تقنيات السرد وسحر القص في مجموعة “قصص بابل المعلقة”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 55
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. عزوز علي إسماعيل

مجموعة “قصص بابل المعلقة” للكاتبة الأستاذة تغريد فياض والتي تصل إلى عشرين قصة تعتبر مجموعة متميزة جداً، فهي ممسوسة بسحر السرد، ومتأثرة تأثيراً كبيراً بكبار كتاب القصة القصيرة نحو يوسف إدريس في قصصه القصيرة، والدكتور محمد المخزنجي في الوقت الحاضر.

لقد قرأت للكاتبة شعراً، ولكن في هذه الحالة يضاف لها أنها قاصة وساردة بعد أن قدمت عدداً من الدواوين الشعرية، وقد أجادت الكاتبة في هذه المجموعة في نواحي عدة منها تقنيات السرد لديها كانت على مستوى متميز، فضلاً عن اللغة ومدى شاعرية تلك اللغة، أضف إلى ذلك، عنصراً مهماً من عناصر القصة القصيرة الذي يكمن في بناء الحدث لديها، فقد استطاعت أن تبني حدثها بطرق مختلفة، فالطريقة العادية كان لها نصيب الأسد في بناء الحدث، حيث البداية ثم الصعود مع الحدث أو التأزيم ثم النهاية التي قد يظهر فيها الحل، ناهيكم عن التكثيف الشديد لدى الكاتبة وهو من خصائص القصة القصيرة، حيث اختزلت معاني كثيرة في جمل بسيطة وهي تقصد ذلك، ويتماهى العنوان مع أحد عجائب الدنيا السبع، وهي حدائق بابل المعلقة ببلاد الرافدين. وهو ما أشارت إلى دلالتها الكاتبة في البدء قائلة :”لكل منا حدائقه المعلقة” أي لكل منا حكايته الخاصة وعالمه المختلف عن الآخرين، ليس ذلك فحسب بل وصدرت أيضاً العمل بقولها :”قالت لي إحدى الجنيات: كي تمضي نحو القادم من أحلامك؛ لا بد من أن تتخفَّف من كل الأرواح العالقة في فضائك” والتصدير لا بد وأن يرتبط بالعمل من قريب أو بعيد فالكاتبة تبرهن على أن تلك القصص يحويها خيال بإحضار الجنيات، فضلاً عن أن الإنسان إذا أراد أن ينظر إلى مستقبله عليه أن ينفض ما علق به من الماضي قدر المستطاع، وهو ما كانت عليه الكاتبة في قصصها المختلفة. وهذا ما يذكرنا بما صدر به جمال الغيطاني روايته نثار المحو وهو ثلاثة كلمات لخصت العمل بأكمله هي قول فؤاد حداد :”كأن الحياة ذكرى”.. وإذا ما تذكرنا بإهداء رواية أرض النفاق ليوسف السباعي حيث كان الإهداء ملخصاً للرواية حين أهداها لنفسه التي بين جنبيه.

ففي قصة “احتفال” فهي قصة فارقة بمعنى أن الفكرة التي انتوتها الكاتبة في هذه القصة تحديداً غاية في الجمال والروعة، وهي فكرة أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بمفرده في هذه الحياة، فيفضل الموت عن الحياة إذا ما دعت الضرورة، ذلك أن هؤلاء الناس جميعهم يحتفلون بيوم الجائزة، ذلك اليوم الذي فيه سوف ينال أحدهم الجائزة، تلك الجائزة التي لا يتمناها الجميع، هي باختصار أن هناك فرداً واحداً سيبقى على ظهر الحياة في تلك المدينة الموجودة على قمة جبل منسي. أما الناس الباقون فسيموتون جميعاً تلك هي الجائزة ويصبح على الناجي منهم مسؤولية بداية حياة جديدة والعمل على تهيئة كل الأجواء من أجل تلك الحياة الجديدة في مدينة جديدة، وقبل ذلك عليه بدفنهم جميعاً واحداً واحداً..ومن الملاحظ أن الكاتبة قد أجادت في وصف ذلك اليوم إجادة رائعة؛ حيث الناس جميعاً يستعدون لهذا اليوم والزينة في كل مكان، فالشوارع مزدانة بالورود، والنساء يتخيرن أفضل ما لديهن من لباس وحلي..وهذه المدينة ولحظها تقع على قمة جبل حول بركان عجيب هو الآخر يريد الاحتفال بهذا اليوم فيطلق من فوهته بعض شظاياها التي تغير الأمر في المدينة بل الشوارع والمناطق، فيكاد لا يعرفها أصحابها بسبب ذلك البركان.

والكاتبة هنا بلمحة ذكاء تشير إلى الثورات العربية من خلال ذلك البركان الذي انتفض في أكثر من مرة، ولكنه لم يستطع القضاء على الماضي بأكمله وهو ما يتماهى مع بقاء شخص واحد، وكأنها تريد التغيير على أن تكون هناك جائزة، هذه الجائزة للجميع الكل يحيا ويعيش في سلام، حيث تتشكل الحياة من جديد، وهذه هي الأمنية بعد تلك “الثورات” تقول الكاتبة :”هم يعرفون أنه مع نهاية الاحتفال سيبدأ عهد جديد ويتشكل عالم قد لا يكونون موجودين فيه” فالعالم الجديد المضمر في عقل الكاتبة هو عالم نقي لا تشوبة شائبة، ويظهر ذلك جلياً في تماسك الجميع معاً وكيف أن مصيرهم الجديد واحد فيحاولون التشبث ببعضهم البعض فالحياة دون البشر ليست حياة بل خراباً. وكان بناء الحدث فيها تابعاً للطريقة التقليدية القديمة وهي أن يبدأ الكاتب روايته بداية طبيعية ثم يصعد مع الحدث، أو التأزيم [ المشكلة ] وفي النهاية من المفترض أن نجد حلاً لتلك المشكلة وهنا تظهر براعة الكاتب حين يجد من قصته طريقاً لتعدد القراءات بعد أن جعلت النهاية مفتوحة هنا في هذه القصة حتى ولو ذكرت موت الناس فهل بالفعل مات الناس جميعاً بعد هذا الاحتفال، خاصة وأن هناك بركاناً يغير الحياة، والواقع ومن السرد نجد الكاتبة قد أشارت إلى ذلك ووضعت لزوميات الشخص الناجي أن عليه دفن كل من مات بمفرده بعد أن رأى تلك المأساة في تساقط الجميع الواحد تلو الآخر.

وفي قصة “امرأة غير معقولة” نرى السرد المباشر وغير المباشر، وتؤكد الكاتبة فيها على أهمية القراءة والاطلاع ومدى قوة الثقافة في مواجهة المجهول. مجموعة من الأطفال كانوا يتخوفون من الحاجة “مريم” تلك السيدة الراقية التي كان همها كله القراءة واقتناء أفضل الكتب، ولديها مكتبة ضخمة، احتار الأطفال في أمرها وهم رضا سوسن وعبدالله، فقد كانوا إذا أرادوا اللعب بجوار بيتها كانت تتجهمهم وتتعجب من أمرهم أنهم يلعبون دون مراعاة لمن يقرأ ولا اهتمام به فقد كانت تجلس في البلكونة على أريكتها وتقرأ حيث كانت تقول لهم كلمة واحدة وهي “معقول!” وكلمة معقول هنا تحمل دلالات عديدة فهل من المعقول أن تلعبوا وأنتم ترون إنسانة تقرأ، فكان من المفترض عليكم ألا تزعجوها وكان أمراً طبيعياً أن تقول لكم “معقول”. هؤلاء الأطفال كانوا يطلقون عليها اسم ” دراكيولا” وهو التنيين المعروف بمص دماء البشر أو هو ذلك المخلوق أو الأسطورة التي تقول إنه مخلوق غريب يعيش على شرب دماء البشر منذ مئات السنين وقد حيكت حوله الأقاصيص، وحين أكد الطفل رضا أنه يسمع أصواتاً وكأن السيدة مريم تقتل وتعذب وتمص دماء ضحاياها، فهو لم يتأكد من أمرها، وهذا ما عالجته الكاتبة في حكاية الحاجة مريم مع الطفلة “سوسن” حين عادت من الخارج ووجدت هؤلاء الأطفال قد اقتحموا محرابها الفكري والأدبي كي يتأكدوا مما تفعله فوجدوا عالماً مختلفة عما كانوا يظنون فهو عالم مليء بالكتب واللوحات الراقية الجميلة والفنون العظيمة من نحت وتماثيل وأشياء تؤكد على أن هذه السيدة تعشق الثقافة، فذهل الأطفال من ذلك وهرب عبدالله ورضا خوفاً منها حين عادت ولم تستطع سوسن الهروب بعد أن دخلوا بيتها، لتؤكد لنا الكاتبة على فكرتها حين شرحت السيدة مريم لسوسن ما كانت تعيشه في هذا المكان حيث المكتبة العظيمة وأصبحت هناك صداقة بين سوسن وبينها.

أما تقنيات السرد هنا فقد سارت الكاتبة في رسم الحدث أيضاً على الطريقة التقليدية كما في قصة “احتفال” والتي تبدأ بداية عادية وتصعد مع المشكلة وهي هنا الخوف الشديد من السيدة مريم ثم تقوم بالحل في النهاية وهو ما حدث بالفعل، وقامت أيضاً بإعطائنا الحل وكان من الأجدر بها أن تتركنا في مفترق طرق بمعنى أن تجعل المتلقي يفكر أكثر من مرة في الحل أو في الفكرة نفسها وما كان مآل الأولاد. وكانت تقنيات السرد لديها أيضاً واضحة في استخدام أساليب السرد المختلفة ففي هذه القصة تحديداً بدأتها بالسرد المباشر أي الحديث عن الغائب من خلال قولها :”يراقبونها يومياً كلما نزلوا للعب في الساحة الخلفية للعمارة يمشون بهدوء ليتأكدوا أنها ليست في البلكونة حتى لا تطردهم” وهنا نرى الحديث يصاغ باستخدام السرد المباشر بالـ “هو” و الـ”هي” ثم بعد ذلك نرى استخدامها للسرد الذاتي حين تتحدث سوسن عن نفسها أي أن الكاتبة جعلت هناك نوعان من السرد في القصة سرد ذاتي وآخر مباشر، وهي تقنية سردية. ومن هنا نقول لقد كان بناء الحدث في القصة طبقاً للطريقة الأولى في السرد وهو المعمول به منذ الستينيات وحتى الآن، بينما كانت صياغة الحدث متداخلة كما قلت في التنوع بين السرد الذاتي والمباشر.

أما قصة “رهان” فهي قصة إنسانية مؤلمة تعزف على وتر التفكك الأسري غير المباشر ، قصة طفلين غاب عنهما الوالدان طويلاً بسبب العمل أو غير العمل، ولم يجدا بداً من إيجاد أبوين آخرين بطريقة أو بأخرى فصنعا أبوين بالورق محاكين للطبيعة، وبعد اكتشاف الأمر من قبل الوالدين الأصليين عند عودتهما أصبحا في حيرة وأصبح لهما الاختيار إما أن يبقيا بجوار ولديهما، أو أن يختار الولدان الأبوين البديلين ولهذا فهي قصة مؤلمة..تبدأ القصة القصيرة الجميلة والتي انتهجت نهج القصص السابقة في طريقة السرد وهي الطريقة المعروفة بالبداية ثم المشكلة ثم الإشارة إلى الحل في النهاية، ولكن ما يحسب لهذه القصة أنها وضعت اختياراً في النهاية للأبوين وهو ما جعلهما يندمان على التفريط في حق الطفلين سواء أكانت الطريقة متعمدة أم أنها كانت رغماً عنهما بسبب العمل أو ما شابه ذلك، فهي قصة رمزية لكل الآباء والأمهات أن يضعوا في عين الاعتبار ما قد يحدث للأبناء إذا ما تغيبا عنهما ونسيا دورهما الأساسي..الولدان هما يزَن وفراس، شقيقان في الصف الأول والثاني الثانوي كانا يتحديان بعضهما البعض في أمور كثيرة حيث تميزا بذكائهما الوقاد وعلى الرغم أن هذين الوالدين كان في وظيفتين مرموقتين إلا إن غيابهما عن البيت بهذه الطريقة لا يسوغ لهما نسيان ابنيهما فالأب أستاذ جامعي والأم مذيعة معروفة، فالبيئة بيئة مثقفة ولكن هذين الولدين يشعران بداخلهما بالفقد من أشياء كثيرة لم يملأ هذا الفقد إلا بتلك الفكرة الغريبة التي جالت بخاطريهما وبالفعل نفذاها، فهما منذ الصغر وهم يشغلان فراغهما بألعاب ذكاء نحو لعبة مراقبة الكلمات المكتوبة، هنا أو هناك ..

ومن الجمل المفتاحية للقصة “اعتادا ذلك منذ بضع سنوات كي يتسليا خلال الوقت الطويل الذي يقضيانه بمفردهما” وهي جملة لخصت أهم ما تتميز به القصة القصيرة من خلال جزئية التكثيف الشديد، لأن هناك خصائص للقصة القصيرة وهي التكثيف والوحدة والدراما، وكانت هذه الجملة مفتاحاً للقصة من ناحية إظهار الوقت الطويل الذي يمر على الولدين وكان هناك إصرار منهما على الاستفادة منه خاصة وأن الوالدين قد انهمكا في عمليهما..وقد فكر يزن الابن ماذا يفعل حين انهزم في جمع الكلمات أمام أخيه فراس وفرض عليه فراس أن يحصل على أم وأب جديدين وقد فكر كثيراً يزن وفي النهاية ابتكر طريقة لإنقاذ نفسه وهي تلك الطريقة التي ابتكرها برسم الأب والأم ووضعهما على عصا كبيرة بحجمهما ويلبسانهما ملابس حقيقية، ولم تكن الملابس التي أرادها لهما هي ملابس الأم والأب الحقيقيين بل قال جملة فارقة “لا نريد ملابس أمي وأبي، لأننا نريد ماما وبابا جديدين تماماً” والأصعب من ذلك أن قوله “رائع ونبتكر لهما السيناريوهات التي نتمناها ولا نستطيع الحصول عليها مع والدينا..سنصنع معجزة”.. عاد الأب والأم الحقيقيان فصدما مما رآه وكانت كلمة الاختيار هي الفيصل تقول الكاتبة “تبادل الجميع النظرات، ثم تلاقت أعينهم جميعاً عند الأوراق المتناثرة على الطاولة. وبها كلمات“الاختيار” وهي من أكثر الجمل إيلاماً في هذه القصة القصيرة حيث بها تكثيف شديد تتطلبه القصة القصيرة. وما يعيب بعض القصص الأخطاء الموجودة  بها نحو ص33، 34، 36 وكذلك الأمر علامات الترقيم والقصة القصيرة لا بد من الاهتمام بعلامات الترقيم.

ومن تقنيات السرد المختلفة التي استخدمتها الكاتبة في قصة “وحش بنكهة زهرة الصبار” أنها بدأت القصة من لحظة التأزيم ”البكاء على ما فقد” فهذا هو الوحش الكاسر يبكي ويندم على فعلته ويقول “كيف قتلتها؟ كيف استطعت أن أطفئ نور حياتي، لقد كانت تتسلل إلى قلبي مثل نسمة الفجر فتفتح أقفاله”“وهو إسقاط في محلة فكم قتلنا من الجمال وكم ديست بالأقدام ورود كان لها عطاؤها المعروف، مثل هذا القاتل مثل الآلاف من البشر من لا يحفل أو يهتم بتلك النعمة التي أعطاها الله له، لذلك فإن الكاتبة كانت مجيدة في قصتها، وفي بناء الحدث فيها، حيث بنته على الطريقة الحديثة في القصة القصيرة حين جعلته يتصدر القصة، ثم تبدأ بعد ذلك بالشرح وإعطاء بعض التفصيلات وإسقاطات رمزية على واقع نعيشه هنا أو هناك..فكم من قلوب خشبية نراها، وكم من لحم بشرية فتكناها إنها القصة الإنسانية الرائعة للكاتبة

قصة “رباب صانعة الحكايات” …والعزف على أوتار المؤثر الذي يصنع الحكاية حيث القطار وما به كان سبباً في صنع الحكايات.

وفي قصة “أمومة” نرى الأستاذ أحمد الصحفي يقوم بدور الأم حيث تفاجئنا الكاتبة في النهاية بأنه رجل وكسر توقع المتلقي ليجد مفاجأة فهو رجل قام بدور الأم..ليأخذ معه في نهاية اليوم القطط ليربيها مثلما ربى أبناءه إنها عظمة الأمومة.

 

 

 

مقالات من نفس القسم