تصبحين على خير .. التقاط الشاعرية من الموت!

تصبحين على خير .. التقاط الشاعرية من الموت!
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إبراهيم عادل

للوهلة الأولى يبدو عنوان (تصبحين على خير) عنوانًا رومانسيًا، لشاب يود أن يرسل هذه الأمنية/الرسالة التقليدية لحبيبته البعيدة، ولكن ما إن تبدأ بتصفح الديوان حتى تفاجئ بـ "اليد المسنة" و"التجاعيد" و"عملية" و"مسافة محصَّنة مع الموت" .. (كنّا نقترب من الموت/ بسرعةٍ فائقة/ لم يعد يسبقنا في الصف/ إلا الملائكة)

وبمجرد حضور الموت، وإدراك القارئ أنه إزاء ديوان “رثـاء”، وليس رثاءً لحبيبة أو شخصٍ عابر، بل رثاء لتلك الأم .. الحبيبة القريبة المفتقدة، يستحضر القارئ تلقائيًا موروثا شعريًا  كلاسيكيًا، وربما يفكر أنه إزاء ذلك الرثاء التقليدي الذي تتعدد فيه صفات المتوفى وما ينقص الناس بغيابه وغيرها من “البكائيات” ، ليفاجئ ب”تفاصيل” حياتيه” عديدة مختلفة أخرى يقدمها “علاء خالد” في شاعرية  تبدو لي خاصة جدًا، إذ هو يبدو كمن يرثي نفسه، ويرثي العالم كله في أمه، وكل ذلك ليس من خلال خطابيات هائلة أو جمل إنشائية زاعقة، بل من خلال الرصد الكثيف لتلك التفاصيل العابرة وكيف بقت مؤثرة في حياته، وكيف ـ من خلال استعادتها ـ يُشعرك أنت أيضًا كـ “قارئ” بذلك الحزن المكتوم  الذي يبدو فيه البحر “شريط أزرق .. وعينٌ حمراء”

هذه الصورة المكثفة، البسيطة، هي ما يبث فيك الحزن مباشرةً، فهو لا يقول لك أنا أبكي، أو أنا أنتحب، ولكنه يرسم الصورة المجرَّدة (شريط أزرق، وعين حمراء) .. في تلك الرحلة الأخيرة معها (من المستشفى إلى المدافن) ..

الملاءة التي كانت تغطي جسدها، والتي تحولت لتذكار من نوعٍ خاص ( وأنا صغير كنت أقف ممسكًا بأحد أطراف الملاءة/ وأنتٍ على الجانب الآخر/ أشدها فترخين/ثم تشدين فأرخي/ كشعرة تفاهم .. وفي لحظةٍ نفردها كشراع/ونحوطها من زواياها الأربع/ هواء الذكرى الأخف وزنًا من هواء ماضينا/ كأننا على وشك الطيران)

وهكذا يتحوَّل المشهد الشعري، واللقطة البسيطة إلى تذكار محمِّل بالدلالات والذكريات والشجن، يرسم شكل العلاقة، على نحوٍ رمزي، وهو يقول قبل ذلك (هذه المرة عدت بملاءتك/وصنعت منها خيمة/نصبتها في حديقة البيت) بكل ما تحتويه تلك الخيمة من دلالات الدفء والسكينة والشعور بالأمان، وبكل ما يوحي مكانها “في حديقة البيت” بفكرة القريب البعيد الذي يمكن الخروج إليه واستدعاءه بسهولة، وفي الوقت نفسه هو خارج حدود ذلك البيت، متواجدًا حيث يجب أن يكون “في الحديقة”!

ماذا يمكن أن يرصد الشاعر في غياب والدته؟!

 (أشياء البيت الثمينة/عادةً ما تأخذ دورتها في الاختفاء والظهور/لأيامٍ، لشهورٍ، لسنوات/ أما أشياؤكِ فما زالت طافية/ ما عليَّ سوى أن أنبش بأظافري/ في القشرة القريبة من الذكريات/ سجادة الصلاة، راديو الصباح، نظارة القراءة/ أشياؤكِ /التي لا تنتهي)

التذكارات المعتادة مفقودة (لم تتركي لي إلا صورة ببروازٍ قديم/وأنتِ في الثامنة،/ في السن الذي لم يكن الخجل قد بدأ سيرته بعد/ السن الذي تسقط فيه أي جريمة)

وهو إذ يلملم ذكرياته معها، لا تستوقفه كثيرًا علاقته بها، قدر ما تستوقفه أكثر علاقتها بالأشياء المتروكة، قدر ما يتذكر مثلاً كيف كانت تواجه المواقف، وكيف كانت تتعامل مع العالم، وكيف بالتالي تترك أثرًا لكل شيءٌ من حولها فيه روحها (شطرُ كبيرُ من ليل بيتنا/كان مخصصًا لبكائك/ صلاةٌ، واستغفارٌ ودعاء/ أي غرفة أخرى في البيت/ كانت جدرانها تهتز/ وصوت قرآنك ينقرُ عليها ببطء) ..

 

 يتذكر مثلاً كيف تواجه هذه الأم “الصبورة” الحزن ذلك الهم المؤرق الذي يطارده الآن: ( مهما كان حزنكٍ عاليًا/كان يجثو أمام طبق الآيس كريم .. ليالٍ كثرة/ كان الآيس كريم يصنع حولنا/ مجالاً هادئًا من السعادة/من أصوات الملاعق والأطباق/ والقيام والقعود/وترقرق اللعاب) 

تحضر باستمرار الصورة السينمائية، لتجد نفسك مشاركًا في ذلك المشهد العائلي “السعيد” متناسيًا تمامًا أن ثمة حزن هنا، يكمن في تذكر تلك التفاصيل ..

 تلك العلاقة الاستثنائية بينهما، جعلته يرصد تلك العلاقات والمشاهد الشاعرية، التي لا يبدو فيها أبدًا رجل يرثي والدته، ويبدو مدركًا تمامًا لذلك إذ يقول ( أنا الأب الكبير لأسرارك/بانتظامٍ كنتِ تعلقين على مشجب قلبي/سرًا جديدًا/ حتى يخيل لي أن السر هو الابن البار لحياتك) وهو إذ يحترم اعتبارها أب أسرارها، يحتفظ بتلك الأسرار جيدًا،حريصًا على عم إفشائها لاسيما بعد موتها، إذ أنه لا يعتبرها مجرد أمٍ مثالية، أو عابرة، ولكنه يرصد مواطن جمال خاصة فيها، كأن تكون بالنسبة إليه تلك الطفلة التي يرصد معها ما تحبه من “فواكه الطفولة” ( البلح الأسود، التين، الجوافة/ حبات البطاطا المشوية/ فواكه الطفولة/التي كبرت معكِ، الطائفة المستثناة من قائمة الممنوعات ألأي طبيب/ وهناك أيضًا كيس “الفول السوداني” الساخن/الذي كان يتركه والدك/ بجوار السرير وأنتِ نائمة/ أحيانًا كنت أضبطكِ ليلاً/ وآثار الشيكولاته على فمك/تضحكين من الخجل/وتمسحين بقوة آثار الجريمة/كأنكٍ تطمسين الذاكرة/لهذا الفم المذنب)

هكذا لم يعد الرثاء خاصًا بالأم، بل بدت الأم الآن كطفلة، وبدا الرثاء وكأنه موجَّه من الأب الذي يراقب ابنته بحب، ويحرص على جلب ما تحبه لها، ويراقب تصرفاتها، ويتحوَّل المشهد من الرثاء إلى انتزاع الحنين المصحوب بابتسامة خفيفة لتذكر تلك المواقف،

يبدو الحديث عن الموت والرثاء والحزن بسببه وكأنه يتخلخل شيئًا فشيئًا لنجد إشارةً/تصريخًا كـهذه ( الموت/ هذا النهر المجمّد بيننا/بياضٌ وبرودةُ ووحدة/ ما يؤلمني بحق،/أنني لن أراكِ بعد اليوم!)

تبقى الصورة الشعرية حاضرة، ومهيمنة على المشهد حتى في اللحظات التي يقرر فيها أشياء تبدو عادية وعابرة، فيتحوّل الأمر إلى مجرد رصدِ محايدٍ للذكرى، ولدوره كشاعر/كاتب يرصد حكاية يبدو فيها “متورطًا في الحب” وتجعله يقترب من الناس، بل تدفعه إلى التأكيد على فلسفة الموت التي تبدو “حكمة بسيطة” ـ على حد تعبيره ــ (في آخر كل موتٍ حياة …)

(بغيابكِ/نقصت حجرةُ من حجرات البيت/ أصبح البيت مائلاً ناحية الموت/ كم سنة أحتاجها/ لأعدل الميزان/لأبني حجرةً أخرى من الذكريات)

(في كل تذكر/ كأني أفتح صفحة بيضاء/ وأكتب بملء عينيّ من تفهم/ حتى يكتمل كتاب حياتك/كتاب التذكر.

لتكوني راضيةً هناك/ وأنني أبدًا لم أسيء الظن بكٍ/ كنتٍ تخافين من حياتك المكشوفة في كتاباتي/ أصبحتِ الآن قارئةً محايدة/تمر حياتك أمامكِ بهدوء/ وأصبحت أنا كاتبًا متورطًا في الحب)

(لم يبق من حياتك إلا الحكاية/أجول بها،/بدون رغبة إلا فى الحكى، /فى قول الحقيقة./أصعد عتبات بيوت الغرباء/أجتازها بدون سؤال، /بشفرة سرية/ معتزاً بكونى أمتلك حكاية حزينة/ عن أم فقدتها وأنا فى الخامسة والأربعين)

(بدمعةٍ معلقة/ أتذكرك كثيرًا في السفر/أتحرّش بالجموع/ بهواتف الشوارع/ أبحث عن صوتي وهو يتحدث إليكِ/وهو يتجسس من بعيدٍ على صوتك/ عبر مسافة منتهية/ عبر لغة غير عاطفية تتناثر حولي/ حكايتكِ تقربني أكثر من الناس)

(تلك الحكمة البسيطة:/في آخر كل حزن فرح/في آخر كل موتٍ حياة/ نعم/تصبحين على خير)

هكذا ينهي “علاء خالد” تلك المرثية الاستثنائية، ليتحوَّل الأمر إلى إدراك ذلك الحزن النبيل، مع التفكير في علاقاتنا بمن حولنا وبالعالم!

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم