المايسترو، رواية البدون والعبودية المعاصرة

المايسترو سعد القرش
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

الغربي عمران

يجمع الروائي سعد القرش شخصيات روايته الأربع في  قارب صغير، لينطلق من ذلك الحيز المحدود والزمن المحدود بليلة واحدة في مسامرة تقارب الثلاث مائة صفحة.

قارب متأرجح فوق مياه الخليج، يتنفس ليلة بوح الوافدين، يتسامرون حول كؤوس نبيذ أحمر، وعلى مد البصر عدة يخوت عملاقة، تلك  اليخوت الفارهة تمثل مجتمع الثراء، ليرسم  الكاتب بحرفه عالم اليخوت. يقابله عالم القارب البسيط بمن عليه من وافدين وبدون، إلا أن إحدى تلك اليخوت يقترب حتى يكاد يصطدم بالقارب الصغير.

ما على اليخت الذي يحاذيه القارب مجتمع الصفقات والسهرات الباذخة، وما على القارب الصغير: “نواف” البدون وهذا الصنف شبيه بالخنثى بين جنس البشر، ولا أقصد الإهانة، بل التقريب لمن لا يعرف البدون، هم أفراد حائرون في جنسيتهم، فلا هم بالوافدين ولا بالمواطنين، ويمكن أن نتصور آلافاً من البشر يولدون ويعيشون على أرض  دولة، دون أن تمنحهم حق المواطنة الكاملة، ليعيشوا بدون وثائق تثبت جنسيتهم إلى أي دولة. ومحامي مصري “مصطفى” أو المايسترو، حامل الجنسية الأمريكية، صديق لنواف البدون، ويبدو أنه وفد في مهمة محدودة وقد انقضت ليغادر صباح اليوم الثاني من مسامرتهم.، ثم التبتي  “تسو” الذي يبدو كناسك يتحدث بحكمة. ورابعهم هندي “أنيل” صانع القارب من بقايا ألواح ظل يركنها في زاوية منسية من زوايا حديقة قصر سيده الذي يعمل هو ووالده في خدمته. إلا أن السيد غضب بعد اكتشافه لذلك القارب الصغير، مهددا بنفي أنيل إلى الهند، أو التخلص منه بأي شكل كما درجت العادة أن يتخلص السيد من مخدوميه حين يغضب.

لكن الأصدقاء يتعاونون في إخراج ذلك القارب خلسة إلى عرض الخليج وهناك يدعوهم المحامي إلى سهرة موفرا نبيذا أحمر وأطباقاً شهية لزوم تلك الليلة.

وتلك ليست الحكاية، إذ أن الأصدقاء الثلاثة ونصفهم بالأصدقاء مجازا، ما إن سرت نشوة جرعات النبيذ في عروقهم حتى بدأوا بمسامرتهم، ليحتدم الجدال حول ميزة  أوطانهم وأديانهم، وهنا يعرفنا الكاتب إلى التماثل بين الأديان المختلفة، فالجميع يشترك في الدعوة لقيم العدل والرحمة إلخ، في الوقت نفسه الذي يدعي أتباع كل دين بصوابية دينهم وبطلان ما عداه،هي مفارقات تثير التساؤلات، ويقف المتلقي متأملاً لتلك الحوارات بين الأصدقاء الأربعة. من هنا يتشعب جدل السمار الأربعة، لتوضح الآراء بين عقيدة التيبت وعقيدة نواف البدوي المسلم وعقيدة أنيل الهندي، يدير النقاش المايسترو، تلك الصفة التي حملتها الرواية على غلافها كعنوان، وهو عنوان يحمل في دلالته الكثير.

 ليلة واحدة لم يتجاوزها المتسامرون على قارب، ولم يكن ذلك الجدل حول الأديان والأوطان هو محور الرواية الرئيسي، فثمة ثيمات أخرى تعالجها ، والمحور الرئيسي بدأ بعد عدة صفحات، بداية بجنوح المايسترو لذكرياته، وكانت  تلك حول بداية علاقته بباحثة أمريكية تعشق الشرق، وعلى وجه الخصوص مصر، وما له صلة بها من تاريخ وتراث وآداب وفكر ولغة. د. “ماري” لتبرز شخصية ثانية بعد شخصية المايسترو.

إذا فالرواية نسيج من حكايات متداخلة، يثقل حيز  ذلك القارب وتلك الليلة التي قضاها الأصدقاء بمسامرة شيقة، وقد صورهم القرش كمجموعة منبوذين، فقارب أنيل البدائي صنعه من بقايا ألواح منسية منذ سنين،

ألواح مستغنى عنها، أقرب إلى الخردة، أيضا وجود القارب كنقطة معتمة في ليل البحر الذي يعج باليخوت الضخمة والمنيرة.

في جو البحر يصطحب الكاتب المتلقي بفنية عالية إلى فضاءات زمكانية في ظاهرها محدودة، ليتجاوز به ذلك الحيز إلى فضاء بلدان في قارات مختلفة،  فـ”لورا” التي تعيش في القارة الجديدة حاضرة بقوة من خلال ذكريات المايسترو الذي أخذ يسردها بإيقاع متوازن ومتتابع، لنكتشف أنه يحكي عن زوجته بدأ علاقته به عبر المرسلات على الإنترنت، مرورا بقدومها يشدها شغفها بحضارة مصر، وفي بيت أسرة المايسترو تستضاف، وخلال أيام تتوثق علاقتهما بصورة حميمة، ليعلنا زواجهما.  الرواية هي رواية المايسترو ولورا، وما وجود تلك الشخصيات الأخرى إلا لعبة من العاب الكاتب الذكية.

رواية تعري مجتمع الخليج من خلال البدون، وما يمارسه البعض من انحرافات يدفعهم رغد العيش ووفرة المال، لتقودهم غرائزهم إلى خفوت الحس الإنساني. وأجزم بأن تلك السمات لا تخص مجتمعا بعينه، فلكل مجتمع طواغيته وشرائحه المختلفة، ومنها من تسيرهم غرائزهم الحيوانية.

ما يلفت في هذا العمل تلك النقلات السريعة، نقلات من مسامرة بين مجتمع القارب، إلى المتخيل من الماضي دون تمهيد، بين ما يدور على القارب وما تجود به ذكريات المايسترو، ليتعود القارئ على تلك النقلات بعد عدة فواصل ويستحسنها، وهكذا أخذ المايسترو يسرد علاقته بلورا منذ بدايتها وحتى حاضره، لنكتشف مع مشارف النهاية أنها ليلته الأخيرة وهو يهم صباح اليوم الثاني بمغادرة الخليج متجها نحو لورا التي أصبح  يحمل جنسيتها، وهنا تأتي المفارقة، نواف الذي يعيش في بلد منذ مولده ولا يعرف وطنا آخر، يعيش دون هوية، وأمريكا وغيرها من الدول التي تنظمها القوانين بروح إنسانية لتحافظ على كرامة الأفراد بشكل مقنن، دون أن يترك الفرد كما هو عند البدون للضياع.

الكاتب يشرك المتلقي في ردم تلك الفجوات السردية التي يتقن بذرها هنا وهناك، مثل أسباب وجود مصطفى في تلك البلد وإن عرفنا بأنه محامي وعمله يتطلب الانتقال في مهمات قضائية، أسباب تمثيله لدور أعمى، والنظر إليه من ذلك الرجل الثري، ثم من  زوجته كفحل. وقضايا أخرى تدهش القارئ  وقد وجد نفسه يعمل على مواصلة التخييل مشاركا في إتمام اتساقها، ضمن سياقات حتما تختلف من متلقي إلى آخر.

المايسترو رواية معرفية، وبالطبع فإن كل عمل روائي يحمل قدرا من الثقافة والمعارف، إلا أن ذلك الجدل الذي أثث به الكاتب أرجاء عمله تدفع العقل إلى عصف بين ما يحمله وما تطرحه تلك الشخصيات في حواراتها تلك الليلة، وأيضا ما طرحته لورا في  مراسلاتها مع مصطفى، وحواراتهما بعد لقياهما.

رواية إنسانية بامتياز، حين تلاقحت أفكار وقيم تلك الشخصيات المختلفة، بل وتنفست بآمالها المختلفة، بوح شفيف لذوات تبحث عن السلام والحرية والأمان في عالم مضطرب. 

لورا في بداية ظهورها مثلت المجتمع الغربي، بعقلانيته، وتلك العلاقات الناضجة، والمواقف الواضحة، وبطول مراسلتهما ومصطفى، ظلت الباحثة صاحبة التجربة الحياتية المدهشة، المنفصلة بعد زواج نتج عنه صبي. لكن بعد حضورها إلى القاهرة واستضافة أسرة مصطفى لها، صارت كائنا آخر،  كائنا مستلبا، دوما تسعى لإرضاء من حولها، بالاندماج في أعمالهم، ومحاولة التقرب ولو عكس قناعاتها، كما لو كانت امرأة مصرية مكسورة الجناح، وبدت كما لو لم تكن صاحبة التجربة. تتصرف بفطرة وسذاجة. وهذا ما يعطينا فكرة أن الإنسان هو الإنسان بعاطفته والسعي للمصالحة مع ذاته ومع من حوله، خاصة حين يجد لروحه موطئ أمان وقد وجدتها لورا في المجتمع المصري ممثلا بأسرة مصطفى.

تنتهي تلك الليلة برؤية مجتمع القارب لفتاة تتخبط وسط مياه الخليج، محاولة الإمساك بمجاديف القارب وحوافه، لتحكي بعد إنقاذها ما يدور على ذلك اليخت العالي من دعارة ، وسقوط إنساني مريع، وقد تركها زوجها لضيوفه متشاغلا بكؤوس الشراب.

رواية انتظرتها كثيرا من كاتب يمتلك أدواتها، ولإيماني بتجربته، التي برزت في أعماله السابقة “حديث الجنود” و”باب السفينة” و”ثلاثية أوزير”. وفي المايسترو، على يقين بأنه يتجاوز تلك الأعمال بأسلوبه وألعابه المدهشة، التي تجذب القارئ من أول صفحة حتى آخر حرف.

هذا العمل أخذ أسلوبا خاصا به يتجلى، من مسامرة على ظهر قارب لا تتجاوز الساعات، إلى عوالم من التخييل يجمع بين يدينا حكايات مجتمعات مختلفة، لننتهي إلى قناعة بأن المجتمع الإنساني مهما تباين، ومهما حاولت تلك الشخصيات بنزعاتها الشوفينية الانتصار لأديانها وقومياتها، وأن تلك الفقاعات من دينية وقومية واقليمية، ماهي إلا سحب قاتمة عابرة لأفق الوعي البشري الذي يرقى لسمو العدالة والمساواة الإنسانية، ومهما بدت شراسة  وعنف تلك التوجهات. فإنها تتماها لتنتصر في النهاية القيم الجامعة للإنسانية بالسلام والتكامل لمواجهة ما يهددها.

 

مقالات من نفس القسم