“بيت القبطية” لأشرف العشماوي.. كلنا مجرمون كلنا ضحايا

بيت القبطية
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عفاف عبد المعطى

منذ عقد السبعينيات من القرن الماضى إبان حدث تغير وجه الدولة المصرية ومن ثم وفود تيارات وأفكار متشددة برعاية دعاة مؤثرين فى الشارع المصرى وأئمة عاكفين فى المساجد ترغيبا وترهيبا، وقد ظل ذلك الوضع سنوات طويلة لم تُخلّف سوى الفُرقة والتمزق بين المواطنين المصريين أبناء اللُحمة الوطنية الواحدة، ومن ثم سرت الفرقة بين أبناء الوطن الواحد أقباط ومسلمين، وصارت الفتنة الطائفية هى أخطر ما يواجه الأمة المصرية وصار الجميع يتكلم عن عنصرى الأمة مما يشى بفُرقتها. وتداخلت السياسة فى الدين والدين فى السياسة مما أحدث فجوة اجتماعية كبيرة لا ينكرها إلا عديمو البصر والبصيرة   ومن هنا تأتى أهمية أن يتفاعل الكاتب مع قضايا مجتمعه وأن يخوض غمار أرض هى الأشواك بعينها وهو ما يقدمه الكاتب أشرف العشماوى فى روايته “بيت القبطية” (إصدارات الدار المصرية اللبنانية 2019) .

تقع أحداث الرواية فى صعيد مصر فى قرية الطايعة / التايهة  فى محافظة أسيوط حيث التواجد التقليدى فى صعيد مصر بين الأقباط والمسلمين، من حيث المكان فى القرية معظم ملكية الأرض للمسلمين، بينما التفوق  العددى للسكان الأقباط، الزمان حديث إبان سيطرة فكرة الصراع المحتدم بين ابناء الوطن الواحد خاصة فى نهاية القرن الماضى والذى لا يدل عليه سوى جملة تهكمية تأتى على لسان الراوى نادر فى نهاية النص “قلبت فى الصحيفة بلا مبالاة، تصريحات مبارك تحولت لمقالات متناسخة شبه متطابقة من كل رؤساء التحرير تؤكد على أن الغد أفضل (233)”.

 فى رواية “بيت القبطية” التى تقع فى خمسة وعشرين فصلا نحن أمام السلطة القضائية متمثلة فى وكيل النيابة نادر سليل العائلة القضائية ابن المستشار فايز كمال القاضى العادل الذى أوصى ابنه منذ أول يوم تعيينه فى النيابة بضرورة سيادة القانون “ما تسمعش غير صوت ضميرك. السياسة لو تدخلت فى القضاء أفسدته والقانون لو دخل فى أفعال الساسة لأصلح حالهم “(ص55)، لكن واقع حياة نادر غير ذلك فى حياته الخاصة والعملية ففى حياته الخاصة، خطيبته الصورة النقيض له  التى تحثه على أخذ أراض من المخصصة لوزارة العدل بالمدن الجديدة “كى نحجز فيها قطعة أو اثنتين لنبيعهما لما يرتفع السعر” (ص22)،  كذلك الواقع العملى والوظيفى لنادر مخالفا لوصية الأب فالمستشار رضوان الذى يعمل فى هيئة الصرف الصحى وليس فى القضاء “عاوز حقى وحق ناسى عاوز أرضى وطينى عاوز احمى حقوقى من ولاد بيشوى باشا .. تعمل معاينة للأرض وتمكنى منها ” يستنجد رضوان برئيس النيابة كى يحث وكيل النيابة نادر على تمكينه من الأرض “المستشار رضوان من أعيان البلد والمركز هنا له طبيعة خاصة غير شغلك فى القاهرة انزل اعمل معاينة طلع قرار تمكين مؤقت للمستشار رضوان وسلمه صورة منه بس من غير ما تعلنه لعيلة بيشوى”(ص 36/37) وهو ما يكشف للمتلقى طبيعة هذا المحقق المنتقل حديثا الى الصعيد ساعيا الى تحقيق العدل وإقامة العدالة الاجتماعية لمدة عام قضائى واحد يهرول بعده الى القاهرة  بينما يتحكم فى الواقع أشياء أخرى دالة على حياة قرية الطايعة حيث الجرائم الكثيرة والفاعل مجهول والفساد الاجتماعى والتعايش بين الأهالى الذين لا يحبون البلاغات ولا إشراك الحكومة فى مشاكلهم (ص81) هؤلاء الأهالى الذين يحبون واقعهم ويزكون طريقة حياتهم فيه والسلوك التعويضى الذى يقوم به الأقباط دفاعا عن وجودهم وأرضهم ومكانهم الذين يرفضون وجود المسلمين –على قلة عددهم وامتلاكهم لمعظم الأرض- فيه.

أولئك المسلمون عديمو الدور قليلو الشخصيات فى النص، وكأن النص مكتوب لوصف الشخصية القبطية فى المجتمع المصرى ومن ثم وقوعها فى دور المدافع عن نفسه المتصدى للعدوان عليه فحسب، وذلك ما أتى على لسان أكثر الشخصيات جمالا من حيث الكتابة، وهي شخصية رمسيس غفير الاستراحة التى يقيم فيها وكيل النيابة نادر، عندما قال بعد إحدى الحوادث “مفيش بعد  حرق الزرع جيرة”(ص83) رمسيس الصورة القبطية الفاعلة فى الواقع والتى تمت كتابتها بصورة ممتعة وهو الصورة المضادة للشيخ رجب المسلم المتشدد “النصارى كفرة ونسوانهم حلال”(ص31) “تخيل كل دى كنيسة يا باشا وفى تلاتة غيرها .. حصار”(ص38) وإن كان السرد قد ابتسر الكثير من تفاصيل الشخصيات الثانوية على الرغم من أهمية وجودها وكونها ركيزة فى السرد (رمسيس / نبوى الديب الهارب من الثأر دون ان يكون هناك تفصيل سردى لذلك أو حتى اعتراف نبوى نفسه بقصة الثأر كى يعرف المتلقى أسباب هربه واختفاءه وإقامته ليلا فى قسم الشرطة  / خضر / رزق / علوان سارق الطاووس من حديقة الحيوان ثم أكله بالملوخية إيعاذا من زوجته) .

الشخصية الأساسية الأخرى خلافا لنادر هى شخصية (هدى يوسف حبيب) التى تطلق على نفسها اسم نورعند هروبها الى قرية الطايعة فارة من جريمة قتال ظنت أنها فعلتها فى زوجها المسلم خضر الذى كان يعاشرها بالاكراه أشبه بالاغتصاب طلبا للانجاب وهو لا يصدق أبداً أنه عقيم  والذى يكويها بالمكواة مما يضطرها الى الدفاع عن نفسها لقتله ومن ثم الهروب منه الى قرية التايهة فيبدأ بها عهد جديد من الحياة طاوية ماضيها وهى تظن أنه قد انتهى، هدى نموذج للمراة المقهورة المفعول بها من الزوج وزوج الأم من قبله وكلاهما قد اغتصبها” قبل زواجى طارت آمالى فى الحفاظ على بكارتى من زوج أمى افترسنى بغتة وانا نائمة فى البيت وحدى “(ص14). فى قرية الطايعة تغير هدى اسمها الى نور ويكشف ديانتها الصليب  الموشوم على يدها ومن ثم تقيم فى الكنيسة “لم يمض شهر على إقامتى بالكنيسة حتى بارك الأب اسطفانوس زواجى من رزق.. يوم زفافى طافت بذاكرتى ذكريات يوم مشابه منذ بضع سنين عندما وقفت أمام خضر وأمى وزوجها فى غرفة معتمة بجوارهم شيخ لم يلتفت نحوى .. أجبرونى قبلها على توكيل من اغتصبنى ليتناوب علىَّ غيره (ص59)  واذا كانت قضية العدالة ترتبط فى النص بوكيل النيابة نادر ، فقضية تحقق العدل مرتبطة  بشخصية هدى التى صنع منها واقعها مجرمة بلا رغبة منها فى ذلك ليخبىء لها السرد فعلا آخر وهو رسم المسلمين للصليب على بيتها وزوجها رزق ” ففى أقل من شهر صار بيتنا علامة للتائهين يكفى أن تقول ناحية بين القبطية” (ص63) ذلك البيت الذى صار مبروكا بفعل تداول الجهلاء لبركات القبطية صاحبة الكرمات التى ظن الناس أنها أحيت طفلا ميتاً ببركة يسوع ” بعدها تأتى نسوة من بلاد ومراكز قريبة يسألن عنى كى يتبركن ببركتى وليلدن ذكورا ، لكن الغريب أن الكثير من المترددات على دارى كن من المسلمات وتقبلتهن بمحبة (ص79)  لكن لا تأتى الحياة بما تشتهى السفن فتنكشف جريمتها التى سرعان ما يحقق فيها المحقق نادر ومن قبلها حملها فى توءمين أوصت الغفير رمسيس أن يسميهما “نادر ” و”كمال” ولأن الجريمة تخلف جريمة فتموت أثناء الولادة وتخلف طفلين يتنازع على نسبهما آل نبوى الديب زوجها الحالى و زوجها الأول خضر ” لم أر ألا أطيافا تتراقص كالطير المذبوح تنتظر قرارا من القاضى فى جولة طويلة بإثبات نسبهما لأب من اثنين رزق أو خضر (ص 237) .

تحمل رواية الكاتب الروائى أشرف العشماوى الكثير من الوجع الاجتماعى الذى تعانيه مصر لقرابة النصف قرن ، تناوب السرد فى النص راويان ذاتيان هما شخصيتاه الأساسيتان (نادر وكيل النيابة) و هدى حبيب الشخصية النسائية الفاعلة الوحيدة سرديا فى النص ولكل منهما همه لكن الاختلاف بينهما أن المحقق يحمل هما اجتماعيا عاما ، بينما وجع وهم هدى هو جزء من اوجاع الوطن كاملة. هذا الوطن الذى يعانى الفتنة الطائفية التى تَخمد قليلا لكن سرعان ما تشتعل وكذلك الجهل الذى يفسد حياة أى مجتمع والذى لا تخلو منه المجتمعات الضيقة فى القرى و النجوع التى لم تنل حظاً وافراً من التعليم والتثقيف وتتحكم فيها العادات والتقاليد، تبدو الشخصيات عبر السرد نابضة وحقيقية ومتحركة وهذا ما يشعر به المتلقى منذ اللحظة الأولى للقراءة حتى نهاية النص قبل أن يقرأ الصفحة الأخيرة للعشماوى الذى يذكر أسماء بعض الشخصيات الحقيقية التى تأثر بها فى حياته فمثلت جزء كبيرا من السرد، كذلك يبدو تأثر الكاتب أشرف العشماوى كثيرا بنصوص “يوميات نائب فى الأرياف” لتوفيق الحكيم وقد ذكره صراحة فى النص، وكذلك الوحدة التى كان يعانيها نادر فى مجتمع القرية المُغلف بالجهل والفراغ مثل شخصية البوسطجى للكاتب يحيى حقى التى تعانى الفراغ نفسه فى مجتمع قروى يسوده الفقر والجهل والعادات الاجتماعية السالبة ، كذلك ظهر تأثر العشماوى فى سياق سرد الكرامات التى خلعها أهل القرية على بيت القبطية وعلى القبطية هدى مثل ما حدث لبطلة رواية الحرام ليوسف إدريس حيث عاشت حياتها تعانى من القهر وعار الخطيئة بينما تحول مثواها إلى مكان للتبرك خاصة لمن يأملن من النساء فى الانجاب مثلما تحولت هدى القاتلة الخاطية الجامعة بين زوجين الى سيدة مبروكة لها كرامات يمكن أن تمنحها لكل من يطرق بابها .

بظهور نص “بيت القبطية” يضيف الكاتب أشرف العشاوى إلى نصوصه نصاً آخر بموضوع آخر وهو ما يميز العشماوى بأن يكون لكل رواية قضيتها وعالمها الاجتماعى الذى غالبا من يلمس على أوجاع وأعطاب المجتمع المصرى، فمن نقد التجربة الناصرية إلى قضية تهجير أهل النوبه انتهاء  بالفتنة الطائفية تظهر العوالم الروائية المائزة للعشماوى .   

مقالات من نفس القسم