القراءة الفلسفية للذكاء الاصطناعي

القراءة الفلسفية للذكاء الاصطناعي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سيد الوكيل

بدءًا من (فرنكنشتاين) إلى (أوديسا الفضاء) تحمل أفلام الخيال العلمي نبوءة مفزعة لمستقبل البشرية. وفي كل تصوراتنا عن الذكاء الاصطناعي وصوره، يبدو الأمر أكثر تعقيدًا من وجهة النظر الفلسفية.

ففي الوقت الذي يعد فيه المستقبل بإمكانات مدهشة بين يدي الإنسان، فتتزايد رغبته في التقدم بخطى سريعة، نحو تنمية الذكاء الاصطناعي وتطويعها لحل مشاكل مؤرقة مثل: الاقتصاد، والمناخ، والصحة. نجد من يحذر من هيمنة (الأتمتة) على الحياة الإنسانية، التي سوف تفضي إلى (تشيؤ الإنسان) واستعباده لصالح الآلة. فضلاً مشكلات أخرى مؤكدة، تتعلق بتفشي البطالة، وتغيرات نوعية في طبيعة الحروب، تسمح للأكثر امتلاكًا للتكنولجيا، بانتصارات حاسمة ومدمرة. مثل هكذا تصورات عن المستقبل، تؤدي إلى انخفاض معنى الحياة، وتفشي الإحساس بالعدمية لدى الأجيال الجديدة.

غير أن أخطر هذه التصورات، يدخل -حتى الآن – في نطاق الخيال العلمي أكثر منه موضوعًا فلسفيًا. ومع ذلك، فمطورو الذكاء الاصطناعي لا يستبعدونه على الإطلاق. فماذا لو نجحت مجموعة من أنظمة الذكاء الاصطناعي من تطوير نفسها ذاتيًا، فاستقلت عن هيمنة صانعيها من البشر؟ وما المدى الذي يمكن أن يصل إليه هذا التطور الذاتي؟ هل هو محدود أم لا نهائي؟ ثم ماذا عن طبيعة الوجود الإنساني، ومعناه في حالات التشيؤ الإنساني؟

أسئلة في حد ذاتها مخيفة، ولكنها واجبة، بل ومنطقية بقياسات العقل البشري، فحركية (الدارات) الأليكترونية، أسرع ملايين المرات من (دارات) كيمياء المخ البشري. صحيح أن الحواسيب والربوتات، تُغَذَى حتى الآن ببرامج من صنع أدمغتنا، لكن طموح الإنسان لصنع حواسيب فائقة القدرة لا يتوقف. عندئذ، فإن فارق السرعة المذهل في حركية الدارات، سيعوق سيطرة البشر على الآلة. ومن ناحية أخرى، فإذا كان المخ البشري يحمل 300 مليون وحدة عمل مستقلة، تعمل فيما بينها على نحو متكامل، فإن برامج المحاكاة الأليكترونية، يمكنها أن تصنع مخًا مماثلا للمخ البشري من حيث طبيعة عمله، ولكنه سيكون متطورًا ملايين المرات بفضل فارق السرعات في حركية الدارات.

إن الحركية البطيئة لكمياء المخ البشري، مصممة لتناسب بيئته الطبيعية، وإمكانات جسده واحتياجاته لبقاء النوع مثل أي كائن آخر، كما أنها تناسب محيطه الثقافي والمعرفي، ومن ثم فهي تتطور بيولوجيا على نحو مناسب لهذه الإمكانات، حتى أن المخ البشري، لم يستخدم حتى الآن، سوى نسبة محدودة جدًا من إمكاناته، ربما يدخرها للمستقبل، ولكن على المستقبل ألا يأتي الآن، المستقبل هو المستقبل، فحتى طفرات التحول في التاريخ البيولوجي، كانت تحدث عبر ملايين السنين. لماذا علينا أن نعبث بإيقاع الزمن، الذي يحفظ إيقاع الوجود؟

ما سبق يشير إلى الجانب المعتم في العلاقة بين الإنسان والآلة. إن ما سوف تنتجه الآلة، لن يكون فوق قدرات البشر على استيعابه أو التحكم فيه وحسب، بل سيطيح بالإنسان إلى نكوصية تاريخية قد لا يخرج منها. أعنى أنه: سيكون الإنسان بالنسبة إلى الربوت، بمثابة حيوان بالنسبة للإنسان الآن. الربوت فائق القدرة وذكي، والإنسان كائن في الدرجة الثانية، لم يعد صالحًا إلا للسخرة، أو القنص، أو الترويض، وربما الأكل. هذا تصور مفزع، وفيه شطط، لهذا اسميته بالجانب المعتم، ومع ذلك فلا يمكن أن نمنع أنفسنا من التفكير فيه.

نحن لا نعرف، كم من القرون عاشها الإنسان قبل ابتكار الكتابة!! لكننا نعرف كم تسارعت المعرفة بعدها، ومن ثم فقد تطورت الحياة الإنسانية بنسب متضاعفة عما كانت عليه من قبل. والواقع، إن ما وصلنا إليه الآن من حضور فعال للذكاء الاصطناعي في حياتنا، هو حصاد عصور الكتابة، التي سمحت لنا على مدى آلاف السنين، بتوثيق المعرفة، وإمكانية حفظها ومراجعتها، ومن ثم البناء عليها، وتطويرها. هذه العملية التي تمر بمراحل متعددة وبطيئة، هي التي نسميها تاريخ العقل الفلسفي، وهي المرادف لتطور الحضارة الإنسانية، كونها من صنع الإنسان.

في الفكر الفلسفي، يمكن قياس المحتمل، على المؤكد في التجربة الإنسانية، أي أن نسبة المغامرة في التفكير البشري محدودة وآمنة. كما أن الفروقات والإمكانات بينها واضحة، ومحسومة، ومميزة لكل فرد مثل البصمة أو الأسلوب. مثلا: يمكننا أن نعرف إذا ما كانت هذه اللوحة منسوبة لـ (فان جوخ) فعلا أم مزيفة؟ فلكل فنان أسلوب مميز يدل عليه. لكن.. مع دقة برامج المحاكاة التي يتقنها الذكاء الاصطناعي، فإن الأصل والصورة يصبحان شيئًا واحدًا، وربما ستصبح الصورة هي الأصل. هذا تعبير مختصر عن أوديسا الذكاء الاصطناعي، التي سيواجهها الإنسان. ويحذر منها الفلاسفة، وهم يتكلمون عن نهاية الإنسانية.

طابعات الـ (3.d ) تمكنت مؤخرًا من صناعة قلب إنساني يعمل بكفاءة لا محدودة. لدى الكثيرين من البشر طموح لأن يغيروا قلوبهم بعد سن الأربعين ليملكوا قلوبًا شابة. المشكلة، أن طموح الإنسان للخلود، واستجابته لغرائزه، يجعلاه مستعدًا للتنازل عن فردانيته التي تميزه كذات إنسانية. الذات، الواقع، الأنا، الآخر، هذ مفردات أنتجها العقل الفلسفي، وهي الآن معرضة للانقراض.

الإنسان مستعد للتغاضي عن كل المخاطر التي يحملها له مستقبل الذكاء الاصطناعي، وهو يمضي بخطى أسرع من توقعاته. ففي خلال خمسين عامًا، قطع الذكاء الاصطناعي مرحلتين من التطور، بدأ من الواقع الافتراضي، إلى الواقع المعزز، وهو الآن يعمل جديًا ليصبح هو الواقع نفسه، دون الالتفات إلى ملايين البشر الذين يعيشون تحت خط الفقر، ويعانون المرض؟ لماذا لا ننتهي من مشكلات الإنسان أولاً، بدلا من الاهتمام بالآلة؟

في الحقيقة، هنا تتحطم آمال الفلاسفة المناهضين لتوحش التفكير العلمي. يجب أن نعترف بذلك: التفكير الفلسفي عبر تاريخه ومراحله لم ينجح في خلق اليوتوبيا التي طالما وعدنا بها، بل حتى لم ينقذنا من الفقر، والحروب المدمرة، فيما يعدنا الذكاء الاصطناعي بقدرته على التنبؤ بالزلازل والأعاصير، وحل مشاكل الغذاء والصحة والطاقة وغيرها، بل وسيجعل المستقبل الذي يبدو بعيدًا جدًا هنا والآن.

يضمن لنا الذكاء الاصطناعي أن يطور ربوتات فائقة القدرة لحل مشاكلنا، وسوف تشاركنا في مكاتب عملنا، وبيوتنا، ويمكنها أن تقوم بالجراحات الطبية، وقيادة السيارات بنسبة أمان عالية، وقد تتقن التسوق، وإعداد الطعام، وتربية أطفالنا، بل وتذكرنا بموعد تناول الدواء، كما يمكن أن تختار لنا-عبر حسابات دقيقة- شريكة حياتنا المناسبة.

يقول مطورو الذكاء الاصطناعي، أنه الأمل الوحيد، في جعل الأرض كلها يوتوبيا، أروع من تلك التي حلم بها الفلاسفة. فيما يقول الفلاسفة: لكن حضور الآلة في المستقبل سيزيح الإنسان جانبًا، بكل أسف.. إنها نهاية الإنسانية.

تاريخيًا، الإنسانية بدأت في التقلص فعلاً مع بداية الثورة الصناعية، وهي الآن تسرع الخطى نحو نهايتها، ما الذي علينا أن نفعله إذن، عندما يحل الذكاء الاصطناعي كل مشاكلنا؟ أو يحل الربوت مكان الأصدقاء وزملاء العمل ورفاق المدرسة وحراس العقارات..؟ هل علينا التفرغ لمراقبة ملايين الحواسيب وهي تصنع الحياة لنا دون أن نعرف كيف ولماذا؟

الواقع لن يكون واقعًا عندئذ. ستكون الحياة أقرب إلى فيلم نشاهده، وربما يكون لنا فيه دور محدود، لا يمكننا أن نتحكم فيه. هذا بالضبط ما أفزع (جيم كاري) في فيلم (ترومان شو) عندما اكتشف أن حياته كلها كانت مجرد فيلم، تديره مؤسسة لا يعرف عنها أي شيء، حتى أن زوجته، كانت مجرد ممثلة تقوم بدور زوجته. أي أن الواقع لا يقع فعلا.

يعترف المبرمجون، ومطورو النظم في الشركات الكبرى، بمأزق إنسان المستقبل. يقولون: بكل أسف، لقد انطلق القطار، ولا توجد كوابح. فثم تقنيين في كل أرجاء العالم، يمكنهم بإمكانات بسيطة، أن يتحولوا إلى مبرمجين، وربما يكونون أكثر جرأة وذكاءً منا، وهناك إمكانية أن يطوروا دوائر ألكترونية، تعمل في جميع المجالات، وتتواصل فيما بينها لحل المشكلات، تقوم على تحليل البيانات، والخروج بنتائج مبتكرة في كل مرة. وبهذا المعنى سيكون لدينا مجتمع متفاعل ذكائيًا، ولا مناص من التعامل معه. ومع ذلك فلدينا تصورات بديلة أكثر أمنا، لاتقوم على تحليل البيانات فحسب، واتخاذ قرارات عملية ودقيقة كتلك التي نحتاجها في البورصات، بل يمكنها أن تبدى شيئًا من ذكاء المشاعر التي يتمتع بها الإنسان وحده دون سائر المخلوقات.

يمكن مثلا زرع شريحة في رأس الإنسان، تمكنه من التفاعل مع أنظمة الذكاء المختلفة، ومع ذلك، يستطيع أن يتحكم فيها، بحيث تحفظ له آليات عمل المخ البشري عند الحاجة. وفي هذه الحالة، يظل الإنسان متمتعًا بذكاء المشاعر. لا بأس، فذكاء المشاعر هو الذي يكسب الحضارة إنسانيتها. هو الذي يجعلنا نبتسم في وجه طفل لا نعرفه، أو نرمي طوق نجاة لمهاجر غير شرعي يتعرض للغرق.

يمكن أن تصبح الحياة مثالية إذا شئنا. كما يمكن أن نجد طريقة لتحميل المخ البشري بكل عملياته على الحاسوب، وفي هذه الحالة، سيعمل الحاسوب وفق طريقة تفكيرنا، سلبًا وإيجابًا.

لكن معنى هذا أن الأشرار من البشر، سيملكون قدرات خارقة.. تمكنهم من مضاعفة شرهم لملايين المرات.. أي يوتوبيا يمكن أن تكون إذن؟؟

لم ينته الحوار بين الفلاسفة، ومطورو البرامج بعد، لكن الذكاء الاصطناعي، يفاجئنا في كل يوم بجديد، إنه يمضى بخطى مدهشة، تلجم أرواحنا وعقولنا، لهذا، فمن المتوقع، أننا سنمضى وراءه مغمضي الأعين.

مقالات من نفس القسم