الفضاء اللازمني للسلطة في (إسود وردي)

القارىء الضُراط
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أهم ما تذهب إليه (اسود وردي) بالنسبة لي هي الحدود القصوى للسلطة .. التخوم الغائمة تماماً التي يستحيل عندها إدراك معنى، أو تعيين سياق، أو تفسير ممارسة .. ملامسة النقطة الغامضة التي تتوقف فيها عن أن تكون شيئاً سوى نفسها، وهذا ما جعلني أعتبر (اسود وردي) لـ (مصطفى ذكري) مثالاً روائياً يتجسد في نظامه الخاص فكر (ميشيل فوكو):

(كريمة: هوه تنظيم كدة وش؟

مجدي: ممكن تقولي تنظيم ممكن تقولي

هيئة ممكن تقولي مؤسسة.. يعني

كريمة: يعني إيه

مجدي: يعني في أوامر مثلاً إنك تاخدي الشنطة وتسلميها لفلان الفلاني.. لكن إيه إللي يحصل لو ما عملتيش كدة.. هنا الغموض.. المسألة مش مسألة تهديد.. لكن الحقيقة إنه ما فيش حالات لعصيان أوامر في تاريخ التنظيم.. الأدهى من ده إن مُنظرِّين كتير من أتباع التنظيم سدوا الثغرة ديه.. وقالوا إن التنظيم أو الهيئة أو المؤسسة حطت في اعتبارها من البداية احتمال العصيان أو الخطأ وسابت هامش كبير من الفشل في كل عملية بتقوم بيها).

الحدود القصوى تختفي عندها المسميات باعتبارها أبواباً مغلقة على مجالات ضيقة من المعرفة والقوة .. تتجلى السلطة إذن في شكل فراغ مفتوح على ما يبدو كنقائض بحيث يعمل العصيان أو الفشل كترتيب بديهي تتحقق من خلاله الهيمنة .. لا يُقصد بالهيمنة هنا السلوك المنضبط بقدر ما تُبرهن عليه الأسس الذهنية المحكومة، والدوافع الشعورية التي تجعل الخطأ في حقيقته امتثالاً وطاعة.

(مجدي: أنا قولت لك يا ريس.. قولت المسموح بيه

الرجل العجوز: وإيه المشكلة إنها تقول إللي إنت قولت هولها.. إللي هوه مسموح بيه.. إلا إذا كنت شاكك إنها تعرف حاجة تانية أو مثلاً إنها بتراقبك.. أنا شخصياً مش خايف من الحالة الأولى.. عشان إنت نفسك ما تعرفش حاجة تانية.. أمَّا الحالة التانية إنها فعلاً تكون بتراقبك وده حتى ما يمثلش خطر كبير.. إنت عارف إن من حقها أدام قامتْ بمهمتها من غير مُخالفة للتعليمات.. إنها تشك زيك تمام.. طبعاً إنت اشتغلت معانا أكتر.. بس إللي ما تعرفوش.. وبرضه

في حاجات كتيرة ما تعرفهاش عن التنظيم.. مش تقصير منَّك.. بس عشان الحاجات ديه بتيجي من الصدفة والتعامل.. إللي ما تعرفوش يا أستاذ مجدي إن أي حد بيشتغل معانا ومن المرة الأولى يقدر يشك ويراقب ويفرض وصايته كإنه مَلَكي أكتر من الملك.. يعني كريمة الشوربجي بعملها في التنظيم مرة واحدة.. وممكن تكون الأخيرة.. ليها الحق إنها تنقل كلامك باستهتار طالما إنت أكدت لي إنك ما قولتهاش إلا المسموح بيه).

السلطة عند تخومها الغائمة تماماً غير معنية بإثبات وجودها، ولا بالكشف عن مهامها، ولا بالدفاع عن أحكامها أو نتائج أحكامها، كما أنها تتحدث عن نفسها كطبيعة لا يمكن تهديدها .. كل تهديد ينطلق منها ويعود إليها لذا فهو ليس تهديداً وإنما ابتكار تلقائي ومتجدد، غير محسوب لآليات عملها .. أنت مُعد ومُدرّب وفقاً للتراكم المعرفي لممارسة قوة التنظيم .. الهيئة .. المؤسسة .. الدولة .. ما ليس له إسم .. تمارسها على غيرك مثلما تمارسها على نفسك.

(زاهر: متهيألي طريقتك في التعامل مع القضية هوه إللي خلاها غريبة ومشهورة..

قطة: إزاي ؟

زاهر: يعني مثلاً مُحاولات بحثك عن جهة عليا بشكل عشوائي.. ده ضر كتير بقضيتك.. الجهات العليا مش المفروض إن المتهم يقف قدَّامها.. في دولاب بيروقراطي..

محاكم.. محامين.. مستشارين.. إنت نطيت كل ده.. الجهات العليا معنية بس بإصدار الأوامر..

خلق المهمة والتكليف.. المتابعة حاجة تانية وليها أجهزة خاصة منفصلة تماماً عن الجهات العليا

حفظي: يعني في أمل

يبتسم زاهر المحامي لقول صديقه الأستاذ حفظي عبد الدايم ابتسامة تتهم الصديق بالسذاجة فيقول له بتفضل مَنْ يشرح شيئاً عويصاً لكنه يريد تبسيطه إلى أقصى درجة.

زاهر: طبعاً.. أنا ها اهتم بالقضية عشان بتمثل لي تحدي مِهَني.. لكن بالنسبة للأمل.. عاوز أقول لك يا صاحبي قضايا من النوع ده.. طالما إن ابن أختك مشي في طريق الجهات

العليا.. بيبقى صعب على المحامي إنه يلغي الطريق ده.. المشكلة إن طريق الجهات العليا بتتحول فيه القضايا من قضايا دفاع عن المتهم إلى قضايا اعتراف من المتهم قدَّام

الجهات العليا.. يعني دور المحامي بيبقى تحصيل حاصل.. المشكلة الأكبر إن الجهات العليا كتيرة والمهمات والأوامر كتيرة برضه.. يعني احتمال لو نجحت إنك تبقى بين إدين جهة عليا.. ممكن قوي تكون الجهة ديه مش هيه مصدر المهمة إللي إنت قصّرت فيها.. وفي الحالة ديه يفقد الاعتراف معناه

حفظي: إيه الفوضى ديه.. اسمح لي يا أستاذ زاهر.. معنى كده إن الجهات العليا ما فيش صلات بينها وبين بعض

زاهر: في طبعاً.. بس الحكاية بتاخد وقت على بال ما يتم التحري عن صاحب الاعتراف

والجهة العليا المعنية باعتراف قطة العدوي.. ولازم تعرف إن صيغة الاعتراف في حالة

ابن أختك.. ده لو فرضنا مع التشاؤم إنه وصل للجهة العليا الغلط.. بتتسجل بمنتهى الدقة..

عشان لمّا يوصل المتهم لجهة التكليف الصحيحة.. ممنوع عليه إنه يقول الاعتراف بنفس الكلمات.. يعني عليه إنه يخترع اعترافه بكلمات تانية.. وده طبعاً لحفظ ماء وجه الجهة العليا المنوطة بتكليف المتهم.. يعني من حقها إن كلمات الاعتراف يكون المتهم بينطقها للمرة الأولى قدَّامها).

السياق الذي لا يمكن تعيينه لا يأتي من الخارج بل من داخل المُعاقَب المُكلّف، الذي تُحرّكه السلطة ويُحرّكها .. حتى وهي تعلن عن أوامرها في صيّغ مقدسة من القوانين والقواعد والتعاريف؛ فهي في النهاية ليست واقعة وراء سياج يمكن القفز من وراءه بل تبدو في حالة سيولة تُعبّر كل جزئية منها عن مقام كلي ومطلق .. على هذا فالجزئيات تُسلم حكمة السلطة لبعضها طوال الوقت حتى ولو كان لكل منها دوره الخاص الذي لا ينبغي تجاوز حتميته.

رواية (اسود وردي) تؤمن بأنه لا أحد مستقل عن الآخر .. كل فرد يحكم ويُحاكم، يراقب ويُراقب، يعترف وينزع الاعترافات، يقتل ويُقتل؛ الأمر الذي يُذكرنا بتحليل (فوكو) لاعترافات (بيير رفيير)، ولعلاقة العائلة بالسلطة من خلال مناشدات أفراد من القرن الثامن عشر إلى السلطات الباريسية كي تعتقل زوجاتهم وأولادهم، وتودعهم السجن .. الكل يعمل في سبيل مهمة قد تكون كابوساً جماعياً مجهولاً، يجب أن يكون لازمنياً أيضاً، وخالياً من الأسرار.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم