المادة اللعينة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 13
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مكاوي سعيد*

قراءة صحف الحائط والتعليق عليها بالقلم الفلوماستر، والاشتراك فى حلقات النقاش الدائر حول موضوعاتها، كانت تثرى يومى الدراسي وتجعله متميزاً، إلى أن يحين موعد الولوج من باب المدرج لتصطدم نظراتى بكل الوجوه المكفهرة والشاحبة والمترقبة والملولة..حتى تسكن وتستقر العين على الركن الذى يجلس فيه الرفاق، يشيرون إلي بحميمة وهم يفسحون لى مكاناً بينهم، وأنا منشغل عنهم بالبحث عن صاحبتى، أو من سلفتها كشكولى، أو من أقنعتها بتفوقى فى مادة صعبة وبأني جديراً بشرحها لها، أو من واعدتها بالذهاب إلى المرقص القريب من كوبري الجامعة، لنرقص معا فى حفل ال”ماتينيه” حتى لا تتأخر عن البيت، يدايا على خصرها ويداها خلف ظهرى، وأقدامنا تتحاشي الاصطدام، وخشب العوامة النيلية الضخمة يهتز ويتأرجح تحت أقدام الراقصين الشباب وتحت صخب السماعات الضخمة العالية، ثم افيق على دخول أستاذ المادة المتجهم المتربص بالجميع فتسود الهمهمات فراغات المدرج.. أو يدخل أستاذ الكلية الذى يشرح مادته مستخدماً أحدث النكات فتعلوا القهقهات، ويندر لحظتها أن تجد وجهها مكفهراً أو عابوساً..وينتهى نصف اليوم الدراسى فتفتش عن نقودك القليلة وتتحسسها وهي بداخل جيبك وانت تعدها باللمس حتى تطمئن على قدرتها على اطعامك بمفردك، أو تسمح لك بدعوة صديق أو صديقة لمشاركتك.. وفى المساء تمر على غرفة الجوالة لتسمع أهازيجهم ولهوهم، أو تعرج على مسرح الكلية لمشاهدة ” البروفات”، وقد يسعدك الحظ وتجد زميلة جديدة جميلة وموهوبة تتدرب على الغناء، أو قد تنتقل إلى كلية مجاورة لتحضر ندوة أدبية أو سياسية.

هذه الأيام الجميلة كانت لها رائحة خاصة تميزها، غالبا ما يبدأ حلمى بهذه الرائحة، ثم يتخابث عقلى الباطنى ويرواغ وهو يركب مشاهد من تلك الفترة الرائعة، على مشاهد متتالية أكثر حداثة، ومن الشرق والغرب كما يقول العامة، ويعيد تشكيل المشاهد والوجوه بلا سبب درامى مقنع.. أكون فى حلمي أكلم وفاء زميلة الدراسة الحميمة، فأجدها بعد عدة مشاهد تحولت إلى ليلى زميلة العمل الرخمة .. أكون على شاطئ البحر أسبح مع جميلات، وفجاة أجد نفسى مع برميل لحم وشحم فى مطبخ بيت عتيق أساعدها فى ملء خزان “الوابور” بالكيروسين، وتكاد تخنقنى روائح الجاز وعرق إبط الرفيقة الممتزج بروائح طبيخ البيت البايت.

ما يحيرنى هو حلم سخيف ورتيب غالباً ما يجثم على صدرى وسط أزمات الحياة .. يبدأ بتلك الفترة الجميلة من حياتى .. الفترة الجامعية .. ويدخلنى للحظات فى عمق متع تلك الفترة .. صداقات حقيقية وابتسامات من القلب.. فتيات بريئات .. طموح لا حد له، مستقبل مجهول لكن لا أحد يعبأ بمخاوفه.. ثم أشم تلك الرائحة ، التى تشغلنى جداً فلا هى جميلة ولا هى كريهة، لكنها مستفزة   تشعرك بأنك على وشك الدخول فى مصيبة، غالبا ما كنت أشم تلك الرائحة وانا فوق كوبرى الجامعة فى طريقى إلى الكلية فى وقت معين .. وعندما ادخل الى ساحة تنزهنا ولهونا أجدهم قد أحاطوها بسرداق ضخم كسرداقات الموتى النبلاء.. وأنتبه إلى الحقيقة المرة، الامتحانات على الابواب، وها هى التجهيزات قد بدأت، وأنا لم افتح كتاباً فى المنهج الدراسى.. ومن تلك اللحظة يركبنى الهم والغم، وتتلبسنى عفاريت الدنيا كلها، فلن أسمع لمدة طويلة الضحكات والنكات، ولن أرى أغلب زميلاتى، وأصدقائي سيحلقون رؤوسهم” زلبطة” حتى لا يضطرون إلى النزول إلى الشارع حتى موعد الإمتحان، سوف يغلقون عليهم غرفتهم ويغرقون فى المذاكرة وقد لا يردون على التليفون، أعود إلى البيت بكل كآبات العالم .. وبعد أسابيع قليلة أخوض تلك الإمتحانات الوحشية وقد يصدف وانجح أحيانا..

عندما أشم تلك الرائحة فى الحلم يبدأ التحول .. أجد نفسى اعمل فى مؤسسة كبرى ثم يصلنى خطاب استدعاء من كليتى التى تخرجت منها منذ أكثر من عشرين عاما.. يطالبونى بسرعة الحضور لأداء امتحان مادة التكاليف مرة أخرى بحجة ان المصحح اخطأ فى رصد درجاتها، وأعلن بنحاجى بينما الدرجة التى حققتها لا تسمح لى بالنجاح فى تلك المادة.. هنا يتحول حلمى إلى كابوس.. فتلك المادة اللعينة كانت مصدر قلقى وزهقى طيلة أيام الدراسة الجامعية، وما صدقت انى تخرجت من الكلية من أجل التخلص من تلك المادة بالذات.. بعد كل هذه الأعوام أكتشف انى لم أنجح فيها بالذات.. أتوسل اليهم أن أعيد الامتحان فى كل مواد الدراسة عدا تلك المادة.. لكنهم يرفضون.. أقدم لهم عروضاً مختلفة…لكنهم يبالغون فى الرفض

أصرخ فيهم ” خذوا كل كتبي ومقالاتى وحواراتى ولا تجعلونى أعيد هذه المادة مرة ثانية” يبتسمون برقة ثم يقتربون منى، أحدهم يكبل يدى وآخر يضعنى على مقعد طبيب أسنان، وثالث يضع الكلابة الحديدية داخل فمى ويبدأ فى نزع أسنانى، ثم أجد شهادة تخرجى ملقاة بأرضية الحوض وأنا اتمضمض، الماء يسبح فوق الدرجات والدماء التى تسيل من الفم تمتزج به، أقوم مفزوعاً فتنتهى الرائحة.

مكاوي سعيد

ـــــــــــــــــــــــــــــ

*روائي مصري

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم