المرأة والتفاحة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. محمد المسعودي
اندفعت أجري عبر الغرسة مباشرة نحو “البراكة” التي كان بابها مفتوحا، وإذا بها تخرج من حجرة داخلية إلى وسط “البراكة” وهي عارية تماما. وقفت متسمرا في مكاني أنظر إليها فاغر الفم. كنت أرى عري المرأة لأول مرة. كنت صبيا صغيرا لم أتجاوز الخامسة أو السادسة من عمري. اقتربت مني واحتضنتني بكامل عريها. أحسست بفمي يلامس سرتها. ابتعدتْ عني قليلا، أخذت بيدي وجرتني وراءها إلى حيز كان بمثابة مطبخ في “البراكة”. مدت يدها نحو سلة قصبية رُصت عليها بعض الفواكه. أمسكت تفاحة كبيرة الحجم حمراء لامعة، ووضعتها في راحة يدي اليمنى. وعادت إلى ضمي تحت ذراعها، وهي تمضي بي نحو الحجرة التي خرجت منها. أجلستني على سرير عريض. وقالت لي: كل تفاحتك.. كانت الدهشة لم تزايلني بعد. ظللت أبحلق في جسدها العاري دون أن يطرف لي جفن، أو ينتابني خجل. نظرت إلي في صمت، ولما وجدتني لا أعض التفاحة الشهية، قالت لي ثانية: كل تفاحتك.. أو سآكلك أنا.. وأطلقت ضحكة قصيرة جذلة. أدارت ظهرها لي ومشت نحو خزانة ملابس، استخرجت منها لباسا شفافا أحمر اللون، التحفته بسرعة وظل مشقوقا من أعلاه إلى أسفله، ومن شقه كان يبدو كامل جسدها العاري تقريبا: ثدياها، وعانتها، وفخذيها القويتين البيضاوين اللامعتين، ثم أخرجت ملابس داخلية بلون أسود: تبان وحمالات نهود صارت ترتديها على مهل بعدما استدارت إلى الناحية الأخرى مولية ظهرها لي، وفي انحناءتها كانت تبدو مؤخرتها ربرابة ملساء مستديرة. كنت أقضم التفاحة قضمات صغيرة، وأنا أتلذذ بحلاوتها، وأتملى في صمت ما يجري أمامي. لما انتهت من ارتداء ألبستها الصغيرة الحريرية تلك. اقتربت مني ثانية، أمسكت بيدي وجرتني وراءها نحو مطبخها البسيط ذاك. أشعلت وابور الجاز، ووضعت فوقه كافاتيرا بعدما ملأتها بالماء. أخذت برادا وضعته في صينية نحاسية، ورصت عليها بعض كؤوس صغيرة، كان يطلق عليها: “كاس حياتي”. ثم انحنت لتخرج من صندوق خشبي كبير خبزا وقوارير احتوت مربى التوت والزبدة ودهن مصنوع من “البيان”- كان أول مرة أراه فيها، وأذوق طعمه من يدها-. وضعت كل تلك الأشياء على “طيفور” صغير بثلاثة أرجل. وظلت واقفة تنظر إلي مرة وأنا أتبعها كظلها، ومرة تنظر جهة الماء الذي يغلي فوق النار. لما رأت سنابل البخار تندفع من فوهة الكافاتيرا. أطفأت النار. وأخذتني بين ذراعيها، ومضت بي نحو العتبة الخارجية للبراكة، حيث كانت تستوي على يسار الخارج من الباب شجرة لوز، كانت أزهارها البيضاء لامعة فاتنة في ذلك الصباح الرائق من أيام بداية شهور الصيف. كانت غرستنا بهيجة بأشجارها الخضراء اليانعة، تلك الأشجار التي طالما لعبنا بين جذوعها أنا وإخوتي وأبناء خالي وبعض أصدقائي وصديقات أختي الكبرى فيما بعد. أما يومها فلم يكن في المكان سوانا: أنا وهي. هي المرأة الشابة الفاتنة التي تعيش وحدها، بينما يعمل زوجها بعيدا في جبل طارق، ويأتي بين فينة وأخرى إلى بيته في عطلات قصيرة. وأنا ذلك الصبي الصغير الذي أحب الغرسة، وأحب امرأة البراكة الجميلة التي كانت تعامله معاملة خاصة، وتلاعبه، وتضاحكه. وكان أول من تراه في صباحها، إذ يندفع من بيت والديه المجاور، ليطرق باب بيت جدته، وحينما يقبل يد الجدة المعروقة الحانية، يندفع جاريا قاطعا ممرات الغرسة نحو البراكة. وصوت جدته يتبعه:
-هي اللي جابتك.. ألعفريت.. مشي عزيزاك.. واخا عليك يا بابك..
وفي الداخل كنت أجدها منهمكة إما في تصفح كتاب أو مجلة، أو منشغلة في إعداد فطورها. ذلك الإفطار الذي كنت أشاركها فيه غالبا. وكانت تعده، وتضعه على الطيفور، أحيانا، واضعة عليه إزارا أبيض اللون حريري الملمس مطرزا بتطريزات بديعة، حتى يقيه من الحشرات الطائرة والذباب. وحينما تحس دبيب أقدامي المسرعة فوق تراب الغرسة، كانت تخرج إلى عتبة الباب فاتحة ذراعيها لتحضنني وتحملني إلى الداخل، وتجلسني على فخذها الأيسر، ثم تشرع في إطعامي وأكل ما أعدته.
في ذلك الصباح، أطفأت وابور الجاز بعدما غلى الماء. وخرجنا معا نتجول تحت أشجار السفرجل والإجاص والبرتقال والتين التي كانت تؤثث المكان. وكانت التفاحة الحمراء اللحيمة ملهاتي ريثما يحين وقت الإفطار. أدركت بحس الصبي أن المرأة تنتظر زوجها الذي خرج ليأتي ببعض الإسفنج، والخبز الفرنسي (باكيط). وتبينت –بعد ذلك- أنها أوصته أن يأتيني من السفاج (لحبيب) بسفنجة بالبيضة، وهي أكلة كنت أحب الإفطار بها..
أقبل سعيد يحمل مشترياته، كان يسير بخطوات قصيرة متمهلة في الممر المظلل بشجرة تين باسقة، وشجرة برتقال ما تزال أوراقها خضراء زاهية. سرنا أنا وهي في ممر آخر. كان قد سبقنا إلى البراكة. وضع بعض ما اشتراه فوق الطيفور الواطئ، ووضع مشتريات أخرى على طاولة مرتفعة في الركن الذي يستعمل مطبخا، ثم عاد يجلس إلى جوارنا حول الطيفور. صبت الشاي في كؤوس “حياتي” الثلاثة، أخذتْ إسفنجة البيضة ووضعتها أمامي، وسألتني هل آكل أولا خبزا مدهونا بالمربى أو دهن “البيان”/الفول السوداني. هززت رأسي مبديا عدم رغبتي في ذلك. قطعتُ قطعة من السفنجة الشديدة السخونة، ووضعتها في فمي، وكنت ما زلت أستحضر صورتها العارية في ذهني، وأنا غاض البصر في وجود الرجل الذي كان يكلمها، ويضحك معها، وهما مُقبلان على طعامهما. كنت على وشك الانتهاء من سفنجتي المفضلة، ومن فطوري الملكي في حضرتها، وفي وجود زوجها، حينما ارتفع نداء أختي الكبرى تناديني من سطح البيت، وهي تلح في ضرورة عودتي إلى المنزل لأن والدي يطلبني. قدمتْ لي فوطة صغيرة بيضاء اللون لأمسح يدي. وهي تقول لي:
-امش.. امش.. كيظهر عزرائيل جا على غفلة.. ومجبركشي.. قل لو كنت كتسخر نعزيزاك عند البقال..
أسرعت مهرولا نحو بيتنا بعدما مررت بجدتي لأخبرها أن أبي جاء وهو يسأل عني. فهمت الإشارة، تركتني أخرج، بينما دخلت غرفتها لترتدي “الحايك”، ثم تبعتني. لما دخلتُ من الباب الأول، وولجت “باب الفصيل” الزجاجية الثانية، رأيت أبي جالسا على كرسيه، وفي عينيه يتراقص شرر العنف والغضب، وهو يمسك في يده حبلا غليظا مبللا في الماء والملح، كان وسيلته الأولى في تأديبنا، وإذا لم يجده يستعيض عنه بسلك من أسلاك مد الكهرباء أحمر اللون. صاح في فورا:
-فين كنت ألكلب.. علاش خرجتي عْل الصباح..
قبل أن أنطق كان قد نهض واقفا عن كرسيه، وساطني بحبله الكاوي على خدي الأيمن. كان الألم الناتج عن الحبل المبتل المالح لاسعا قويا. اندفعت جدتي تحول بينه وبيني، بينما كانت أمي وإخوتي ينظرون من بعيد ولا يجرؤون على الاقتراب خشية أن تطالهم يد “عزرائيل” اللاسعة المؤذية. كانت جدتي تقول له:
-علاش كضربو.. راه كان عندي.. علاش مكتخلهشي يجي نلْغرسة..
-ما يخرشي من الدار.. ما عندو ميعمل في الغرسة..
-واش يبقى محبس هنا.. لعايل خسو يلعب فحال العيال كملين.. واليوما ما عندوشي لجامع.. راك كترهو فيك بلا سبب أسيدي علال..
-ميهمنشي يبغيني أو يكرهني.. المهم يسمع كلامي..
لم أكن أبكي. كنت واضعا يدي على خدي الأيمن. وكنت أتطلع في أبي صامتا. وأنا ألعن قسوته وعنفه، جهله واستبداده في سري. وكانت صورة جارتنا الجميلة وهي عارية تماما تخادع بصري الذي بدأت تتجمع فيه بعض قطرات دموع، وجدتي تطويني تحت “الحايك” وتجرني وراءها نحو باب الخروج، لأعود معها ثانية إلى الغرسة، وإلى الجارة الجميلة التي علمتني عشق الجمال والحنان الأنثوي الدافق، وإلى زوجها الشاب سعيد الذي كان صديقي الأول الذي أغراني بالقراءة، وفتَح عيني على محبة الحياة.
شهرا أو شهرين بعد ذلك، وكنت قد التحقت بالمدرسة الابتدائية، عدت في يوم من الأيام من مدرستي مسرعا نحو بيت جدتي، ومنه إلى البراكة. لم تكن المرأة الجميلة في استقبالي كالعادة، وكانت البراكة الجميلة خاوية مقفرة، لا أثاث فيها. لم تكن سوى جدرانها الأسمنتية، وخشبها، ومدفئتها، وقرميدها يشهد على رحيل المرأة وزوجها. لم أعرف متى تم ذهاب الجارة، وأين ذهبت. ظللت أسأل جدتي وخالتي وأمي وأختي الكبرى دون أن ألقى جوابا.. مضت المرأة الجميلة كأنها لم تكن.. وحتى الآن لم أعرف اسمها ولا نوع قرابتها بنا ولا سبب اختفائها المفاجئ، لكن ظلت صورتها تزورني في أحلامي حتى اليوم.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون