المساء، القطار والموت

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

الغروب، مساء يوم من أيام يونيو الحارقة.

بخطوات سريعة يقطع (المامون) الطريق بين مدينة العرفان وحي القامرة، يعبر المنحدر، يقطع ممرا مختصرا عبر السكة الحديدية، يتوقف قليلا، يلتفت يمينا ويسارا قبل العبور، ست سنوات وهو يعبر هذا المكان، وفي كل مرة يشعر بالخوف، خوف غريزي وغامض تضرب جذوره بعيدا في طفولته، فالمعابر والقناطر والأنفاق والممرات الضيقة والفضاءات المقفرة تحرك دوما بداخله هواجس واستيهامات على شكل صور عنيفة وغامضة، لصوص، قطاع طرق، مهووسون، ضحايا، اعتداءات، اغتصابات، أصوات استغاثة، دماء وجثث…

ينتبه فجأة إلى أن أمرا غريبا يحدث على السكة، بين القضبان الحديدية يقف رجل أربعيني، يرتدي سروالا عماليا أزرق، نصفه الأعلى عار تماما، فوق السور الحجري وعلى جنبات السكة يتجمهر الطلبة والمارة على شكل جماعات صغيرة، يبدو الرجل غاضبا، مندفعا، متهورا ومقدما على أمر خطير، يحاول البعض تهدئته والاقتراب منه، يتحرك جسمه القوي في كل الاتجاهات، يرميهم بالحجارة، يسمع صوت النداءات والتوسلات:

– الله يهديك…

– الساعة لله…حضر عقلك…

– العن الشيطان…

– الرجوع لله…

يبدو الرجل يائسا ومصمما، ينحني، يأخذ جسده وضعية الركوع، يتفصد بالعرق، يلمع، يصيخ السمع ليعرف وجهة القطار القادم، تشخص إليه الأبصار، تنظر إليه الطالبات مصدومات بعيون يملأها الخوف والترقب، إحدى الطالبات تدفن وجهها بين كفيها وتنخرط في بكاء هستيري، يسمع صوت القطار قادما من بعيد، تتعالى الصيحات والتوسلات من جديد، يقترب القطار، يسمع بوقه يمزق الأفق، تلمع مصابيحه، يعبر ضوئها النفق ويخترق جوف المدينة.

انتقل (المامون) للجهة الأخرى من السكة، يواصل طريقه، لا يلتفت، يمر القطار، تهتز الأرض تحت قدميه، تتلاشى الصيحات والتوسلات، تجتاحه كآبة عارمة، عبثا يحاول ألا يفكر، تتفاعل بداخله أفكار وأحاسيس غامضة، اخترق الموت حياته مرات عديدة، تقاطعا، التقيا، ولكنه ظل مشدودا إلى الحياة بخيوط يمتزج فيها الوهم والأمل بغريزة البقاء، خيوط قوية أحيانا، واهية أحيانا أخرى، ولكنها لم تنقطع أبدا.

أحيانا يعتصره اليأس، تضيق به الأرض، تقسو عليه الحياة وينسد الأفق، يشعر كمن يرتقي فيقف على حافة الجنون، حافة رفيعة يشرف منها على فراغ سحيق ولا نهائي، وتمتد أمامه مساحات من بياض لا تنتهي، وأحيانا أخرى يشعر بالضياع فلا يجد حافة يقف عليها أيا كانت.

في كل مرة يستحضر فيها فكرته الغامضة عن الحياة والسعادة والخلاص، في كل مرة يستحضر صور الموت والانتحار وتجربة الحدود القصوى يصل دوما إلى نفس النتيجة، الموت قاس، مؤلم وغامض، ولكنه يظل أقل قسوة من بؤس الحياة وأفاعيل الزمن، أحيانا كثيرة يبدو الموت أرحم من الفقر والحرمان والعجز والشيخوخة والمرض والجحود وأنانية البشر…

ثم في نقطة ما، ينهزم، يستسلم، يسلم أن الموت في النهاية قضية حظوظ مثل الأرزاق، قسمة ونصيب كما يقول المصريون، يموت الناس، يحصد الموت أرواحهم منذ الأزل، البعض يموت سعيدا في فراش نظيف ودافئ، البعض يموت مبتسما فوق صدر فتي وناهد، البعض يموت ساجدا مطمئنا في الصلاة، البعض يموت مهملا في سرير موبوء ومتعفن أو بجانب قمامة قذرة، البعض يموت منتشيا ومرفوعا بجرعة قوية في الوريد، والبعض الآخر يقتله اليأس فيموت مطوحا بنفسه من مكان شاهق أو مرتطما بقطار سريع وجامح…

يفكر بصمت:

– الموت هو الموت، وبعض الموت أفضل من بعض…

يخفف الوطء، يلتفت، يلقي نظرة أخيرة إلى الخلف، يشعل سيجارة، ثم يواصل سيره في اتجاه المدينة.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون