الموت بالعرض

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 وحيد الطويلة

ـ لن يعود مرة أخرى.

قالت أختي، بدموع حارة على خديها وصوت متداعٍ مكسور من فرط الخوف على حبيبها.

قلت وقلبي يوجعني عليها لكنني أخفي وأتماسك كي لا أكسر صورة أبي الذي لم يعط أهل محمود موافقة واضحة على الزواج- أو كلامه:

ـ لا تقلقي ، سيعود.

كانت ثمة مشكلة تافهة من مشاكل الزواج في الريف ، في السنوات الأخيرة أصبح العراك على من يٌكتب أسمه أولاً في بطاقة دعوة العرس.

لم تعد المشكلة اسم العروس أو العريس أو اسم أبيه أو أبيها ، المشكلة أصبحت في عمها المهم أو خاله الضابط في نقطة مرور على الطريق السريع .

في السنوات القليلة القادمة ستطبع صور العروسين في قريتنا على بطاقة الدعوى وسيتم التقاتل بين الأهل بالطبع على الصور المرافقة.

كلمة مني واسمعوها.

أختي جاءت من ناحية – كنت أدير مفتاح سيارتي للرحيل من القرية صوب القاهرة – وهو جاء من الناحية الأخرى برجاء وافر:

استرنا الله يسترك ، وخلصنا من هذه المشكلة التافهة.

كنت الأكبر بين أخوتي ، وأظنني مازلت.

محمود رفيق طفولتي ، طيبة الدنيا في وجهه معجونة بطيبة الآخرة ( مضروبة في اثنين)، وتسامح وحنان يكفيان نصف العالم.

أقوم من النوم مباشرة – وبعد أن أكون قد غسلت وجهي على عجل- أناديه أو أدخل دارهم الملاصقة لدارنا لنرحل معاً.

نسير رفقة حتى ملعب الكرة ، وسعاية لجده لأمه ، تمنحنا هذه القرابة صك اللعب طوال اليوم على حسه وصيته ، أقول نمضي ، يمسح عن فمه آثار الأرز أبو لبن ، إفطارهم الوحيد لسنوات ، أرز مطبوح بايت من ليلة أمس ، صٌنع على الطريقة البدائية ، يبدو في الصباح كقطعة كاوتشوك تستطيع أن ترسلها الى الحائط المقابل فترد عليك ، ولبن ساخن حٌلِب لتوه من جاموستهم الوحيدة ، من ضرعها الى طنجرة على النار – بث مباشر على الهواء-، ومن ثم يدلق على الأرز البارد ، ,وإن كان الجوع لم يقرص قرصته بعد يمكن أن يغليا معاً .. ولفت مخلل حار ، يوقظ الدم والحواس ويمسح الكآبة عن الطبق الرتيب اليومي .

كان لا بد لأختي أن تكون زعيمة مثل أمي ، أمي اصدمت مبكرا بأبي الحاذق ، ملأ لها الخيمة بالبخور وكتب الاتحاد الاشتراكي في ذلك الوقت فأسلمت ، ومحمود ملأ لأختي كفوفه بالعسل وخدوده بالمحبة ، وهي تنحنحت فقط ثم طلعت فوقها وراحت تخطب.

أختي زعيمة ولا شعب لها.

أصبح محمود شعبها ، تخطب فيه ليل نهار تصيح تأمر وتنهي ، وحين تغلبها طيبتها تمنحه حنانها الذي تطبخه بدموعها القوية بعد أن تكون قد فرغت من الخطب القومية.

وهو يضحك.

لم يكن يعرف اللعب.

كان يأخذ الكرة عند منطقة الجزاء يركلها بالعرض من طرف الملعب الى الطرف الآخر ، يسبقك و يتوقف برهة حتى تأتيه ليطمئن عليك ثم يعود في الاتجاه المعاكس.

لم يتقدم أبداً للأمام.

لا يحب المخاطرة ، ولا المغامرة وربما لا يعرفها ، وحتى إن عرفها لم يقربها طوال عمره.

شعب مثالي يرجف بالرهبة والحب أمام الزعيمة ، لكنه يضحك من خلفها كطفل ، لتضحك هي في الأمام.

أخطأ الفلسطينيون كثيراً في حق أنفسهم وحق أختي ، كانت تستطيع أن تكون المفاوض الصعب بحق أمام عدو يتقن جرك لمتاهة التفاصيل بعيداً عن الموضوع الأصلي.

..كنت سأحصل لهم على أكثر من الضفة وغزة .

ومحمود يؤمن على كلامها بدون رائحة من ضحك أو شبح ابتسامة حتى لا تشم رائحة سخرية فتقضي عليه.

المشي بالعرض أو على خط أفقي أنقذه دائما من خط هجومها، ترك لها المرمى والأهداف وراح يحاورها من بعيد دون أظافر ودون أشواك.

وحين يتقدم – نادراً ما يحدث- يتقدم بنية مشاكسة الأطفال لتطلق الزعيمة خطبها وخططها المكتومة داخلها.

وبعد أن تنتهي يجمع نثار كلامها يطبخه حناناً ورغيفاً بالسكر والضحك من القلب.

الموت قريب ، أقرب من أن تصطدم سيارة محمود وهو واقف في مكانه.

لم يتقدم الى الأمام ، أقسم أنه لم يفعل ، رغم أنني لم أكن هناك ، واقف مكانه وضحكت تبعثرت في الهواء.

من بين أنياب الصدمة أعرف ما يدور في قلب أختي وعقلها ، وأرى صمتها ملتهبا فوق نارها.

لن يكلمها كعادته عشر مرات في التليفون يومياً ، ، ولن يدق عليها أحد الباب حيث تسكن في مدينة بعيدة ، تعرف انها فقدت أجمل متعة متعة انتظار حبيب ، وستجد الميدان فارغاً من شعبها الذي رحل كله في غمضة عين.

هل رأيت شعباً يرحل ويترك زعيمه ، محمود بالطبع لم يكن يقصد ولا خطر بباله.

كان الجماهير الغفيرة والجماهير الغفورة.

ستحاول بعد سنوات من الآن – حتى يكون قد مر وقت كاف لتصدق أنه رحل- أن تتشمم رائحته في ملابسه التي مات فيها وحفظتها كماهي.

ستعيد عليَ جملتها الأولى بدون بكاء:

لن يعود مرة أخرى.

أود لو أقول لها : لاتقلقي ، سيعود

 

 

خاص الكتابة

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون