النيل يجري شعر| (الحلقة السابعة): محمود حسن إسماعيل ومسافر زاده الخيال

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 33
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. مصطفى الضبع

من بين مئات القصائد التي أبدعها شعراء العربية للنيل (يتجاوز ما جمعته حتى الآن 350 قصيدة ) وعشرات الدواوين التي تصدر النيل عناوينها (لدي منها  13 ديوانا )، ومئات القصائد التي ورد النيل في سياق ماتصوره من مظاهر الحياة المختلفة يقف محمود حسن إسماعيل وقفته المميزة والمتفردة بعدد من القصائد التي قاربت النيل تماما كما تقف قصيدته “النيل  ” المعروفة عند جمهور العربية بــ” النهر الخالد” أو “مسافر زاده الخيال” تقف  متفردة بين قصائد النيل، ونموذجا خاصا معبرا بين القصائد المشكلة لمادة ديوان النيل في الشعر العربي.

يعتمد الشاعر مفردتين تشيران إلى النيل وتمثلان عمادا أساسيا للعلامات اللغوية الأكثر دلالة عليه: النيل – النهر، تتكرر الأولى 195 منها ما تصدر القصائد بوصفها عناوين للقصائد:عروس النيل  من ” أغاني الكوخ” – دجلة والنيل من ” الملك ” – النيل من ديوانه الرابع ” أين المفر ” – النيل نعسان من (قاب قوسين ) – أغنية للنيل من “صلاة ورفض “-، فيما تنفرد الثاني (النهر ) بكونها تتصدر الديوان الثاني عشر (نهر الحقيقة )، ولا يعني هذا توقف المفردة عند هذا الديوان وإنما تسهم  المفردة في تشكيل عنوان عدد من القصائد: نهر النسيان، من ديوان ” أين المفر ” – معجزة على النهر- فاتنتي مع النهر من ديوان ” قاب قوسين “- قاهر النهر من ديوان (نهر الحقيقة ) وهي مفردات تمثل علامات شعرية يعتمدها الشاعر وسيلة تعبيرية لها وظيفتها / وظائفها الجمالية القادرة على إنتاج دلالاتها الخاصة، تلك التي يمكن من خلالها مقاربة علامتين أساسيتين تطرحان رؤية الشاعر:

  • الأولى: النيل بوصفه العلامة الأولى الأكثر ظهورا وشهرة وتمثل الصلة الواضحة للعلاقة بين الشاعر ومتلقيه اعتمادا على معرفة الشاعر بالنيل حقيقة لا مجازا والنيل شعريا ينطلق من منطقة الحقيقة المعروفة إلى المجاز غير الواضح للوهلة الأولى ، فالنيل حقيقة ينطلق منها الشاعر منتجا مجازيتها، والنيل هنا علامة تتحرك من الحقيقة لتؤسس للمجاز، النيل هنا يساوي النيل الذي نعرفه وزيادة.

يفرض النيل نفسه أسلوبيا ودلاليا على تجربة الشاعر وتتعدد مساحات صوره وأشكال حضوره، وفي واحدة من أقوى أشكال حضور النيل تأتي قصيدة ” النيل ” ذات الاستهلال الأقوى:

مسافر زاده الخيال            والسحر والعطر والظلال
ظمآن والكأس في يديه      والحب والفن والجمال
شابت على أرضه الليالي      وضيعت عمرها الجبال
ولم يزل ينشد الديارا      ويسأل الليل والنهارا
والناس في حبه سكارى      هاموا على شطه الرحيب
آهٍ علي سرك الرهيب      وموجك التائه الغريب
يا نيل يا ساحر الغيوب

يجمع الشاعر مجموعة من العلامات الشعرية القادرة على تشكيل الصورة عبر أبعادها المختلفة: النيل – الزمن – المكان – الإنسان – فعل النيل وأثره في الناس، وجميعها مطروحة عبر نظام سردي يتوالى وفق منطق الصورة الشعرية ، حيث المسافر غير المدرك إلا بالربط بين اسم الفاعل (مسافر ) وفاعله (النيل ) وصيغة المبالغة (ظمآن ) وفاعلها (النيل ) في صورة جزئية ممتدة تتشكل من مبتدأ غائب نحويا حاضر ذهنيا، وخبرين يحركان الذهن مبدئيا للربط بين عنصري الجملة ( المبتدأ والخبر ) ويتدرجان من المجرد إلى المحسوس: السحر – العطر –الظلال – الحب – الفن – الجمال صعودا من حالة السحر إلى حالة الجمال المؤهلة لبيان اثره على الزمن عبر صورة مبتكرة تؤكد أثره الأقوى (شابت الليالي – ضيعت عمرها الجبال ) ذلك الأثر المستمر (لم يزل ) المتواصل على الكون قبل بيان أثره على الإنسان الذي يمثل تاريخيا العنصر الأحدث الذي يأتي لاحقا لأثر النيل في الكون، والشاعر في طرحه مجموعة العناصر يعمد إلى تغييرها في مواجهة النيل الذي لم تتغير شخصيته فهو في جلاله لا يتغير عبر ضمير الغائب المتكرر ظاهرا ومستترا في المقطع الأول من القصيدة والشاعر يتدرج به من الحضور إلى الغياب حتى يصل إلى حد الاستحضار والخطاب في البيت الأخير (آه على سرك الرهيب وموجك التائه الغريب ) والخطاب يتبعه النداء في الشطر المتكرر بين مقاطع القصيدة (يانيل يا ساحر الغيوب) كاشفا عن مستوى من السحر غير المرئي ومنبها المتلقي: لا تتوقف عند مجرد الصورة في سطحها، ويكون النداء بداية لتضرع الشاعر للنيل مسبوقا بالنداء:

يا واهب الخلد للزمان      يا ساقي الحب والأغاني
هات اسقني ودعني      أهيم كالطير في الجنان
يا ليتني موجة فأحكي      إلى لياليك ما شجاني
وأغتدي للرياح جارا      واسكب النور للحيارى
فإن كواني الهوى وطارا      كانت رياح الدجى نصيبي
آهٍ على سرك الرهيب      وموجك التائه الغريب
يا نيل يا ساحر الغيوب

بطريقة غير مباشرة يقيم الشاعر تفاصيل الصورة في علاقة الشاعر بهذه المفردات: الحب- الأغاني – الطير-الجنان – الرياح – النور – الهوى – الموج، وجميعها مطروحة على وعي الصورة الشعرية، والشاعر يقدم ثلاث نقلات تمثل كل منها فعل أحد المحاورين فالنيل أولا ثم الشاعر ثانيا ثم الكون كله ثالثا وهو ما يتكشف عبر الأفعال المسندة لهذه الشخصيات على التوالي: الأفعال الأولى مسندة إلى النيل، والثانية مسندة إلى الشاعر والثالثة مسندة إلى قوى أخرى (الريح – الطير – الأغصن – الزورق ) تلك التي تشكل مدار بهجة الكون بفعل النيل وهي بهجة تتجاوز مجرد رسم صورة سطحية للنيل إلى صورته الكونية الأعمق، وهو ما نراه في  المقطع الأكثر غنائية في القصيدة حيث يكون المتلقي مؤهلا للدخول في حالة من الانسجام والتوحد مع النيل عبر خطاب الشاعر:

سمعت في شطك الجميل   ما قالت الريح للنخيل
يسبح الطير أم يغني      ويشرح الحب للخميل
وأغصنٌ تلك أم صبايا      شربن من خمرة الأصيل
وزورق بالحنين سارا      أم هذه فرحة العذارى
تجري وتجري هواك نارا     حملتُ من سحرها نصيبي
آهٍ علي سرك الرهيب      وموجك التائه الغريب
يا نيل يا ساحر الغيوب

وفي تجل مختلف يكون النيل  مبتدأ الصورة ونواة بنائها، فالعناصر التي تطرحها القصيدة يسهم النيل في تشكيلها بما يعني أن الشاعر يبدأ صورته التصاعدية من الأصغر للأكبر، ففي قصيدة ” عند زهرة الفول ” من ديوان الشاعر الأول ” أغاني الكوخ “، يرسم الشاعر صورة للطبيعة متدرجا من تفاصيلها الدقيقة حتى يقول :

وعلى النيل للسفائن همس       كطيوف الأحلام تهفو بمرقد

سبحت في عبابه الشمس تبغي  الطهر  في مائه النمير وتنشد

جنة تلهم الخيال وتوحي   عبقري الفنون من كل مشهد

شغل القوم عن هواها وكانت    للألي شيدوا الحضارة معبد

حيث جعل من النيل مسرحا للأحداث الكاشفة عن فعل النيل نفسه بادئا من زهرة الفول وصولا إلى العنصر الأكبر الجامع للصورة الكبرى صورة النيل المشكلة من مجموعة من الصور طارحة معانيها عبر عدد من العلامات الشعرية: الماء النمير – الجنة – عبقري الفنون – الحضارة.

  • الثانية: النهر بوصفه علامة مجازية تسير في حركة معاكسة لا متضادة مع النيل، حيث العلامة تنتقل أو تتحرك من المجاز لتؤسس للحقيقة خلافا لحركة العلامة السابقة (النيل )، النهر هنا يصعد بالتأويل مساويا النيل (فلا يبتعد التأويل عن النيل، وكل حضور للنهر هو حضور للنيل ) ومتجاوزه إلى ما هو أبعد من النيل بوصفه حضورا متعينا، النهر هنا هو الوجه أو الحضور الفلسفي للنيل .

في ديوان نهر الحقيقة يتصدر الديوان عنوان القصيدة الأولى التي تمثل عصب الديوان وتطرح رؤيتها على بقية القصائد التي جاءت ذات طابع فلسفي يستمد قوامه من الدلالة الفلسفية التي ارتفعت إليها القصيدة أولا والديوان ثانيا.

في قصيدته ” النهر ” لا يذكر الشاعر مفردة النيل وإنما يرسم صورة أقرب للصوفية في كشفها عن جانب روحي تغيب معه تلك الجوانب المادية وتتبلور رؤى شديدة الخصوصية:

مع النهر

سكونه حياة

ونطقه حياه

والموج فوق صدره صلاه  

لقد جعل الشاعر من النيل صورة واقعية تحيل إلى صورة متخيلة، والنهر صورة ذهنية مجردة تحيل إلى واقع يسهم في تشكيل الصورة الواقعية ويفعل ثراءها وعمق أبعادها فالنيل لم يعد مجرد صورة بصرية تقع عليها العين وتستمتع  بجمالها وقتا ما وغنما هو شخصية تاريخية واجتماعية وإنسانية تسهم بشكل فاعل في تشكيل الشخصية المصرية على مر التاريخ.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)