باب الليل.. أشواق التحرر ومــواجد المهـزومين

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. صبرى حافظ 

ما إن فرغتُ من قراءة رواية وحيد الطويلة الجديدة، حتى شعرت بأننى بإزاء عمل أدبى مهمّ، يستحقّ التريث طويلا إزاء عوالمه وكشوفه وتأمُّل استقصاءاتها. عمل استطاع أن يوظِّف ببراعة ما ادّعوه بمحتوى الشكل الروائى بطريقة تجعل بِنْيته الشيقة جزءا من الرؤية التى يطرحها، والعالم الذى يبلوره. فمنذ عتبة الرواية الأولى: العنوان -بما ينطوى عليه من تجاور وتناقض بين الباب والليل، فالباب يُفتح والليل يسدّ الأفق ويغلقه- يفتح الكاتب روايته على عالم الليل وبُهمته بامتياز، ويدخلنا فى سراديب ظلمته الفعلية والاستعارية على السواء. وحتى الكلمات الأخيرة فى الرواية “كل شىء يحدث فى الحمام” التى تردنا إلى البداية من جديد، فهى نفسها الكلمات التى بدأت بها الرواية، ينبهنا النص إلى بنيته الدائرية التى لا فِكاك منها كبهمة الليل الدامسة التى تحيط بكل شىء كالقيد. وهى النهاية/البداية التى تقودنا إلى قراءة الرواية من جديد، لا للتعرف على ما يجرى فيها من أحداث، أو ما تمور به من شخصيات، تتخبط فى شباك مواجدها الليلية، وهى تعاقر أوجاع التحقق الوهمى الذى لا يتيح الأفق المسدود سواه، ولكن للكشف عما تنطوى عليه هذه البنية الدائرية من استعارة شفيفة للواقع العربى المهزوم الذى تتخبط كل شخصياته فى شباك هذا الأفق المسدود فى باب الليل الذى لا يطلع عليه نهار.

فالبنية الدائرية المحكمة التى تحيط بعالم هذه الرواية كالقيد تبدو هى الأخرى كالعنوان تناقضية لأنها تبدأ بالبحث عن المتعة والتحقق وعقد الصفقات فى الحمام، وتنتهى من حيث بدأت وقد أسفر البحث عن خواء وقَبْض ريح. خواء يرتدّ بنا إلى جملة المفتتَح من جديد كى نكتشف أن لا شىء يحدث حقيقة فى الحمام، وأن البحث المخفق عن التحقق ما هو إلا مسيرة كشف الشخصيات وتعريتها حتى النخاع، كى نرى كيف تتخبط جميعها فى شباك هزائمها. فدائرية الحركة السردية فى هذه الرواية لا تعتمد حركة الشخصيات فيها على الدوران على نفس المستوى، أو على نفس المنوال وإن بدت كأنها تفعل ذلك كثيران السواقى المعمَّاة؛ ولا حتى على تكرار الدورة على مستوى آخر فى نوع من الحركة الحلزونية الواعدة بشىء من التغيير، وإنما على الصعود والهبوط الذى تضرب حركته الشخصيات بين آمال التحقق وأوجاع التردى والضياع. وكأن الدوران فيها أقرب إلى حركة التخبط فى شباك محكمة وإن بدت غير مرئية إلى حد يغرى الشخصيات لا بالحلم وحده، وإنما بوهم الحرية رغم وقوعها فى أمراس عبودية طوعية تتضافر فيها العوامل الاجتماعية مع عوالم قَدَرية وميتافيزيقية خانقة.

وتعزز طبيعة تناول الرواية للزمن السردى هذا كله، وتفتحه على آفاق تأويلية خصبة. فالزمن السردى فى هذه الرواية ليس زمنا تعاقبيا بالمعنى الدقيق للكلمة، أى الزمن الكرونومترى الذى يحسب بالساعات والأيام. فقد غابت عنه الذاكرة الزمنية التى تمكننا إشاراتها العابرة من وضع الأحداث فى سياقات تاريخية بعينها. اللهمّ إلا المناخ العام لزمن زين العابدين بن علِى، وزمن ما بعد خروج الفلسطينيين من تونس عقب التوقيع على اتفاق أوسلو المشؤوم. ولكنه زمن يتّشح بغلالة مما يدعوه والتر بنيامين بالزمن السرمدىّ الذى يتسم بقدر كبير من الدَّيْمومة التى تدور فى فلكها الأشياء، وكأنها تجرى فى مجرّتها الكونية الخاصة. فالرواية تدخلنا فى سراديب عالم ليلى بامتياز، يتيح لها الغوص إلى قيعان النفس البشرية العربية فى زمن ما قبل انفجار دمدمات الربيع العربى، دون أن تقع فى شراك التبشير به أو التنبؤ بما ستسفر عنه متغيراته، وتكتب هذا الزمن كتابة فيها خفة تهكمية شفيفة، وسلاسة لغوية تتسم بعمق يمكّنها من أن تحيل المقهى، وهو مكان عارض ودائم معا، إلى استعارة لعرضية الحياة ذاتها، ولعبء استمرار خفتها التى لا تُحتمل فى آن. فعلى الرغم من أن الرواية كُتبت فى سبع مقاهٍ تونسية، ومقهى مصرى، فإن فضاء الرواية يدغم هذه المقاهى المختلفة فى مقهى فنى واحد مقهى لَمّة الأحباب. تتربع عليه للّا درّة التى لا نلج بابها الحقيقى ونكتشف أنها لا تقل هزيمة عن بقية رواد مقهاها إلا فى نهاية النص.

وتقدم لنا الرواية كل شخصياتها وهى تتعثر فى شباك عوالمها الليلية والأفق المسدود بحب ومعرفة حقيقية. فنحن إزاء كتابة صادرة عن خبرة بالشخصيات التى تقدمها والمواقف التى تكتبها، والزمن الذى تجسد لنا وقعه الثقيل على الجميع. تكتب لنا الرواية حفنة من الشخصيات التونسية والفلسطينية تتماثل مصائرها ولكنها لا تتقاطع أو تتشابك، وإنما تتجاور فى هذا الفضاء التونسى/ العربى بامتياز، لأنه يسع الليبى واللبنانى والسورى والمصرى فى مناخ أمنى يُعَهِر الجميع، أو يستلّ الحياة الصحية الصحيحة من أفقهم. شخصيات تحركها أشواقها للتحرر من أَسْر هذا الواقع المثقل بالهزيمة والقهر معًا، ولكنها تصطدم بقسوة هذا الزمن الردىء وتماسك الفساد فيه من ناحية، وبمحدودية إمكانياتها من ناحية أخرى. فعلى الرغم من أن الرواية تبدو كأنها لا تهتم بالسياسة، ولا يشغل شخصياتها جميعا إلا البحث عن المتع الموقوتة، وتوفير المال لأحلام تبدو دائما مؤجلة، فإنها تكشف بحق عن مسؤولية السياسة عن كل ما يجرى لشخصياتها. لا السياسة فى المجتمع التونسى المحدود زمن قبضة نظام بن علِى الحديدية فحسب، وإنما فى المجتمع العربى الأوسع. فنحن بإزاء رواية مشغولة حتى النخاع بالهمّ العربى المقيم: الهم الفلسطينى. فهى فى واقع الأمر واحدة من أهم الروايات المصرية التى انشغلت بالهمّ الفلسطينى، وانشغال مصر العميق به، وانشغلت معه بالهمّ العربى العام فكتبت تنويعاتها التونسية عليه.

رواية تكتب مدينة أخرى غير مدينة كاتبها، بإقناع ومهارة. فنحن بإزاء كاتب مصرى يكتب لنا مدينة تونس، بصورة لم يكتب بها كاتب مصرى مدينة أخرى بهذا العشق ولا بهذا العمق. فقد كتب توفيق الحكيم عن باريس فى عصفور من الشرق وكتب يحيى حقى عن لندن فى  قنديل أم هاشم  وكتب صنع الله إبراهيم عن بيروت فى  بيروت بيروت  ولكن لم يكتب أى منهم عن مدينته بهذا العشق والعمق.

وهى تكتب مدينة تونس بعدما تركها الفلسطينيون بعد أوسلو، وتركوا وراءهم من رفضت دولة الاستيطان الصهيونى التصريح لهم بالعودة مع المنظمة، لأنهم مناضلون حقيقيون تلوثت أيديهم بدم الصهاينة! أما المناضلون المزيَّفون فقد عادوا جميعا ليواصلوا دورهم فى حبف حركة بيع فلسطين، وفى التخلى عن القضية وخيانتها. والخيانة لحن أساسى من ألحان هذه الرواية. تسرى فيها كنغمة القرار فى المعزوفات الموسيقية الكبيرة، منذ افتتاح الرواية، فى  باب الفتح  بخيانة أخت نعيمة لها واختطافها فرصتها منها، وحتى إنهائها بخيانات رجال الأمن للا درّة ولمقهاها، مرورا بالقطع بعشرات الخيانات الصغيرة الأخرى، وبالخيانة الكبرى للقضية الفلسطينية التى ترك أصحابها مَن وهبوا لها العمر بإخلاص وتفانٍ وراءهم يتخبطون فى شباك الفقر والهزيمة. إذ تقيم الرواية توازنا حساسا بين الخيط الفلسطينى والخيط التونسى فيها، وتضفرهما معا عبر جماليات التجاور وانعكاسات بعض الشخصيات على مرايا شخصيات أخرى بمهارة وحنكة، فيتخلق من تضافر الخيطين نسيج العالم المترع بالهزيمة وعبء الأفق المسدود.

البنية الدائرية وسطوة

 الصورة الزائفة

إذا كانت رواية وحيد الطويلة الجميلة باب الليل تنتهى بتكرار نفس الجملة التى بدأت بها: كل شىء يحدث فى الحمام لتنبه القارئ إلى بنيتها الدائرية من ناحية، وإلى الحمام كاستعارة مقلوبة للمقهى، الذى هو بدوره استعارة لعَرَضيّة الحياة والعالم من ناحية أخرى، فإن بدايتها بـ باب البنات  ونهايتها بـ باب للّا درة  ست البنات المهزومات وأشدهن هزيمة، لأنها الهزيمة التى لا تبدو على الإطلاق كأنها هزيمة، وإنما تتبدى لنا وللجميع كأنها العكس تماما، تؤكد هذه الدائرية مرة أخرى لمن فاتته جملة البداية/ النهاية. فدائرية البنية الروائية ليست مجرد حيلة شكلية بأى حال من الأحوال، ولكنها أكثر الأشكال ملاءمة لما تطرحه هذه الرواية من رؤى وما تقدمه من عالم يموج بالهزائم والانكسارات على المستوى الشخصى والعام على السواء. فالبنية الدائرية على العكس من البنية الخَطِّية التى تسجل الحركة والتقدم، بنية تكشف عن أن كل حركة ما هى إلا وهم حركة، لأنها تعود بنا إلى نقطة البداية، وهى هنا نقطة المحاولة  فى الحمام على أمل لقاء أو تحقق. وأن أى وهم بالحركة ليس إلا تعبيرا عن الرغبة الملتاعة فى التملص من قيود الركود والعجز والقهر الذى يُحكِم قبضته على الجميع، ويشلّ حركتهم الحرة فى التقدم أو تحقيق أحلامهم العصيَّة البسيطة فى هذا العالم. عالم مقهى  لمّة الأحباب  باسمه التناقضى، كعنوان الرواية ذاته، حيث ليس ثمة لمة بالمعنى الحقيقى اللهمّ إلا اللمّة العارضة، التى يؤكد تكرارها إلحاح البنية الدائرية وعرضيتها. وليس ثمة أحباب بحق، أو حب من النوع الذى يستغرق الإنسان وينقذه من الهزيمة والانكسار، وإنما عالم ملىء بشخصيات جائعة للحب وللتحقق معا. لا يطل على أفقه الحب إلا لِمامًا.

فالدوران فى المكان والتردد عليه والوقوع فى فلك بنيته الدائرية هو سبيل الرواية للكشف عن حقيقة الأفق المسدود الذى سيطر على الواقع العربى لعقود، لا فى تونس وحدها حيث تدور الرواية، وإنما فى العالم العربى من حولها. لأننا فى هذه الرواية إزاء لَمَّة عربية بحق. سداها تونس، ولكن لحمتها من فلسطين وليبيا ومصر وسوريا ولبنان، وهى كالعالم العربى نفسه، لَمَّة مفتوحة على البحر الأبيض المتوسط، تتوق شخصياتها للهرب إلى عالم أفضل/ وهم أفضل على ضفته الأوروبية الأخرى. والدوران أيضا هو أداة الرواية لتعرية عجز شخصياتها عن التحقق واشتباكها بآليات عالمها الكابوسى الذى لا تفلح حركتها فى التملص منه إلا فى إيقاعها فى قلب شبكته الصارمة. لأن حركة معظم الشخصيات فى هذا المقهى هى من نوع محلك سر، لا تقترب بأىٍّ منها نحو تحقيق حلمها، باستثناء نهاية حلم المغنية حبيبة  التى أبقتها الرواية مفتوحة أو معلقة. لا نعرف إذا ما كانت ستؤدى التذكرة التى حصلت عليها فى نهاية الرواية للتحقق فعلا، أم أنها مجرد سراب خادع، يُحكم قبضة الكابوس على الجميع. وقد عمدت الرواية إلى تجسيد هذا الكابوس بشكل حسِّى يتسم بالعرامة التى يسكن الخواء فى ثؤر روحها، عرامة الوعود بالمباهج الحسية، واستعار الشهوة فى الأبدان، وتلامُس الأجساد واستداراتها المغوية خلف الملابس، والغناء والرقص، وكل ما يبدو أنه وهْم تحقُّق واستمتاع.

لكن أىُّ تأمل فى ما تنطوى عليه هذه البنية من خريطة علاقات التماثل والتضاد بين الشخصيات العديدة التى يعجّ بها هذا المقهى سيكشف لنا عن أننا فى عالم تتحكم فيه الصورة (صورة بن على) وكل مسوخها من رجال الأمن الذين يمارسون السلطة على كل من فيه، رغم غيابهم الفعلى عنه. والذين تستمد منهم صاحبة المقهى  لالّة درة  سلطتها وسيطرتها الشكلية، وتتشكل بهم هزيمتها معا، بخضوعها لشروط هذا العالم الممسوخ وإملاءاته. فنحن هنا بإزاء ما يدعوه جان بودريار (Jean Baudrillard 1929 – 2007) بالسميولاكرا  Simulacra  أى الصورة الزائفة. سيميولاكرا السلطة، وسيميولاكرا البشر معا. والسيميولاكرا حسب تعريف بودريار هى الصورة التى تطمح أن تكون أصلا، أو تزعم أنها تنوب عن أصل لا وجود له فى نهاية الأمر، بالطريقة التى تنوب فيها حقا عن خواء مدقع، دون أن تكفّ أبدا عن الادعاء، بل اليقين بأنها تنوب عن شىء حقيقى. وهى ككل ما هو زائف لا أمل لها أبدا فى أن تكون حقيقية، ويرتبط أملها بالفاعلية والاستمرار فى تحولها إلى نسق ونظام من العلامات الخاوية التى لا تشير إلى واقع حقيقى من أى نوع. فالسيمولاكرا عند بودريار ليست مقصورة على الصورة وحدها، ولكنها تمتد إلى أنساق كاملة من العمليات أو الأنظمة التى تزعم أنها تحاكى عمليات وأنظمة حكم حقيقية، ثم تتحول إلى اليقين بأن ما تفعله ليس تقليدا، ولكنه هو النظام الذى يستحق أن يتبع وأن يبقى وأن يترسخ. بالصورة التى يتسم بها الوضع ما بعد الحداثى كله عنده، حيث ثمة أنظمة حكم تزعم أنها أنظمة حكم وهى فى حقيقة الأمر سميولاكرات خاوية، تحكم بشرا يتحولون هم أيضا إلى سميولاكرات لبشر.

وتنطوى الرواية على لعبتها الخلاقة على المفهوم البودرياردى ما بعد الحداثى عن الشخصية/ النظام السياسى/ المسوخ الزائفة، التى تتخلق فى واقع تحكمه أنظمة زائفة هى فى حقيقة الأمر سميولاكرات لأنظمة. حيث تبدو  لالّة درة  أصلا بالنسبة إلى الكثيرات من بنات الرواية يطمحن فى الوصول إلى شىء منه، بينما هى نفسها -على الرغم من أنها ملكة النحل التى تستحلب كل الذكور، وتمتص رحيق كل الشغالات- ليست أكثر من صورة زائفة، سيمولاكرا لصورة أكثر منها زيفًا، وإن بقيت فى عالمها حقيقة، وفى لا وعى الرواية غائبة هى ليلى بن على/ الحلَّاقة التى وجدت نفسها سيدة القصر والمصر بأكمله. هى قَطعًا سميولاكرا الملكة ففى  باب العسل  نعرف أنها كالأخريات، حيث يقول أبو شندى عنها  هى عاهرة يا أبا شندى فى ثوب ملكة، عاهرة ولو بالحبر السرى (ص 97). هذه هى حقيقتها الكاشفة عن انكسارها الداخلى على الرغم من أنها تبدو كأنها  الملكة ،  الدُّرّة  كما يقول اسمها، ولكنها ملكة على مملكة النحل التى لا يبقى فيها سواها، تمتص رحيق كل البنات/ الشغالات البائسات المسحوقات، وتجهز على كل الذكور المهزومين، ولكنها تكتشف أنها ليست ملكة حينما يقول لها شيخ الأمن  ولكنك نسيت السيدة الأولى  (ص 238) أو بالأحرى السميولاكرا الأولى، فندرك أننا فى عالم ما بعد حداثى بامتياز عالم الصور الزائفة لصور أشد منها زيفا.

وإذا ما واصلنا تأمل هذا المفهوم فى البودرياردى فى الرواية سنجد أننا بإزاء ثنائيات شيقة من الشخصيات التى يحكمها هذا المفهوم، وتنويعات ثرية على موضوع الانكسار والهزيمة. وثنائيات الشخصيات كثيرة: محمد شهريار وباربى/ مجيد وغسان/ نعيمة وألفة/ حلومة ورحمة/ سفيان ومهدى. فكل شخصية، سواء أكانت رجالية أو نسائية يحكمها هذا المفهوم البودرياردى ما بعد الحداثى من الاغتراب عن ذاتها الحقيقية والشوق الذى يبلغ حد الاستحواذ فى أن تكون شيئا عصيًّا آخر غير ذاتها الحقيقية، سواء قبع هذا الشىء فى الماضى، أم ظل خيالا لا أمل فى الهبوط به من فراديس الخيال إلى كوابيس الواقع.

فلسطين والرواية .. أوجاع الهزيمة واستحالة التحقق 

تظل قضية فلسطين هى الوجع العربى الأكبر، وهى التحدى الأكبر الذى يواجهه العربى كلما توهم أن باستطاعته التحقق وهى ضائعة. وقد ظلت هذه القضية شارة على ما يواجهه أى مشروع نهضوى عربى منذ زُرِع هذا الكيان الصهيونى الهجين خنجرًا مسمومًا فى خاصرة العالم العربى، وفى قلب الإنسان العربى. وقد ظلت مصر أكثر البلدان العربية وعيًّا بأهمية هذا الهم الفلسطينى، وكأنه هم مصرى خالص. أو بالأحرى لأنه هم مصرى خالص يلح على العقل المصرى وعلى المشاعر الوطنية المصرية على الدوام، مهما حاول الأعداء تنحيته عنهما. ولا أدل على ذلك من اهتمام الرواية المصرية بفلسطين منذ النكبة ورواية يوسف السباعى الباكرة عنها (طريق العودة) وحتى الآن. وفى السنوات الأخيرة وبعد كتابة بهاء طاهر الجميلة لمجزرة صبرا وشاتيلا فى (الحب فى المنفى) كهم فلسطينى وعربى مقيم، كرست رضوى عاشور روايتها الأخيرة (الطنطورية) بكاملها لها. وكتبت عبرها كيف صمدت فلسطين فى وجه المحو، وطرحت نفسها وبلورت هويتها بقدرة الموقف الأخلاقى الأعلى. وها هو وحيد الطويلة فى روايته الجديدة (باب الليل) يقدم تنويعاته الخصبة على الوجع الفلسطينى من ناحية، وعلى تسلح هذا الوجع بالموقف الأخلاقى الأعلى أيضا من ناحية أخرى. ليكتب عبر الشخصيات الفلسطينية الثرية فى روايته حقيقة الهزيمة التى يعيشها الواقع العربى برمته، ولا يفلت منها حتى أكثر من يتوهمون أنهم أبعد ما يكونون عنها، كما الحال فى المجتمع التونسى الذى تفصله آلاف الكيلومترات عن حدود فسطين المستباحة. وليجعل لحضور هزيمتهم فى بقية شخصيات الرواية التى تتوهم عبر صورها الزائفة عن نفسها أنها بعيدة عنها، تجسيدًا روائيًّا ملموسًا، لتجذر فلسطين فينا، حينما يحولهم إلى مرايا قادرة على الإحساس بأدق تفاصيل الهزائم فى البشر.

لأن الانكسار أو الهزيمة هو نغمة القرار التى تتخلل الرواية كلها، وهى موضوعها الرئيسى فى قراءتى لها. لأنها رواية سياسية بالمعنى الحقيقى والعميق للرواية السياسية، حيث لا تطفو فيها السياسة على السطح، إنما تظل أبدًا ثاوية فى العمق، تتجلى من خلال علاقات الهيمنة المختفية منها والظاهرة. تظل غاطسة فى قاع العمل تتحكم فيه دون أن تبدو أنها تفعل ذلك على الإطلاق وفق مفهوم الهيمنة الجرامشى العميق. إذ يبدو على السطح أن كثيرًا من شخصياتها النسائية التونسية، خاصة للّا درّة وباربى وألفة، أو حتى الرجالية التونسية مثل محمد كازانوفا وسفيان وزوج درّة، شخصيات متحققة تستمتع بما وفرته الحياة فى تونس من حرية، لكن علاقات التجاور والتفاعل بين هذه الشخصيات كلها وبين حفنة الشخصيات الفلسطينية تكشف لنا عن هزيمتها، وعن أنها مجرد صور زائفة لأصول مهزومة أو ممسوخة. ذلك لأن شخصيات النص الفلسطينية هى التى تجسد لنا الهزيمة فى كامل صورتها. حيث تعيش كل منها هزيمتها الخاصة بالصورة التى تكشف لنا بها الرواية كيف تتسلل الهزيمة إلى أدق تفاصيل الحياة الشخصية الخاصة لكل من يستسلم لها أو يقاومها على السواء.

فالهزائم كالانتصارات، لها تأثيرها الشامل والكاسح على الجميع، لأنهما من الأمور العامة التى يشمل تأثيرها الأمة كلها، ولا يستطيع الفرد التملص كلية من تأثيرهما مهما حاول. وإذا كنت قد عشت سنوات طويلة مثلى بين أمم منتصرة، مثل بريطانيا أو أمريكا، فإنك ستدرك أن الانتصار يعم، تمامًا كالهزيمة التى تجرعها جيلى الذى عاش هزيمة 1967، ولم تنطل عليه دعايات العبور أو انتصاراته التى أفضت إلى ما دعاه محمد عفيفى مطر انتصار الهزيمة، التى انتهت برفع علم العدو الصهيونى فى أكبر عاصمة عربية، وبتحرير سيناء المنقوص. بل ستدرك أن إنسان الأمم المنتصرة يختلف عن بشر الأمم المهزومة، وأنه بقدر ما تنعش الانتصارات الروح فإن الهزائم تنهشها وتلوب فيها تدميرًا من الداخل. وقد كتب لنا وحيد الطويلة تآكل الروح وضمورها بطريقة تكشف عن أنه لا أمل فى أن تنتعش الروح العربية، طالما استمر الجرح الفلسطينى فى النزيف. فتونس التى تبدو أبعد ما تكون عن خط المواجهة مع العدو الصهيونى، نالت هى الأخرى نصيبها مما ألحقه هذا العدو البغيض بالأمة العربية من هزائم. حيث تتجلى الهزيمة فى كثير من شخصياتها الحاضرة والغائبة على السواء.. ومن تلك الشخصيات الغائبة زوجة أبى شندى التونسية التى خلعته، والتى لا تقل هزيمة عن نعيمة التى آثرته. ناهيك عن أسرة أبى جعفر المهزوم التى أضاعها عند هربه عقب احتلال العراق، ولا يدرى أين أهله، وما إذا كان يكلم أشباحًا أم جثثًا .(ص 213).

والواقع أننى لم أقرأ من قبل فى أى من الأعمال العربية الكثيرة التى جسدت وقع هزيمة فلسطين وما يجرى فيها على الروح العربية بهذا القدر من النصاعة والعمق الذى تجسده لنا شخصيات (باب الليل) الفلسطينية، حيث نرى فيها كيف تتآكل الروح وتضمر، بل ويذوى معها الجسد نفسه كما ذوى جسد أبى جعفر المهزوم وظل  يبحث عن خياط يضيق له بذلاته(136). ففى الرواية شخصيتان فلسطينيتان مهمتان، تجسدان لنا مدى وقع الهزيمة الفلسطينية المسماة باتفاق أوسلو على المناضلين الحقيقيين. لأنها اختارت أولهما أبو شندى ممن بقوا بعد رحيل الفلسطينيين من تونس إلى رام الله وغزة، فقد رفضت دولة الاستيطان الصهيونى التصريح له، لأن على يديه دم النضال الحقيقى ضد العدو، بدخول أرض فلسطين مع العائدين لها بعد أوسلو. وقد كان لأبى شندى باع طويل فى النضال لعشرين عامًا تحت راية الثورة الفلسطينية، حقق فى ساحته انتصارات تألق معها الجسد وانتشت الروح. لكن الضربة المصمية جاءته من القيادة الفلسطينية نفسها بعد أن فتحت خطًا مع الأمريكان، وتوهمت أنها وصلت خط النهاية. (ص 44)، أما الشخصية الثانية التى تقدمها الرواية، لدلالة عنوان الفصل فى باب الوجع الذى يتحول فيه وجع الهزيمة إلى وجع شخصى وقومى معًا، فهى أبو جعفر المنصور، الذى كان حامى حمى الثورة الفلسطينية فى العراق، حتى ضاع العراق الذى كان يلعب فيه دور البطل الثانى والحارس الأول للكفاح الفلسطينى. لذلك لا يصدق ما جرى على الرغم من أنه يدرك مع احتلال العراق أن أمريكا احتلتنى وحدى، حبستنى وحدى ص 123، وأنه أصبح بالفعل أبا جعفر المهزوم، وأن الأمة انتهت بموت صدام… ولم يعد هناك سوى تنظيم حبف.. أى حركة بيع فلسطين ص131، فلم يبق وأن وقد مات من الداخل تمامًا (ص 209)، وتحول إلى مثال حى على ما جرى لهم جميعًا، تمثال من لحم. (ص 212) وعلى الرغم من أهمية هاتين الشخصيتين الفلسطينيتين، وكما تربط الرواية هزيمة أبى شندى، بفتح الخط مع الأمريكان، وأبى جعفر المهزوم باحتلال الأمريكان للعراق، ربطها بين المشروع الصهيونى والأمريكى فى المنطقة، فإنها تمد نطاق الهزيمة واستحالة التحقق، ليس فقط إلى من شارك فى الثورة الفلسطينية التى كانت ثورة عربية شاملة شارك فيها المصرى فاروق جعفر أو فاروق أنجرام والسورى شادى  إلى العرب حيث تجرع كل منهما هزيمتها بطريقته. لكنها تجعلهم جميعًا مرايا تكشف لنا مدى تغلغل الهزيمة فى أدق تفاصيل الحياة الشخصية للمهزومين، ومدى استحالة أى تحقق فى وجودها، سواء أكانت هزيمتهم مباشرة كهزيمة الفلسطينيين بعد أوسلو، أو غير مباشرة تتجلى فى التردد بين باقات الأحلام ومغارات الكوابيس كما هو الحال مع بقية شخصيات الرواية والتونسية خاصة.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم