسد يحدق في.. سأكتم سر الجسد..سأحتفظ بذكراه في دهاليز جسدي …

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون