الكتابة بين ثقل القهوة وتحليق الفراشات.. قراءة في “تأكل الطير من رأسه”

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أماني خليل

 بعض الكتابات لها رصانة وثقل القهوة، وبعض الكتابات لها خفة وتحليق الفراشات, البعض يستطيع  ببراعة أن يمزج بين الأسلوبين. هكذا تأتي مجموعة مصطفي زكي القصصية الثانية "تأكل الطير من رأسه", الصادرة أول هذا العام عن دار العين.

بادئ ذي بدء  يهدي "زكي" المجموعة لصغيره زياد, الصغير الذي يريد له الأب ـ كديدالوس الأسطورةـ الخلاص والانعتاق معه, تلك العاطفة الشفيفة التي تغلف سطوراً كثيرة من العمل بشكل متكامل, لا يفوتنا هنا أن نذكر بداية المجموعة ونهايتها التي تُفُتتَح وتٌختم بأسطورة ديدالوس الذي يكتب عليه أن يبقي في متاهة صنعها بنفسه وحين  قرر الفرار مصطحباً ابنه ايكاروس  عبر صناعة أجنحة اذابتها اشعة الشمس فلم ينج الصغير ليحكم علي ديدالوس بالشقاء الابدي.

 تقع المجموعة في أربعة اجزاء, الجزء الأول (نوستالوجيا) فيه ثلاثة قصص هي (سفر التكوين, فراشات, أحمد مبروك) الحديث عن نوستالوجيا ما؛ يدفع الذهن  إلى صورة رومانسية, وربما محلقة  عن حنين إلى احداث  ماضوية, طفولية , رومانسية, ضبابية الرؤية.

لكن البطل يواجه في القصص الثلاثة توقاً شديداً إلى التحررـ رغبة عميقة في التحرر والخلاص من سلطة مدرس الفصل كشخص والمدرسة كمؤسسة, الإرهاصة المتمردة هنا هي الرغبة في التمرد علي سلطات لاحقة  الدولة والمجتمع ومؤسسة الزواج بكل ارتباكاتها , الخضوع لمؤسسة العمل , السلطة الدينية  الخ

في قصة (سفر التكوين) يدبر الصغار الاشقياء للتخلص من مدرس الفصل هل هم  المشاغبون في المسرحية الشهيرة ام هم(  مارتين وكلارا وجوستاف)  في رائعة مايكل هانكه الشريط الابيض2009, حيث قرية المانية في عشرينات القرن الماضي  تواجه عدة حوادث مأساوية لا نسبر في بداية الفيلم حقيقة مرتكبها, وهناك  مجموعة من الاطفال  نكتشف مع الاحداث ان الجرائم  طريقتهم في عقاب  كبار القرية, الذين نعرف انهم يستحقون العقاب تماما  عقاب يصل لدرجة القتل هؤلاء الاطفال ليسوا قتلة لكنها العدالة بوجه اخر ..

 لا تستطيع بضمير مرتاح ان تصدر أحكاما بالإدانة علي اطفال (سفر التكوين) فلا تعلم علي وجه اليقين ايهم المدان والأكثر ادانة هل هم ام المدرس ممثل السلطة الاكثر ادانة.

في قصة (احمد مبروك) يواجه الصديق التلميذ قسوة المدرس صغيراً عبر صفعة لا ينمحي اثرها مع الزمن في فصل دراسي, ويكون البطل شاهدا عليها. ويواجه قسوة المرض كبيرا الذي يقعده  تماما ولا يبقي معه الا حبيبة وفية, فيحرمه من الحب ويُحرّم عليه الحياة كبيرا.  يأتي الموت في النهاية كحل  وانعتاق  وتحرر نهائي من الالام والوجاع والمخاوف والاوجاع.

في القسم الثاني (حكايات قديمة) عبر اربعة قصص (حانات النفس الكئيبة, والاغواء الاخير لرجل عادي,  وصياح اخير للديك) يستلهم زكي من الميثولوجيا الدينية  قصة المسيح وصلبه الكثير, لكن دون التورط  في قبولها او رفضها بكل الايقونات المقدسة   مثل الصليب, الثلاثين دينار فضة ثمن السيد المسيح والتي قبضها  يهوذا  في السرد.

يحلم بطل النص بالطير التي تأكل من رأسه وهو مصلوب مثلما في النص القرآني يفسر يوسف عليه السلام  رؤيا صاحبه في السجن بأنه سيصلب لتأكل الطير من رأسه.

 الصليب هنا يصلب عليه المسيح والبطل والقارئ في ان معا, يختار “زكي” هذا النص العنوان للمجموعة كلها ليضيف كثافة علي الحالة الشعورية, الموت هنا موت اس في قصة( طوف) هناك حالة من التداعي المشهدي الحر, عدة صور بصرية مرسومة ببراعة,  ترسم نهاية العالم أو الاحداث الكبرى كسفينة نوح  رغبة من البطل الراوي في النجاة  من المأساة طوري, او موت مجازي, انتقال من برزخ لآخر لتأتي النهاية  بتحليق فراشات منهية  معظم القصص.

 

في القسم الثالث (حظر) يرسم  زكي علاقة مرتبكة وثقيلة ومتمردة بالسلطة  التي يمثلها الضابط الذي ربما يسرق الزوجة في تواطئ واضح, عبر جملة ترددها الزوجة  بعد عودتها للبيت بعد احد الليالي الباردة قائلة”” امطار بوهيمية هاه” مثلما رددها ضابط الكمين ايضا في وقت سابق!

 في قصة ( اختفاء رجل وحيد )  يرسم نفس العلاقة بين سجين وسجان داخل الاسوار المغلقة للمؤسسة العقابية علاقة تسحق الروح وتحيل شهود الواقعة  الي متورطين بالسكوت والعجز والقهر..

 في هذا القسم من المجموعة يرسم صور  شديدة الزخم بالعديد من المشاعر والانفعالات الانسانية, ارواح  ترزح في حيز ضيق تتوق للتحرر وتكسير وتخطي الحصارات المتعددة للسلطة  او المصير المحتوم هم الموت والجنون

في الجزء الاخير  من المجموعة, (حلول)   تبلغ الحرفية اقصي درجاتها في سرد  الكاتب في قصص بابل وحفل تنكري ومحاولات للخروج

في قصة بابل الطفل المعجزة, وهو الابن ايضا، هو ايكاروس الاسطورة الذي يختفي من الحضانة ليحل  في غياهب بابل  احدي المدن التاريخية ولا يعود.

 في قصة (حفل تنكري ) يلعب النص علي قصة موازية  لفيلم “دمي ودموعي وابتساماتي” لكن يرسم زكي نهاية مخاتلة، فالزوجة تقدم الزوج قربانا للمدير الثري وليس العكس, وفي (محاولات للخروج)تواجه دعاء الزوجة المدخنة وزملاؤها بالمكتب خوفهم من الزوج الغائب الذي يضرب زوجته لتدخينها يخاف ايضا الزميل الذي اهداها السيجارة, الجميع يقع داخل دائرة الخوف, والتي لا تنتهي الا بمواجهة  ثنائية السلطة الزوج  لتخرج دعاء من الباب المفتوح لآفاق ارحب في النهاية.

في  قصة (ميكي) ينهي مصطفي  مجموعته بقصة شديدة العذوبة والرقة عن فئة مهمشة المشاعر مجهولة المعاناة  شاب في اطار الظروف الاقتصادية الي العمل  في الترويج للمحال يرتدي عرائس ضخمة للشخصيات الكارتونية الشهيرة , بطل النص هنا الذي يصبح “ميكي”  فلا يستطيع ان يواجه نظرة المجتمع ولا قيم الام والاخوة والجيران الذي يعتبرون هذا النوع من العمل يحط من قدر صاحبه.  تنساب دموعه ويفر هاربا , يلتصق القناع بروح ووجه البطل فلا يستطيع الخلاص منه او ربما لا يستطيع الفرار من الحكم القيمي علي وظيفته.

يستخدم الكاتب تكنيك الحوار في الجزء الخير من المجموعة  بديلا عن الانفعالات الداخلية لدفع  عجلة الدراما في النص  للوصل الي ذروة الحدث  دون التخلي عن كل ما يربط دفتي المجموعة .

 

ريفيو:

تأكل الطير من رأسه ـ مجموعة قصصية

المؤلف ـ مصطفي زكي

الناشر ـ دار العين

 

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم