بالأبيض والأسود

محمد بروحو
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد بروحو

لم أدر لم أصابني ذاك الدوار المفاجئ. حينما حدجت ببصر ثاقب تلك الصورة التي كانت معلقة أمامي مباشرة..

ربما الشبه.. لأحد من الجنود الذين شاركوا في الحرب الأهلية الإسبانية، التي دارت رحاها مابين سنتي 1936/ 1939. ذاك الشبه الذي ألصقته بأحد معارفي أو أحد أصدقائي. لذا حاولت أن أطابق الشبه الذي توسمت من وجه الجندي على كل من اعتقدت أنه شبيها له.

بينما في حقيقة الأمر، أن الصورة التي كانت ماثلة أمام عيني، أقصد هي الشيء الوحيد الذي أستطاع أن يحرك في دواخلي إحساسا رهيبا، ولهفة الاشتياق إلى ماض دفين، في ذاكرة متعبة. وربما إلى ما لمحته من تداخل، ما بين لونيها الأبيض والأسود، واللذان كانا قد أصبحا يميلان بدورهما إلى الأصفر الباهت.

إن شعورا متميزا كهذا الذي مسني في تلك اللحظة التي أحسست فيها بشيء من الاختلاف، حيث شعرت بانجذاب قوي إلى الصورة وبطريقة لا شعورية، جعل فرائصي ترتعد، كما سرت في جسدي العليل برودة قاتلة.

أو ربما لأني كنت آنذاك قد تذكرت شيئا ما مهما، وربما كان تلك الرحلة التي قمنا بها إلى الضفة الأخرى في نهاية السنة ما قبل الماضية، وكانت رحلة شاقة ومتعبة، فتحت أمامنا ماضيا دفينا تملؤه جراح وآلام..

ولم يعد ماضيا مشتاقا كما كان من قبل. ماض يلتصق على سطح صورة، ظلت معلقة لزمن طويل على حائط مهترئ لغرفة الجلوس، ذو لون آجوري باهت، وحيثما بدا يميل بتموجات متفاوتة الألوان، إلى لون الشفق عند غروب شمس مساء ممطر.

عدت منكسر الفؤاد، وأنا أتفحصها بوهم. أقطف من كروم الأيام، ما حسبته قد يترك في حلقي حلاوة زمن آسر لذكريات تاهت، وبادت على أنغام موسيقى جنائزية حزينة، لرياح ظلت تندفع من جوف الفجاج بعصبية بالغة. وظلت تعزف على قارعة طريق متربة، توصل إلى شاطئ وطيئ..

لم يعد يذكرني به، عدا صور شمسية قديمة التقطت في زمن مضى، آنست العودة لها كلما سنحت لي فرصة القيام بذلك، وحين اقتربت من واحدة منها، وكانت تلك الصورة التي ظلت معلقة طوال الوقت، حدث الشيء الذي سبق أن حدثتك عنه. وبينما أنا أتفحص معالمها، وخزني حنين دفين، أتاني على حين غرة، من زمن مضى وولى.

أحدجها باهتمام بالغ الأهمية، وأحدج تفاصيلها الميتة، ربما إلى ما اعتقدت أنه كان قد منحني في وقت ما تميزا عن باقي الرفاق، الذين ظهرت إلى جانبهم وحيثما برزوا في صفوف تنتظم من ثلاث طبقات. وبدا كل واحد منهم، مستعدا لكي تلتقط الصورة بكل تفاصيلها.

كان كل شيء وقتذاك جميلا ولطيفا، سجلت بدقة متناهية لحظاته من نظرات جنود بدوا متفائلين، وربما كانت من أرقى اللحظات التي عشناها معا وعايشنا فيها بعضنا البعض، رغم اختلاف الطقوس التي كانت تغاير الطقوس التي كنا نقيمها في أرض الوطن.

ربما البزة العسكرية، التي برزت بها لابسا إياها في الصورة، والأوسمة التي كانت تزين صدري، هو ما أثار في نفسي كبرياء واعتزازا، لم يحظ بمثله الآخرون من الرفاق. كبرياء انطفأ وميضه واندثر، مع مرور زمن قاس.

كانت صورة قادرة على أن تثير في نفس أي شخص ممن شاهدها، ذاك الانجذاب والنظر إليها بمتعة بالغة، ويمكن أن يحدث هذا بمجرد إلقاء نظرة سريعة، حيث لا تترك لك متنفسا من الوقت، حتى تحس بأنها فعلا قد تركت في نفسك انطباعا جيدا عن الجنود الذين برزوا عليها. وعن تلك الرحلة التي قادتهم إلى هناك. كما يمكن أن تدرك أيضا وأنت تنظر إلى الصورة، بأني كنت واحدا من أولئك الجنود المميزين، الذي استطاع بذكائه أن يحصل على أرقى الدرجات، والتي منحته بدورها امتيازا لم يستطع أن يحصل عليه رفاق له. كما يمكنك أيضا أن تدرك بأنه كان من الجنود الذين خدموا القضية التي حارب من أجلها، بقتالية عالية وببسالة وشجاعة لا مثيل لهما.

لكن الأيام بالنسبة لجندي مثلي، كانت قد أجهزت على آخر أحلامه، أحلام راودته منذ حضوره الأول والتحاقه بصفوف جيش الإسبان ، ومنذ أن عزم آنذاك على الانخراط في صفوفه، بعدما خيروه بين الحرية جنديا محاربا، أو قضاء عقوبة سجنية كانت تصل إلى عشر سنوات، أبى أن يقضيها في زنازن معتمة، باردة ورطبة.

حققنا انتصارات كبيرة، وكان النصر حليفنا في كل معركة خضناها ببسالة وشجاعة، بينما خسرنا مقابل ذلك معركة الحياة. رغم أن الفرحة بانتهاء الحرب كانت عظيمة، وبمثابة ولادة جديدة لنا، وظل أمل وحيد يراودنا، هو العودة إلى أرض الوطن.

عاد الجنود، لكنهم كانوا قد وجدوا أنفسهم مغتصبون، يفتقدون إلى لذة الحياة، كما يفتقدون إلى أحد أعضائهم، التي تركوها رمادا في ساحة المعارك، دليلا على تفاهة الزمن الكئيب.

ولم يكسب الواحد من هؤلاء، غير راتب هزيل، ظلت تجود به عليه السلطات الإسبانية، وفاء لخدماته العسكرية. وأضحت أمسيات الربيع ملاذا، يتحدث فيه أي شخص عن نفسه وعن بطولات وهمية، أخذت من حياته الكثير، ولم تمنحه ما تمناه، وما حققت له ما أراده. لقد أضحوا أشخاصا بؤساء، في زمن نمت فيه حضارة تلك الأرض التي حاربوا من أجلها، ولا ذكرى ظلت عالقة بأذهانهم، غير حكايات بائدة ورتيبة، عن خنادق ملغومة وبنادق قاتلة، وقتالات عنيفة، وليال حمراء ظلوا يلوكونها بحلاوة فائضة، في أحضان غانيات بائسات..

………………..

قاص من المغرب

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون