النيل يجرى شعرا (الحلقة السادسة) النيل فى وجدان أمجد سعيد

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 24
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. مصطفى الضبع

خلافا للمتوقع من أن النيل رؤية مصرية سودانية يراها البعض حكرا على أبناء حوض النيل العربى (مصر والسودان) خلافا لهذا كان لعدد من شعراء العربية حضورهم فى ساحة النيل الشعرية، كما أن فترة المد الناصرى ومساحة بروز المد القومى العربى كانت الفترة الأكثر تدفقا للقصيدة العربية تعبيرا وتصويرا للنيل.

الشاعر أمجد محمد سعيد شاعر عراقى ولد فى الموصل العراقية ( 1947)، تخرج فى جامعة بغداد وتقلد عددا من المناصب الدبلوماسية فى الأردن ومصر والسودان، له تجربته الخاصة فى الحياة بين قطبى وادى النيل ( السودان ومصر) تكشفت عبر ديوانه ” سورة النيل ” الذى جاء ضمن مشروعه الشعرى الذى يتشكل من قرابة عشرين ديوانا شعريا ومسرحيا، منها :

  • نافذة للبرق – وزارة الثقافة والاعلام – بغداد
  • أرافق زهرة الاعماق – وزارة الثقافة والاعلام –  بغداد 1979.
  • البلاد الاولى – وزارة الثقافة والاعلام – بغداد
  • الحصن الشرقي – وزارة الثقافة والاعلام – بغداد 1987.
  • جوار السور فوق العشب – وزارة الثقافة والاعلام- بغداد 1988.
  • قصائد حب – بيت الموصل للنشر والتوزيع – الموصل 1988.
  • أربعون نهارا – دار جامعة الخرطوم – الخرطوم
  • سورة النيل – اتحاد الكتاب العرب – دمشق 1999.
  • قمر من الحناء دار الشؤون الثقافية العامة, بغداد ,2000.
  • فضاءات وأمكنة- دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد 2001.
  • ما بين المرمر والدمع – دار الخرطوم للطباعة والنشر – الخرطوم 1995.
  • مرايا العزلة – اتحاد الكتاب العرب , دمشق , 2003.
  • نشيد الأزمنة – نفرو للطباعة والنشر , القاهرة , 2007.
  • عزف سوداني باوتارعراقية,قصيدة ملحمية-الدار للطباعة والنشر- القاهرة2007.
  • قهوة أدونيس , قصيدة طويلة , قراءة للنقد والترجمة , القاهرة , 2007.

وهى تجربة شعرية جديرة بالدراسة وتكشف أول ما تكشف عن غياب منظومة النقد العربى عن استكشاف مساحات جديدة من الإبداع تتجاوز مساحة النخبة المتداولة.

ديوانه ” سورة النيل ” يضم ست عشرة قصيدة : لوحة سودانية – سلام ملتقى النيلين – قصيدة كفافى – أعالى النيل – سورة النيل – أحمد قبانى أمدرمان تسلم عليك – بورسعيد – الشاعر – مديح أول – مناجاة شخصية للنيل – مناجاة عربية للنيل – من حكايات ود ضيف الله – ظل أخضر – امرأة نوبية – نمر صخرى فى متحف الخرطوم – كينونة “

للوهلة الأولى يبدو اعتماد الشاعر النيل بوصفه عنصرا أساسيا فى تشكيل العتبات النصية ( عناوين القصائد ) وهو ما أفضى إلى تشكل عنوان الديوان من مفردتين : سورة – النيل، جامعا بين مفردة لها وقعها الدينى على المتلقى (سورة )، ومفردة لها وقعها التاريخى والاجتماعى والنفسى، وهو ما يجعل من النصوص صيغة لها أثرها فى نفس متلقيها بما تملك من دلالة روحية خاصة، وجاعلا من السورة هنا مختصا بالنيل، وهو ما يفتح النصوص على أفق أوسع من التلقى بما ضمنها الشاعر من صور تجمع البشر والأحداث والأشياء منتجا صورة متطورة مما أبدعه شوقى عن النيل عندما جمع بين النيل والأحداث التاريخية معليا من شأن الأحداث الكبرى وجاعلا منها نوعا من الخلفية التاريخية لتعظيم النيل، فى مقابل الصورة التى أبدعها أمجد سعيد مقاربا البشر والأمكنة فى علاقتها بالنيل وفى قدرة النيل على صنع إنسانه هو لا إنسان التاريخ وأحداثه.

يقيم الشاعر أمجد سعيد صورة النيل عبر مجموعة من العلامات النصية المشكلة للصورة، وهى علامات تقدم قراءتين أساسيتين للنيل يمثلان نموذجا لقراءة لا تغلق الأفق على نفسها بقدر ما تقدم مقترحات لقراءات جديدة تكون قادرة على اكتشاف مساحات الثراء فى نصوص الديوان، وهى قراءات قد تتقاطع ولكنها تتضام لتؤكد بعضها البعض، ويمكننا هنا اقتراح قراءتين وفق العناصر التى تقوم عليها كل منهما:

  • القراءة الأولى : قراءة كلية تقف عند علامات تبدو خارج النص بدرجة ما ولكنها تسهم بقدر كاف فى تشكيل رؤية المتلقى للنص، وهى قراءة تعيد ترتيب النصوص وتقسيمها وفق هذه العلامات النصية التى لا يمكن استبعادها فى مجال مكاشفة قصدية الشاعر وتتمثل فى تلك العلامات الزمنية التى يذيل بها الشاعر نصوصه لتحدد للوهلة الأولى تاريخ كتابة القصيدة ومكان كتابتها، ولكن تتبعها يضعنا إزاء لوحة سردية الطابع تجعل من مقاربة الشاعر للنيل تجربة لها دلالتها، ولها قدرتها على تقديم خلفية للتجربة ليست بمعزل عن التجربة ذاتها وليس بإمكاننا فهم التجربة منفصلة عن هذه الخلفية، وهى علامات موزعة على ثلاثة أماكن أساسية حسب تكرارها : السودان ( الخرطوم خاصة عشر مرات ) – العراق ( الموصل خاصة أربع مرات ) – مصر ( القاهرة مرتان – الإسكندرية مرة واحدة تشترك فيها مع الخرطوم )، والعلامات تشكل نوعين أساسيين :
  • مكان الحنين: حيث الموصل بمثابة حركات السيمفونية الأربعة الضابطة لإيقاع الحنين المستثار فى وجدان الشاعر فالموصل تظهر أربع مرات تتخلل القصائد مقترنة بقصائد محددة لأماكنها بين القصائد دلالتها الخاصة:
  • القصيدة الثانية ” سلام ملتقى النيلين ” 1997:
  • القصيدة السادسة ” أحمد قبانى.. أمدرمان تسلم عليك” 1997.
  • القصيدة الثالثة عشرة :” ظل أخضر” 1998
  • القصيدة السادسة عشرة والأخيرة ” كينونة ” 1998.

والقصائد يجمعها تاريخان يحددان مساحة خروج عن المكان ( النيل ) ودخول فى التجربة، فالموصل بوصفها مدينة نهرية (تتماس مع نهر دجلة وسميت قديما الحدباء لتحدب النهر عندها ) تشبه بدرجة ما أو تثير فى نفس الشاعر حنينه للنيل، ومن هنا كانت مساحات مقاربة الموصل ليست منعزلة عن مساحات مقاربة النيل، وإن جاءت الموصل مقصودة لغيرها، فإنها تكشف بقدر أكبر عن علاقة الشاعر بالنيل بوصفه نبعا متجددا للشعر يهزه الحنين إليه ويشعر بالحزن بعيدا عنه ومن ثم يأتى مطلع القصيدة متصدرا  بعلامة نثرية تحدد هدفها  “إلى الأحبة والأصدقاء فى السودان” :

رويداً أيُها الزمنُ العجولُ

رويداً أيها التيارُ يغريك الرحيلُ

رويداً أيها النيلُ

الذي من أوّل الرؤيا

إلى الأمواجِ

حتى مجمع البحرينِ

يأخذني الذهولُ ( [1] )

والقصيدة الثانية ينتظمها الشوق نفسه ويجمع فيها بين دجلة الذى يقف عليه والنيل الذى يقف منه موقف المشوق :

“ما بين دجلة والنيلِ

صوتك لما يزلْ

خيمة من غيوم المحبةِ” ( [2] )

وتحمل القصيدة الثالثة علامات تربطها بسابقتها تتصدرها علامة مكانية ” ابروف ” ([3] ) إضافة إلى علامات أخرى رابطة تتمثل فى مجموعة الأشخاص السودانيين الذين تصورهم القصائد ويخاطبهم الشاعرا استحضارا على البعد، حتى نصل إلى القصيدة الرابعة التى يختتم الشاعر بها ديوانه مميزا لها بعلامات رقمية تجعل منها ثلاثة مقاطع تنفرد بها القصيدة من بين قصائد الديوان جميعها فتكون المقاطع الثلاثية بمثابة درجات النزول إلى ساحة الشوق يستهلها بمقطع يبدو مبهما يستدرج فيه الشاعر متلقيه برفق :

“قَمَرٌ أخضرُ

في حرف القافْ.

قَمَرٌ أزرقُ

في حرفِ النونْ” ( [4] )

وفى المقطع الثانى يستكمل الشاعر رصد العلامات اللونية نفسها مطروحة عبر عناصر لونية رابطة بين المقطعين، وهى روابط تتكشف من خلالها رؤية الشاعر تدريجيا عبر تضاح مجموعة من حزم العلامات :  اللونية ( الأخضر- الأزرق – السمراء وهى علامات لونية مميزة للنيل ونتاجه ) – المكانية ( أم درمان – الخرطوم – كسلا – باريس – السودان – برى – النيل الأزرق – بغداد)  – البشرية (أحمد عبد العال ) موزعا روح النيل عبر مساحات كونية الطابع تتناسب والمعنى المطروح منذ العنوان ” كينونة “.

  • مكان التصوير : وهى مجموعة الأمكنة التى يضبط الشاعر فيها مشاعره لتصوير مجموعة الصور والمشاهد المشكلة لمجموع الصورة النصية وهى موزعة بين مصر والسودان، ولأن الخرطوم (السودانية) ذات حضور أكبر فإنها تمثل قاعدة إنطلاق المشاعر ذات الصبغة النيلية، يستهلها الشاعر بقصيدة “لوحة سودانية ” التى يحدد مطلعها عناصر اشتغال الشاعر على فضائه المختار:

” كُحلٌ قبطي يحتل اللوحةَ

قافلة من عسل نيالا

تبدو في الأفقِ

وعصفور أفريقي

ينسى الوقتَ

ويغفو فوق شراعٍ نيليٍّ

يطفو فوق الأمواجْ

وخناجر من عاجْ( [5] )

والمقطع يشى بالنظام الذى يعتمده الشاعر، نظام المبتدأ الموصوف (كحل قبطى ) الذى يجعل منه مستهلا للقصيدة يتطابق فيها المبتدأ النحوى مع المبتدأ النصى وخبر المبتدأ جملة فعلية تمنح المبتدأ بعض صفاته عبر فعله، يتجاوز المبتدأ الأول دوره النحوى والاستهلالى ليكون علامة نصية كبرى تحتل الديوان فالكحل يشكل خلفية تزينية للوحة واللوحة فى الواقع هى مساحة معطيات الديوان بقصائده المختلفة، لوحة تجمع بين ( الأرض والإنسان والعقيدة والتاريخ ) فى ضفيرة من موج النيل، تتيح للمتلقى رؤية لحظة تجمع تفاصيل المشهد  لتكون بمثابة نقطة التقاء ما تجمعه اللوحة من عناصر التضفير فى تشكيلها طبوغرافية المكان.

  • القراءة الثانية قراءة رادارية : قراءة تعمد إلى رصد العناصر الأكثر بروزا، يقوم فيها القارئ بدور الرادار الراصد للعلامات ذات التأثير الواضح فى تشكيل الصورة وهى علامات انتقائية يجمعها القارئ ليشكل منها نظاما نصيا يجعل من القراءة فى حد ذاتها عملا يشبه الحفر فى التربة لاكتشاف طبقاتها الأكثر خصوبة، وفيها يمكن للقارئ رصد حركة النيل بوصفه علامة لغوية أولا ومساحات تشكل هذه العلامة بالقدر الذى يسمح له أن يكون منتجا على مستوى النصوص جميعها .

يمثل النيل بوصفه علامة لغوية المفردة الأكثر تصدرا وتكرارا، عبر صيغتين أساسيتين : التعريف والتنكير، تتكرر معرفة بصورتها المتداولة والمعروفة تاريخيا ومعرفيا خمسا وعشرين، فيما تتكرر المفردة فى صيغة التنكير ”  فى نصوص الديوان ثلاث عشرة مرة،  وهى معدلات تجعل من تكرارها علامة لغوية لها حضورها الدلالى الذى تنبنى عليه دلالات نصية تمثل بدورها شبكة للعلاقات الدلالية على مدار النص وهو ما يؤكد قدرة النصوص على إنتاج صيغة خاصة بالنيل لا تتوقف عند طرح الصورة المتداولة للنيل على المستوى الواقعى حيث تتشكل صورة النيل وفق معرفة خارج النص، تلك المعرفة التى تقوم على الجمع بين ثقافات النيل وما يطرحه على إنسان النيل فى مصر أو السودان وإنما هى صورة تتجاوز ذلك الطرح الخارجى عن النص لتشكل صورة تقوم على أبعاد مجازية بالأساس ولكنه المجاز المنتج لصيغ تتوالد من النص دون مفارقته معتمدة على ثراء دلالى أكبر بكثير من الصورة الواقعية، وحيث ثراء الواقع موزع بين آفاق سطحية من البشر إذ لا يمكنك أن تقتنص هذا الثراء فى منطقة ما على مستوى حوض النيل ولكن يمكنك أن تقتنصه فى قصيدة قادرة على تشكيل هذا الثراء واكتناز مضامين قادرة على أن تشى بثراء النيل على مستوى مجموعة العلامات المشكلة لصورته.

……………….

هوامش

[1] – أمجد سعيد : سورة النيل – اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1999، ص 5 ( اعتمدنا على النسخة الالكترونية من الديوان والتى قد لا يطابق ترقيم الصفحات النسخة الورقية لذا لزم التنويه ).

[2] – سورة النيل ص 42.

[3] – حى من أحياء الخرطوم.

[4] – سورة النيل ص 70.

[5] – سورة النيل ص 7.  

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)