باب الليل”..مقاربة تيار الوعي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد المهدي السقال

بالرغم مما حظيت به رواية " باب الليل " للكاتب المصري "وحيد الطويلة"، من قراءات تحليلية عميقة وقفت عند بنيتها التعبيرية والسردية، فأفاضت في بيان شعرية أسلوبها وإحكام بنائها الفني سرديا، فإنها تبقى منفتحة على إمكانية الإضافة للمنجز النقدي حولها، من خلال مداخل كثيرة يمكن أن تسعف بمقاربة أبعادها التأويلية، خاصة في ضوء الرؤيا الناظمة لحركة أحداثها وتعالق فسيفساء شخوصها في الزمكان، استئناسا بمرجعيتها في الواقع التاريخي الذي استوحى منه الروائي فضاء الحكاية قبل تشكيلها السردي روائيا

في هذا السياق، سيكون موضوع هذه الورقة المتواضعة جدا، ما يمكن استبطانه من خلال المتن الروائي على مستوى الرؤية الموجهة من منظور معين لمسار التطور الحدثي أو المؤطرة لمختلف خطابات الشخوص مع نفسها أو مع الآخر ضمن حوارات أحادية أو ثنائية، مما له علاقة بالتاريخي في حياة الزمكان المستقطع الذي اشتغلت عليه الرواية، بعدما بدت هيمنة التركيز على التعاطي مع لغتها أو بنائها، أو ما تشكله بنياتها المشهدية من اتصال بالخطاب السينيمائي في تصوير تفاصيل الأحداث باللغة عن طريق العين.

تنطلق الرواية من مقهى بتونس أطلقت عليه صاحبته “للادرة” اسم “لمة الأحباب”، باعتبار حركته الداخلية، فيما يعرف بين الناس بمقهى “الأجانب”، لتردد أكثرية زبنائه من غير سكان البلد، والذين يرتادونه بحثا عن دفء الجسد بين أحضان بائعات الهوى، وستركز عين كاميراتها على نماذج إنسانية هاربة من واقعها الاجتماعي في شروطه الاقتصادية المتأزمة، أو واقعها السياسي ” هرباً من رصاصة أو قضبان من حديد في دولته” بالنسبة لجالية القومية العربية، إلا أن التركيز قوي على محنة معاناة ” بقايا الفلسطينيين المرغمين على البقاء بعد رحيل الكثير مع “ياسر عرفات” بعد اتفاقية أسلو … الذين رفضوا تفرقوا في شتات البلاد وراء رزق أو عائلة أو دولة ترحب بهم أو مكان أوسع من رام الله / غزة… بقايا لم يجدوا أسماءهم في كشوف السلطة الفلسطينية في القوائم الاسرائلية كانوا وما زالوا ممنوعين من العودة أياديهم ملطخة بدماء الإسرائيليين وأرواحهم ملعونة أيضا، وعليهم إن تنفسوا أن يفعلوا ذلك في مكان آخر يستحسن أن يكون قبرا سحيقا في جوف الأرض… رحل الجميع وتركوهم كما لو كانوا مصابين بالجرب… أسماء مكتوبة بالأحمر في كشوف الفلسطينيين … رحلوا دون أن يتذكروا مهمة التوديع ولو بأحضان مرتبكة… حشروا هنا، لا علم يستظلون تحته، لا أرض ولا عشيرة، لا ضفة يقفون عليها ليلوحوا لأي قبطان أو شيطان… حشروا وبقوا محشورين من وقتها في أحلامهم البطيئة الكسولة وكوابيسهم السريعة…”.

و بالتوازي مع تصويرها لتحولات الأشخاص في الزمكان، سترصد الرواية ظروف وضعية الهجرة القسرية عن الوطن، على امتداد ما أعقب النكبة و النكسة إلى تداعيات “أوسلو” و أسئلتها المعلقة،بالنسبة لمجموعة من المناضلين الفلسطينيين الذين رفضوا العودة إلى فلسطين بشروط اتفاقية منظمة التحرير مع إسرائيل في مقابل الاعتراف بشرعية تمثيلها الوحيد للشعب الفلسطيني، ليظلوا فى تونس أفراداً يلتمسون الاندماج و الاعتراف بتوطينهم، أو جماعات يعيشون كلاجئين في مخيمات لم تكن دائما خاصة بهم، إذ تواجدوا فيها مع اللاجئين الأفارقة من مختلف الجنسيات كل حسب ظروفه، وما تركه ذلك من آثار انعكست على أزمة الوعي بالذات المنكسرة بين وعيين بالقضية، يمتد أحدهما لجذورها بينما ينحسر الثاني في التعاطي مع تحولات ما بعد أوسلو كأمر واقع، يستأنس بحلم العودة واستعادة الحرية والاستقلال ولو في إطار محدود كما وعدت به الاتفاقيات الدولية نتيجة الاعتراف المتبادل بقيام دولة إسرائيل و شرعية المنظمة التمثيلية للقضية ضمن سيعرف بالسلطة الفلسطينية على الأرض إلى حدود 1967 … لتنتهى أحداث الرواية بقيام ثورة الياسمين التونسية، واختفاء مظاهر الحياة اتي ظل يعج بها المكان، بعدما أفل نجم رواد المقهى من بقايا ضبط الأمن المرتبطين برجال الرئيس المخلوع، خاصة وأن صاحبتها “درة” كانت تستمد قوتها من ارتباطها بضابط منهم.

سأزعم أن صوت “أبو شندي” امتداد لتيار وعي المؤلف بالموضوعة الرئيسة في رواية ” باب الليل”، والمتمثلة في محنة الاغتراب الفلسطيني ومعاناته مع التراجع عن حق العودة، في صفقة سياسية لم تلتزم فيها المنظمة بالحد الأدنى للعمق القومي للقضية، بعد تنازلها عن العناوين الكبرى لأصل وجودها بعد هزيمة 67… ويمكن اختزال الموقف الإجمالي لـ “أبو شندي”، في رفض مشروع المصالحة مع إسرائيل من خلال تداعياته على الإنسان الفسطيني كقضية، بموازاة تبعات المعاناة مع ظروف الاغتراب النفسية والاجتماعية والاقتصادية كلاجئين في مخيمات ببلدان اللجوء.

لا يضير الرواية بصفتها عملا تخييليا، تمثل كاتبها لرؤية بعينها مما عرفه مسار القضية في واقع تاريخي، ما دام يعبر عن موقف شخصي و يراهن على تمرير رسالة أرادها واضحة وصريحة، دون كبير عناء في صياغتها رمزيا بجمالية فنية، تقترب على الأقل من جمالية تصوير حالات و وضعيات الشخوص النفسية، إذ أبدع فيها الكاتب بما ينم عن قدرات فائقة لغويا و تعبيريا.

لكن قد يضير قارئ رواية ” باب الليل”، ما يستشعره من قصدية توجه للكاتب نحو الإيحاء بذلك التطابق بين الواقع التاريخي والعالم الروائي، حين يجد نفسه إزاء خطابين، أحدهما تختزنه ذاكرته التاريخية بتراكماتها الحدثية في الواقع العيني، وثانيها تقدمه الرواية في قالب فني توسل بالسرد التخيلي طريقا للتعبير عن رؤية الكاتب، والمتمثلة في الموقف المتأثر بانفعالات الذات الفردية والجماعية، والذاهب إلى تصويرها كضحية في مقابل ما يصدر عنها من تعبيرات منددة بجلادي الذات والقضية.

هل نحتاج إلى استحضار كل التفاصيل المؤثثة للرؤية والموقف في تمثلات ” أبو شندي”، سواء عبر حواراته الداخلية أو مع غيره من القوى الفاعلة، لتقييم تلك المسافة الفاصلة أو الواصلة بين رواية الواقع و واقع الرواية في ” باب الليل” للروائي ” وحيد الطويلة؟

لم تتقصد هذه الورقة دراسة الرواية في شموليتها الفنية والدلالية، فهذا مما يحتاج إلى قراءة متأنية تتوسل بأكثر من منهج نقدي في السرديات، فكان أفقها محدودا في استيقاف تلك العلاقة الواردة بين خطاب معلن سرديا وآخر مسكوت عنه تاريخيا.

إن الربط يبقى واردا بين الواقعية والتخييل في بنية الرواية باعتبار الإحالة على خارج المتن في واقع يرتبط بمرحلة في حياة إنسان أو جماعة أو أمة أو وطن… مما يؤجل بالضرورة بحث جمالية التشكيل السردي في النص الروائي فنيا وجماليا، إلى حين ضبط ما يتصل بالأحداث الخاصة أو الوقائع العامة وترتيب حقيقتها في ضوء ما يقوله التاريخ على الأقل في حروفه الأولى حول النوازل ذات الصلة بدينامية التطور الحدثي بين تناوب فاعلية الشخوص في الزمكان.

وأزعم أن رواية” باب الليل ” للكاتب المصري ” وحيد الطويلة”، من هذا النوع السردي المتميز باتكائه على واقعية حدث ما، للاشتغال عليها فنيا ضمن رؤية جمالية لا يمكن فصلها عن رؤية ذاتية لواقع موضوعي.

لذلك، ارتأيت أن أفاتح الرواية بما عنَّ لي حول ذلك الاتكاء على واقعية الحدث التاريخي، قبل الانشغال بالتعاطي معها ضمن التحييز الذي توضع فيه باعتبارها أساسا نصا سرديا روائيا، قابلا للقراءة والتحليل باعتماد مقاربات ممكنة تسعف في وضعه نقديا بين ما يوازيه أدبيا وإبداعيا على مستوى المنجز الروائي العربي المعاصر.

كم تمنيت أن أقرأ رواية ” باب الليل” من زاوية اشتغالها على ما يعبر عنه بالتاريخ الفلسفي في مرجعية بناء العالم الروائي، بحيث لا تقف عند تحميل الخطاب بعدا إيديولوجيا ذا طبيعة توجيهية، من خلال انفتاح الفكر على إعادة قراءة التاريخ الواقعي، بمعزل عن اشتراطات الانتماء أو الولاء.

سينبني التمني على معطى مفصلي في الرواية، يتمثل في عمق الحمولة الفكرية للكاتب بموازاة تحقق التمكن اللغوي والسردي، مما يجعل القارئ شريكا في بحث تمظهرات الجمالية الروائية عند الأديب ” وحيد الطويلة”، ضمن سياق استيقافات المتن لكثير من المحطات التاريخية ذات الصلة بالقضية المحورية أو القضايا المرتبطة بها قوميا.

عبرت للكاتب في حوار صوتي قصير جدا، عما حققته روايته “باب الليل” من إضافة نوعية على مستوى الرؤيا والبناء واللغة، ضمن تطور الرواية الحديثة باللغة العربية، وركزت على نجاحها فيما يُتداول تحت عنوان كسر أفق انتظار المتلقي، بعدما يشبه الاطمئنان مع بداية القراءة، إلى ذلك الميل للتصوير الإيروتيكي في المشاهد الحدثية، قبل صدمة التلقي بالوجود بالقوة في عالم ” باب الليل” الروائي، لاستعادة النفس التأملي ببعده الفكري و التاريخي، من أجل متابعة جادة تقارب قيمة العمل السردي من خلال تضميناته الإيحائية، بغض النظر عن الاتفاق او الاختلاف مع الرؤيا أو العبارة.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم