تمرينات على القسوة

موقع الكتابة الثقافي may telmesany 19
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مى التلمسانى

كنت أعانى من كتابة رواية انتهيت منها ولم أنشرها باللغة الفرنسية. ثم حدث أثناء كتابة الرواية الفرنسية أن ظهرت شخصية «عايدة» ذات ليلة شعرت فيها بالأرق. يأتى الأرق ومعه شعور أسمّيه «تململ الكتابة» وهى حالة تتدافع فيها الأفكار فى الرأس بلا رابط، لكنها تأتى مصحوبة بجمل كاملة مكتملة وصور لأشخاص تتحرّك فى فضاء غير واضح المعالم وانقباض فى القلب والمعدة. كتبت من وحى حضور عايدة قرابة خمس صفحات. كتبتها دفعة واحدة، تلتها صفحات أخرى وصلت لثلاثين فى اليومين التاليين. ثم حلّ الصمت عدة أشهر. اعتبرت أن المشروع فاشل ووضعته فى الأدراج. ثم فى خريف 2009 عدّت للكتابة من جديد، فقد ظهرت لى «عايدة جديدة» فى تلك الفترة واستمرت معى حتى الانتهاء من الرواية.

مع بدايات 2010 اقترحتُ نشر أجزاء من الرواية فى روزاليوسف ولم أكن قد انتهيت بعد من كتابتها، هكذا نشرت الرواية على مدار 14 أسبوعا تحت عنوان «يوميات عايدة». أردّت أن يكون العنوان بسيطا وأن يصل لقرّاء المجلة بسهولة مذكّرا إيّاهم ربما بكتابات إحسان عبدالقدوس. بعد ذلك أعدتّ كتابة الرواية بالكامل ونشرتُها عام 2012. أثناء إعادة الكتابة، تركت لنفسى حرية الوصف فى المشاهد الإيروتيكية (التى لم أجرؤ على نشرها فى المجلة) كما أضفت وعدّلت كثيرا لدرجة لم يبق من صيغتها المسلسلة الأولى سوى الهيكل الخارجى للحكاية والشخصيات. فى العمق، أصبحت الرواية بعنوانها الجديد غناء منفردا بدون مصاحبة موسيقى.

مثلها مثل معظم كتاباتى، تستلهم أكابيللا روح القصة القصيرة، ففيها تكثيف للمشهد ورفض للعلاقة الخطية بالزمن ومحاولة لتفتيت الحكى وإعادة تجميعه فضلا عن الحركة الدائمة بين المشاهد والأماكن والأزمنة، كلها عناصر أعتقد تسمح بوصل القصص والحكايات التى تضمّها الرواية فى سياق عمل كامل يقاوم البناء المحكم المغلق ويفضّل عليه الشكل اللولبى حيث يكون هناك رابط بين البداية والنهاية. الشكل إذن أشبه بشجرة اللبلاب حيث التفريعات والتشابكات التى قد تستعصى على التحديد فى إطار تكثيف للغة وتجنب «السنتمنتالية السقيمة» التى تلجأ إليها بعض الكاتبات لاستدرار عطف القارئ، أو الناقد ولكن بلا موهبة حقيقية. البعض قد يستسهل هذا النوع من الكتابة، لكنه فى اعتقادى عصيّ على التقليد، هو بصمتى الخاصة كما يحلو لى أن أقول عن تلك الكتابة التى أمارسها من بداية التسعينيات حتى اليوم.

فى أكابيللا، نص اليوميات الذى كتبته «عايدة» وأعادت الراوية «ماهى» كتابته وتنقيحه، نص مكتوب، أدبى بمعنى من المعانى، تتكشّف من خلاله شخصية ماهى رغم أنها لم تكتبه مباشرة بنفسها. اليوميات هى إذن الرابط بين الشخصيتين على اختلافهما، فعايدة شخصية نزقة قاسية غير قادرة على الحب وتتمتع بشر يشبه شر الأطفال، فى حين أن ماهى قوية، ثابتة رغم قلقها الدائم وبحثها عن الأمان. هناك أيضا بعض التيمات التى تربط بين الشخصيتين: مثلا تيمة الإجهاض الذى تكتب عنه عايدة فى يومياتها، نجد أن ماهى تمارسه قرب نهاية الرواية عندما تستأصل الرحم، ومشاعر الحب التى تكتب عنها عايدة فى رسائلها تتخيّلها الراوية فى أحلام يقظتها ولا تقدم عليها فى الواقع، وهكذا. فى المقابل، حضور الشخصيات الأخرى فى الرواية مرهون بما تعرفه عنهم عايدة وتكتبه فى اليوميات وبما شاهدته الراوية أو قالته عنهم نقلا عن عايدة. ليست شخصيات هامشية، لكنها بالقطع تدور فى فلك عايدة والراوية اللتين تتبادلان الالتصاق بهؤلاء الأصدقاء بطرق ووسائل مختلفة.

فى أكابيللا، حاولت أن أعبّر عن حالة فروغ الحياة من الأصدقاء، وهى تفرغ منهم طوال الوقت! فى حياتى الخاصة، لم أعد أحصى مرات الفقد بل درّبت نفسى على التخلى لأن ما أريده من الصداقة هو اكتمال طوباوى لا وجود له فى الواقع. عندما بدأت التفكير فى كتابة رواية بهذا المضمون باستخدام صيغة اليوميات، اشتريت كتاب أبوحيان التوحيدى الموسوعى عن الصداقة والصديق لعلّنى أجد فيه جوابا شافيا، لكنه لم يمنحنى الطمأنينة كما كنت أتخيل. الرواية منحتنى السكينة التى كنت أبحث عنها. فلقد أدركت أثناء الكتابة أن الأصلب والأبقى ليس الأصدقاء فى الواقع لكن الأصدقاء حين يتحوّلون لشخصيات فى رواية. هؤلاء لن يخونوا عهد المحبة كما حدث فى الماضى والآن وكما سيحدث فى المستقبل.

التفكير فى الفن والكتابة باعتبارهما أسلوب حياة من جوهر الرواية أيضا، وليسا سلما يرتقيه الفنان أو الكاتب للوصول للشهرة أو للاعتراف أو حتى للانتقام من آخرين كما نرى فى علاقة عايدة بماهى فى «أكابيللا». الكتابة أسلوب حياة تعلّمته على مدار ثلاث روايات وثلاث مجموعات قصصية نشرت من 1995 حتى الآن، المشروع الإبداعى الحقيقى من وجهة نظرى يفرض على صاحبه شروطا قاسية لا غنى عنها، أولها أن يظلّ وفيا لصوته الخاص، وأن يترفّع عن صغائر الأمور فى الحياة كما فى الوسط الأدبى، مثل الركض وراء الجوائز، أو وراء النقاد، أو مخاطبة القارئ المضمون، إلخ. الكتابة أسلوب حياة ومشروع حياة أيضا، وهى من التعقيد بحيث تصلح فى ذاتها مادة للكتابة وتستحق أن أكتب عن تعقيداتها وتشابكاتها الكثيرة مع الواقع، ربما فى جزء ثان قادم من رواية أكابيللا!.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم