النيل يجرى شعرا (الحلقة الخامسة): لا نيل إلا نيل حسن طلب

على قنديل.. الشهاب الذى خطف الأبصار.. وانخطف!
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. مصطفى الضبع

الشاعر في نظرته للأشياء والكون شاعران: شاعر يكتب عن وشاعر يكتب بـ، الأول يكتب عن الأشياء طارحا وصفا تفصيليا يقارب كونها مرئية من مرئيات الواقع، والثاني يجعل من الأشياء مادته التي يجعل اللغة ناطقة بها، فهي لديه تقنية يعتمدها في التعبير وليست موضوعا تسجيليا يقاربه الشاعر صفاته وموثقا
أحداثه.

للشاعر المصري المعروف حسن طلب رؤيته الخاصة للنيل، وحضوره المتميز الذى يعد تشكيلا مغايرا يتجاوز فيه الشاعر كل من سبقه في مقاربة النيل بصورة أقرب للوثائقية منها إلى اعتماد النيل شخصية يصور بها الشاعر لا يصورها بحيث تبقى مادة أساسية في التشكيل.

للنيل عند حسن طلب حضوره المتميز على مستويين :

  • مستوى تجربة الشعر المصري الحديث.
  • على مستوى تجربة الشاعر عبر تفاصيلها ، ومخرجاتها، لك أن تعود إلى دواوين الشاعر الخمسة قبل ديوانه ” لا نيل إلا النيل ” لتكتشف أن الديوان السادس – وفور مطالعة عنوانه – يمثل اتجاها جديدا ومغايرا لما سبق من أعمال الشاعر ( [1] ) ففي الدواوين السابقة كان واقع الشاعر ومجال رؤيته الحيوية مدار التجربة، ويمكن تسميته بواقع القصيدة ونعنى به هنا ذلك المجال الذى تدور التجربة في فلكه أو ذلك العالم الذى يتشكل خطابه وفق تفاصيله التي قد لا تكشف عن ملامح لواقع يقارب ما هو خارج من القصيدة خلافا لما يطرحه ديوان ” لا نيل إلا النيل ” حيث تأتى العلامة الواقعية (النيل ) تلك المتجذرة في ثقافة المتلقي والتي تمثل جانبا أو نطاقا واسعا لثقافته، تأتى هذه العلامة لتمثل نوعا من نزول الشاعر أو خروجه من واقعه إلى واقع المتلقي ويمكنك عقد مقارنة سريعة بين البنفسج أو الجيم بوصفهما علامتين شعريتين تتعدد فيهما مرجعية العلامة وتأويلاتها في مقابل النيل بوصفه علامة لها مرجعيتها التي يلتقى عندها الشاعر ومتلقيه وإن بدا تباعد الصورة النصية عن الصورة الواقعية، والمتلقي قد تشطح به الصورة النصية بعيدا ولكن يظل النيل الذى يعرفه هناك في خلفية الوعى وفى أدق تفاصيل عملية التلقي للصورة الشعرية، فالشاعر لا يخلق صورة موازية للنيل وإنما يلعب على النيل الذى تعرفه أنت وأعرفه أنا، لك أن تراه يؤول ما نعرفه أو يفلسفه، ولك أن تراه يرسم صورة أعمق مما نراه، أو يقيم حوارا من نوع خاص عبر خطاب متفرد لمكاشفة وجه من وجوه الواقع.

لقد كان لحضور النيل تشكيل الحد الفاصل بين نوعين من الخطاب : نوع سابق يضم تجربة الشاعر في الدواوين السابقة التي اعتمد فيها الشاعر على واقع ميتافيزيقي خاص يقف فيه أمام البنفسج الذى نعتقد أننا نعرفه فيكشف مالا نعرفه، ولكن الوقوف عند النيل هو وقوف على واقع فيزيقي، وقوف على ما نعرفه ليكشف ما يجب أن نعرفه، وكأن الشاعر يقول من عرف النيل ووقف عليه يصعب أن يعود لواقع لا يمثل النيل عماده الأساسي، فقد كان لتجربة الوقوف أثرها الواضح في تشكيل ملامح جديدة لتجربة الشاعر فيما تلاها من أعمال يكفى التدليل عليها بالإشارة إلى قصيدته الفريدة والجريئة المعروفة باسم ” مبروك مبارك ” التي كانت خطابا شعريا شديد اللهجة لرأس النظام وقتها (2005) قبيل انتخابات الرئاسة المزعومة آنذاك وكانت بمثابة إعلان العصيان الشعرى على النظام.

تجربة النيل أو حضور النيل عند حسن طلب يعتمد على جناحين، أحدهما ديوانه ” لا نيل إلا النيل “، وثانيهما قصيدته ” أسماء النيل المنزلة “( [2])، حيث يفرض النيل حضوره منذ العنوان مشكلا علامة شعرية أولى تشير بقوة إلى حضور طاغ له تأثيره في تشكيل الموضوع والصورة الشعرية والدلالة النصية، إنه العلامة الأوضح والأقوى والأكثر قدرة على النهوض بإنتاج جماليات العالم الشعرى.

الديوان قصيدة واحدة ([3]) وإن تعددت عناوينها الداخلية التي جاءت بمثابة تموجات المد والجذر، لك أن تراها معلقة من نوع خاص أو جدارية تعد تطورا طبيعيا عن المعلقة ([4])، يكون للجدارية سماتها وإن قاربت أو شاركت أو استمدت من المعلقة بعض هذه السمات وفى مقدمتها :  الطول – تعدد الموضوعات – التنوع والتضاد – التكرار- تعدد الأصوات- حضور الذات الشاعرة – الخلفية المعرفية – التجليات المكانية – ترددات العلامة الشعرية – الاشتباك مع اللحظة التاريخية، وغيرها مما يمثل مكاشفة للعلاقة بين الشكليين الشعريين. 

لك أن ترى الديوان قصيدة مدح للنيل، مطولة يمر الشاعر فيها بمراحل من الحركة والنشاط الإنساني ومجابهة قوى الطبيعة سبقه إليها الشاعر العربي القديم ولكن الشاعر الحديث يقارب ممدوحه في سياق حيوي لا تتوقف رؤيته على رؤية ممدوحه فقط وإنما يوسع من زاوية الرؤية، ويعمقها ليرى الممدوح في إطار صورة أكبر تكون مكاشفتها دليلا على أن كاميرا الشاعر لا تضخم الممدوح ليملأ الكادر وليراه المتلقي خارج دائرة المقارنة الكاشفة، وإنما يضعه في سياق يجعلك تراه في إطار أفق مفتوح وإن بدا محددا، المقارنة فيه لصالح هذه الذات التي يجعلها الخطاب الشعرى نموذجا لممدوح من نوع جديد لا يستأثر بالصورة وحده ولكن هو العنصر الأهم فيها، وهو ما يتجلى عبر الأصوات المتعددة التي سمح الشاعر الحديث لها أن تطرح كينوناتها وقضاياها.

يستهل الشاعر الديوان باستضاءتين مطروحتين بضمير المتكلم: تفرض الأولى موقفا تصرح به منذ الوهلة الأولى:

  • واقفا – كنت – على عقرب ساعة

أستعير الوقت من مقبل عمرى ( [5] ).

فيما تطرح الثانية حالة تعبر عن موقف آخر:

  • كنت مشدودا إلى حافر عنزة

أرقب البرق من الشرق

أهز النيل هزة

يتهاوى البرق نارا في العيون المشمئزة

ويميل الليل عنى

مبحرا كنت من النيل

إلى ساحل غزة ( [6]) في الأولى يؤكد الشاعر على موقفه (بتقديم خبر “كان” عنها واسمها ) ذلك التقديم الذى يعد أسلوبا تكرر ست  مرات في الاستضاءتين تحدد جماع موقف الشاعر  (واقفا – مستضيئا – غاضبا – رافضا – مبحرا – حالما  ) طارحا في الحركة الرابعة ما يشبه بيت القصيد المعرب عن خلاصة موقفه : “رافضا كنت لأنصاف الحلول المستطاعة “، وكاشفا – عبر الفعل الناقص ” كان ” – عن تأصل الصفات السابقة المطروحة في خبرها (  [7] ) ومختزلا في الأسماء الستة التي تجمع بينها صيغة اسم الفاعل سردية مصغرة يعبر عنها الترتيب الدال لهذه الأسماء ففعل الوقوف يأتي في البداية بمثابة الكشف عن الموقع أو المكان الذى تنطلق منه الأحداث، يتبعه فعل الاستضاءة اللازم للمكاشفة التي تفضى نتيجتها للغضب الذى يؤدى بدوره إلى الرفض مما يدفع الشاعر للإبحار في محاولة لإنجاز حلمه الخاص، وهنا لك ان ترى الحالم / الفاعل هو الشاعر ولكن التقدم في مكاشفة العالم يجعلك تنحاز إلى أن الصوت هنا هو صوت النيل الذى يثبت لنفسه مكانة عبر الصوت ليؤهل المتلقي لمساحة الصورة التي ليس سوى النيل قادرا على تشكيلها وهو ما يمكنك مقاربته عبر السؤالين الدالين اللذين تنتهى بهما الاستضاءتين :

  • فترى :

هل ينفع النيل صدى ؟

هل يستمر الليل

في طهو المجاعة ؟ ! ( [8] ).

  • فترى:

هل ينسخ الحرف بحرف

   وترى:

هل يمسخ النسر أوزة؟! ([9]) طارحا عبر الأسئلة الأربعة عددا من الدلالات المختلفة لأسلوب الاستفهام في بلاغاته المتعددة ذات المستويات المتعددة أيضا فالأساليب الأربعة لها مستويان أولهما ينبني على الانفصال انفصال كل أسلوب عن سياقه لتتضام الأساليب الأربعة في سياق واحد عندها تفيد النفي، ومستوى الاتصال حيث يبقى كل أسلوب مرتبطا بسياقه الخاص ليخرج الاستفهام إلى دلالات بلاغية جديدة تتناسب والسياق والذى يتناسب بدوره مع فعل الرؤية الذى يكرره الشاعر مطروحا على مخاطب افتراضى يدخله الشاعر دائرة الحوار موسعا من دائرته (الحوار ) في قيامه على سياقين : الديالوج، والمونولوج.

 هنا يتجاوز الشاعر الحديث ديكتاتورية الشاعر القديم، مفسحا المجال للذات العليا ذات الآخر (الممدوح )، فالشاعر القديم في وقوفه على باب ممدوحه كان يبخسه حق الكلام ولا يمنحه الفرصة لأن يقول معبرا عما يرى وما يراه هو الشاعر وصوره التي تنسال عبر قصيدة يتحكم الشاعر فقط في مادتها وصورها ويجعل الممدوح يرى نفسه في مرآة الشاعر ولكن الشاعر الحديث يتخلى عن ديكتاتوريته ليمنح ممدوحه حق القول  فالذات التي، وحيث تفرض عليه تقنية توظيف الأشياء أن يحول العالم إلى مادة تشاركه التجربة، هنا تتجاوز صورة النيل كونها وثيقة على النيل إلى كونها وثيقة على رؤية النيل، ينتجها النيل نفسه، ويتوجه بها إلى جمهوره، إنه صوت الممدوح المنفلت من المعلقة القديمة محققا وجوده في المعلقة الحديثة عبر عدد من التقنيات الخاصة : المعجم –- تشكيل القصيدة والأصوات الشعرية – الرؤية للعالم.

معجم النيل

يفرض النيل معجمه (تتردد مفردة النيل 181 مرة تجمع بين الصيغة المتداولة، صيغة المفردة المحلاة بأل 145 مرة، تلك الصيغة الدارجة للنيل، والمعروفة دلاليا لكل من يقارب الثقافة العربية، أو يتداخل مع ثقافة النيل بوصفها عنصرا أساسيا في الثقافة العربية عامة والمصرية خاصة، وصيغة غير المحلى بأل 36 مرة)، وهو معجم يفرض نفسه على القصيدة / الديوان، وعلى مدار الصفحات (78 صفحة) بمتوسط تكرار مرتين في الصفحة الواحدة.

سيميائيا يمثل هذا المعجم مستوى قوليا يتصدر المستويات المتعددة للتحليل السيميائي، وتعد التكرارات روابط بين العلاقات اللغوية في الديوان، بحيث يتداخل النيل مع كل المعاني التي تطرحها القصيدة جملة وتفصيلا، ويجعله ( النيل ) أيضا عنصرا له قدرته على ان يتسرب إلى كل الصور وكل الأشكال الشعرية التي يجعل الشاعر منها سبيكة معلقته، فالشاعر يجمع بين ثلاثة أشكال شعرية : العمودي – التفعيلة – النثر في سبيكة لها القدرة على الكشف عن التنوع وطرح فكرة المقاومة مقاومة الشكل القديم ( العمودي) أو الوسيط ( التفعيلة ) للفناء  أو مقاومة الحديث ( النثر ) للعجز عن التجاوب والدخول في علاقات جديدة مع الأشكال الشعرية القديمة، إن الشاعر يخلق شخصية لها أبعادها التاريخية للنيل عبر هذه السبيكة المقاومة للشكل الفرد أو للعنصر الواحد وهو شكل جديد من أشكال رفض الشاعر لديكتاتورية الفرد ولو جماليا.

الشاعر بهذه السبيكة الشعرية يمنح الأشكال الشعرية حق التجاور ليعلن أن النيل قادر على احتواء كل الأشكال الإنسانية وكل الرؤى، وأن السبيكة نتاج شعرى يكافئ في طوله  امتداد النيل ويجعل من تردد المفردة شبكة من العلاقات الجمالية بالأساس فرؤيتك النيل في أي بقعة على امتداد مساحته تضعك أمام النيل الذى تعرفه وتجعلك قادرا على استيعاب مستويات عدة – حسب قدرتك – لصورة النيل وشخصيته، وكذا تلقيك مفردة النيل في القصيدة كل مرة تعيدك إلى تصور النيل، يحدث هذا قبل أن تقارب المستوى الأعمق لدلالة المفردة في تجددها عبر السياقات المختلفة على مدار القصيدة، فتكرار المفردات في تواترها وامتدادها يمثل نوعا من التدفق المماثل تدفق مياه النيل نفسها في تقدمها واستمرارها.

……………

هوامش وإشارات

[1] –  وشم على نهدى فتاة -دار أسامة – القاهرة 1972.

–  سيرة البنفسج – دار كاف نون – القاهرة 1986.

–  أزل النار في أبد النور- دار النديم -القاهرة 1988.

–  زمان الزبرجد – دار الغد – القاهرة 1989.

–  آية جيم – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1992.

–  لا نيل إلا النيل – دار شرقيات للنشر والتوزيع -القاهرة 1993.

–  مواقف أبى على وديوان رسائله وبعض أغانيه – المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة 2002.

–  حجر الفلاسفة – مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحفية والمعلومات – القاهرة 2006.

–  إنجيل الثورة وقرآنها، ثلاثية شعرية – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 2011.

[2] –  حسن طلب: نزهة في ظلام الضوء، مختارات من شعر حسن طلب – دار الكتب والوثائق القومية – القاهرة 2008.

[3] – يكاد هذا الشكل، شكل القصيدة الديوان أو الديوان القصيدة يمثل الشكل الأثير في تجربة الشاعر تجده في ديوانه الثانى ” سيرة البنفسج ” وتكرر في ” آية جيم ” وتجده في معظم الدواوين آخذا شكلا غير مباشر كما تطرحه تجربة الشاعر في ديوانه ” مواقف أبى على ” أو في ” إنجيل الثورة وقرآنها ” حيث الموضوع الواحد يشكل مدار التجربة ويفرض قوانينه البنائية على الديوان، ويعمل على تشكيل أفق التلقي موجها متلقيه إلى مسارات متنوعة في تلقى تجربة مكتملة الأركان متفردة التشكيل الجمالي في كل تفاصيلها.

[4] – راجع دراستنا: القصيدة الجدارية (قيد النشر) وفيها تفاصيل العلاقة بين المعلقة والجدارية، وأهم السمات المشتركة ومساحات التطور في الجدارية، وأهم تجلياتها في الشعر العربي الحديث.

[5] – لا نيل إلا النيل ص 7.

[6] – لا نيل إلا النيل ص 9.

[7] – يفيد الفعل الماضى التام معنى تمام الحدث أو الانتهاء فيما يفيد نظيره الناقص (كان )عن التأصل والاستمرار، تأصل الصفة المطروحة عبر خبر كان واستمرارها، وهو الاستخدام المتكرر في القرآن الكريم كما في قوله تعالى :  وَكَانَ اللّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ” النساء 99.

[8] – لا نيل إلا النيل ص 7.

[9] – لا نيل إلا النيل ص 9.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)