العلامة السردية في قصص زكية العتيبي القصيرة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 83
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. مصطفى الضبع

ثلاث مجموعات قصصية قصيرة: “أنثى الغمام”، “رسائل متعثرة”، “هطول لا يجيء” للكاتبة والناقدة الأكاديمية زكية العتيبي ([1])، مجموعات تضم مائة وستا وأربعين نصا قصصيا (ليس الرقم دالا بقيمته العددية على مستوى العناوين، بقدر ما هو دال على اتساع مساحة السرد وتعدد جوانبها ومنعطفاتها وقواعد عملها، وقدرتها على أداء وظيفتها السردية بوصفها علامة على جمل سردية متعددة لها دلالتها على نظامها الفني)، وللتعدد وجوهه الموضوعية والتقنية الدالة، حيث رؤية العالم من زوايا متنوعة قادرة على الكشف عن خطاب النصوص في تشاركها إنتاج الدلالة، وفي قدرتها على تقديم عالمها جماليا وموضوعيا وسرديا.

على مستوى الشكل تنتظم المجموعات ثلاث تقنيات شكلية:

  • النصوص القصصية القصيرة جدا.
  • الرسائل.
  • القصص القصيرة تقليدية الطول.

والأشكال الثلاثة تستمد عصريتها من كونها تناسب طبيعة العصر القائم على السرعة، سرعة التلقي عبر الوسائط العصرية وسرعة الوصول، وسرعة الإنتاج، فالقصة القصيرة أو التغريدة أو البوست القصير عبر الفيس بوك أقرب لمتلقيه من نص طويل لم تعد طبيعة العصر قابلة لتعامل معه بسهولة، وإدراكا من الكاتبة لطبيعة اللحظة التاريخية، ولممارستها الكتابة عبر الوسيطين الأشهر من وسائط التواصل الاجتماعي: الفيس بوك – تويتر، وهو ما يمنحها خبرة التعامل مع نصوص العصر، وقدرة التشكيل الجمالي لهذه النصوص الجانحة إلى الطابع الشعري والمستمدة طبيعتها السردية من جينات الحكي الشهر زادي في تأصيله الحكي الأنثوي، وفي منحه كل عملية حكي عصرية بعض جيناته الوراثية.

تعتمد قراءة الأشكال السردية للكاتبة على المجموعات القصصية معتمدة ماتراه القراءة المثالية لنصوص كاتب واحد، تلك القائمة على قراءة المجموعات بوصفها مجموعة واحدة، مقرة ترتيبها الزمني بالقدر الذي يسمح للعلامة السردية أن تكشف عن تطورها، وأن تؤدي رسالتها وأن تحافظ على وجودها الجمالي عبر تفاصيلها، وعلاماتها، وطقوس إنتاجها جمالياتها.

القراءة بهذا المعنى بحث دائم عن مكونات الخطاب في كليته، ذلك الخطاب الذي يتشكل بدوره من مجموعة علامات يمكن للقراءة الواسعة الإحاطة بها عبر مشروع الكاتب ومكاشفة نموها وقدراتها وشبكة علاقاتها في النصوص على تعددها ” فكل خطاب يتضمن عددا من العلامات، وكل خطاب يتضمن قضايا تنطوي على دلالات، وكل خطاب يتشكل في الوعي في ضوء علاقات داخلية وخارجية، ومن ثمة فهو ذو طابع إحالي” ([2])، مما يجعل من القراءة عملية اكتناز للدلالات واستكشاف  لطرائق عملها، و تدشين لشبكة علاقاتها وصولا إلى جماليات النصوص وما تبوح به.

العلامة السردية

العلامة السردية وحدة بناء النص، هي تلك المفردة القائمة بالعمل السردي في تسلسلها وفي مساحة عملها من بداية النص إلى نهايته، ولا يتوقف دورها عند دخولها في نسق فاعل على مستوى النص الواحد وإنما يتعداه إلى تشكيل علاقات مع نظائرها في نصوص أخرى، فالعلامة داخل نطاق النص الواحد تقوم بعدد من الوظائف:

  • وظيفة في سياقها الضيق (على مستوى الجملة الواحدة، أو المشهد السردي الواحد)، في الغالب تؤدي العلامة دورها في نطاق الجملة النحوية، منتجة دلالتها بقدر ما يمنحها سياقها النحوي وموقعا الإعرابي، كأن تكون فاعلا: ” كانت تلهث جريا“([3]) في إسناد الفعل للذات اللاهثة (الأنثى)، أو مفعولا به:” حتى تتسلل حزمة ضوء؛ لتترك بقعتها على روحي كلما حضرت في الذاكرة ” ([4])، في إحالة الفعل إلى بقعة لها رمزيتها الدالة على آثار الأحداث في الروح، وتكاد هذه الوضعية(وضعية المفعول به) تكون الوضعية الأكثر تداولا في النصوص كشفا عن موقع الأنثى في مجتمع خارج النص تحيل إليه كل النصوص في تعبيرها عن واقع المشهد الاجتماعي الذي تستلهمه التجربة السردية في جانبها الأنثوي.
  • وظيفة على نطاقها الواسع (على مستوى النص الواحد)،حيث تجتمع مجموعة العناصر الموزعة في النص أو الأبرز فيه لإنتاج دلالتها كاشفة عن دورها في تشكيل النص وفق تصور يستهدف توجيه المتلقي إلى المناطق الدالة في النصوص بكاملها (كما نجد في مجموعة العلامات من مثل: الرجل – الأنثى – التفاصيل، وغيرها من علامات سردية).
  • وظيفة على نطاقها الأوسع (على مستوى نصوص متعددة )، وتعد مفردة الأنثى خير دليل على حركة العلامة السردية صعودا من السياق الضيق إلى الأوسع، وهو ما يجعل من النصوص نصا واحدا مترامي الأطراف، متسع لمجال حركة له حيويته في سياق نصوص الكاتب الواحد، وما تنجزه الكاتب بطريقتين متتاليتين لتوسيع عالمها المسرود، أولاهما: تعدد العلامات السردية وقدرة الساردة على شحنها بما يكتنز نظامها السردي الفاعل، وثانيتهما: قدرة هذه العلامات على توسيع أفق التلقي عبر التكرار والتعالق والربط بين العناصر المختلفة والسياقات المتعددة، والحوافز السردية، حيث العلامة تحقق وجودها عبر سياقها وعبر ارتباطها بنظائرها أو مخالفتها لهذه النظائر.

العلامة السردية تبدأ من مستوى المفردة اللغوية بوصفها علامة دالة وتصل إلى النص في كليته، أخذا في الاعتبار أن العلامة تؤدي وظيفتها عبر سياقات متعددة تكون فيها: مقصودة لذاتها أو للمعنى الذي وضعت له – تكون مقصودة لغيرها – متصدرة النص بوصفها عنوانا – آخذة موضعها في المبنى السردي (وصفا – سردا – حوارا). 

فإذا كانت الكتابة عالما من العلامات يبدو منغلقا حتى تقاربه القراءة الباحثة عن مفاتيحه عبر مجموعة العلامات، وكلما أمعن القارئ في تفاعله مع النص مخلصا في قراءته، تعددت المفاتيح، وانفتح قصد المؤلف (فكل قراءة داخلة في قصد المؤلف)، فالقراءة:” نظرة داخلية وتوسع لا نهاية له للوعي نفهم فيها شيئا فشيئا أجزاء من العلاقات اللانهائية التي يحتويها النتاج الأدبي “([5])، وفعل القراءة إن لم يكن قادرا على الكشف عن خصوصية الأداء فإنه يكون ضربا من السطحية الخانقة للنص.

تقارب القراءة مجموعة النصوص اعتمادا على مجموعة من العلامات السردية الأبرز في سياق تجربة الكاتبة السردية آخذة من العلامات القدر الذي تسمح به مساحة التناول وآليات الطرح.

إدارة التفاصيل

كل العلاقات بين الأشياء تتأسس على مجموعة من التفاصيل، فالعلاقة بين البشر، وبين الطبيعة وبين جميع الكائنات ماهي إلا مجموعة من التفاصيل المشكلة لهذه العلاقة، والمنظمة لها والضامنة لبقائها، والمنتجة دلالتها، مانحتها قيمتها الفنية ونظامها الجمالي، و حسب قدرة الكاتب على توزيع العلامات أو إدراجها في مواضعها الأنسب، أو حسن اختياره هذه التفاصيل، يمكن لكل ذلك أن يكون معيارا للحكم على فنية الكاتب أو جودة العمل، حيث تكون التفاصيل مادة خام ينحت منها الكاتب نصه، ومجموعة من الألوان التي يحسن التصرف في مواضعها وفق رؤيته الفنية، ولأن النصوص مساحة حياة للتفاصيل:

حب

كنا صغارا عندما حذرونا منه. شكوا. فتشوا. استرقوا السمع. وعندما كبرنا تعرف هو علينا. ترك كل شيء. واختبأ في قلوبنا “([6])، يجمع النص عددا من التفاصيل تفاصيل حركة: بين الصغير والكبر – التحذير، الشك، التفتيش، التنصت، وهي في جملتها تفاصيل سردية تجعل للنص منطقه في التعريف بما يستهدفه بدءا بالعتبة النصية الدالة (حب) حين يطرحه النص نكرة دالة على الشمول والتنوع فلا يحدد نوعه بالتعاهد بين السارد والمتلقي بأنه الحب في معناه الضيق (حب الرجل للمرأة أو العكس )، حيث تراهن تفاصيل الإنشاء على توسيع المفهوم الذي يعمل المجتمع على تضييقه والتضييق عليه عبر محاولة طرده من القلوب أو التخويف منه لكنه في النهاية يخرج من دائرة التنكير المتعمدة إلى دائرة التعريف بنفسه حين يتعرف على القلوب ليستقر فيها منتجا مفارقته الخاصة التي يقوم عليها النص بالأساس، ومتمردا على السلطة الجمعية للكبار وقد مارسوها زمنا على الصغار.

إن النص السردي في مجمله ما هو إلا عملية إدارة التفاصيل، تفاصيل الإنشاء وتفاصيل السرد وتفاصيل إدارة المشهد السردي في كليته، تتعدد التفاصيل إلى ما لانهاية، ولا نملك إلا الوقوف على بعضها كشفا عن طريقة إدارتها.

الرجل.

 عبر نصوص الكاتبة يأخذ الرجل ثلاث وضعيات سردية أساسية (تتفرع عنها وضعيات أخرى فرعية): المسرود عنه، المسرود له، المسرود به:

  • المسرود عنه: بوصفه موضوعا للسرد، استثمارا لحضوره في النصوص (معظمها)، وحضوره في سياق النظام الإنساني خارج السرد، فهو الرجل، وهو الزوج، وهو الحبيب، وهو رمز القهر، وهو المنافس، وهو المحرك للقلب، الداعم، المحبط، إنه مزيج من الشخصيات المتناقضة حينا، المتآلفة حينا، الواهبة بعض الوقت، المانعة أو السالبة حينا آخر، تنويع متعدد تطرحه النصوص لا يستعصي على التأليف ولا يصعب على الإدراك، ولا يغمض عن الفهم، يمكنك متابعته من خلال الضمائر المختلفة التي تحيل إلى الرجل بشكل مباشر أو غير مباشر، كما يمكنك أن تراه في النصوص المروية بضمير المتكلم في كشفها عن الأنثى الساردة، والرجل هنا يأخذ وضعيتين:
  • داخل النص: حيث يكون الرجل مطروحا في النصوص المروية بضمير الغائب عن الرجل وهل علامة تتكرر اثنتين وستين مرة: منها (ثماني عشرة مرة في المجموعة الأولى): فيض – احتراف – عابرات – ميلاد الألم – مثالية – جبن – أحاديث الصمت – للكلمات أرواح – الفشل قبل التجربة الأولى – تفاصيل صغيرة – بكاء الوجع – الغريب – أحياء – أطلال – نزاهة – وفاء – التمثال –  جزء من القلب مفقود، وعشر مرات في المجموعة الثانية: خيبة وحزن – مراوغة – دنجوان – دهسة – ذاكرة الآباء..ذاكرة خضراء – شهرة – تضخم – لصوص نت- غضب الرجال – تسول، و أربع وثلاثين مرة في المجموعة الثالثة: قلوب قريبة – قاطف الأرواح – حاسة سادسة – كوب الشاي – سعادات عابرة – جهد مهدر – جريمة ناعمة – عداء – تقية – قصاص – قدر- وحدة – ضحايا – مبكى – مشاكسة – مأزوم – هجرة – فقاعة – رضوض- تهميش – سخرية – حسرة – بريق – قبلة – كدر- سواد – غي – حرية – لاجئ- فرص عابرة -عبء- نقص- حاجز – ترويض، وفي كثير منها يكون الضمير مطروحا منذ الاستهلال السردي الأول في النص: ” سار إلى طموحاته بهدوء وسلام ” ([7]).
  • خارج النص: حين يذكر صراحة ضمن الخطاب السردي مخصوصا بصيغة تحيل تعريفا، وتأويلا، وهي صيغة تبدأ من العتبة الرابعة من عتبات المجموعة الأولى، عتبة الإهداء في إحالتها إلى الرجل خارج النص / داخل الحياة عبر النص على رجل له مواصفاته الخاصة:” إلى الرجل (السامي) الذي علم أنثاه معنى السمو، إلى الأنثى (السامية)..” ([8]) ثم تتكرر ثلاث مرات على مدار النصوص جميعها، في قصة ” رجل “: الرجل الحقيقي يأتي العنوان نكرة، يكتسب تعريفه ( أي يحصل على درجة من الترقي ) عبر هذه المقولة التي يأخذنا إليها استهلال السارد:” الرجل الحقيقي هو الذي يجعل من طيفه رجلا حين يغادر جسده، يقوم طيفه بمهامه على أكمل وجه” ([9])- وفي قصة ” براءة ” من المجموعة الثانية تتبلور فكرة الخبرة التي تستمدها الساردة من امرأة أخرى:” علمتني أن بعض الرجال الذين يحبون بصدق قد لا يحسنون الكلام المباشر، لكنهم يتقنون صب قوالبه في اهتمام ” ([10])، وفي قصة ” ارتباك”:” الرجل إذا أحب خان !، وإذا لم يحب خان!” ([11])

وهي نصوص تكون بمثابة النصوص / الرسائل المرسلة للرجل خارج النص كاشفة عن رؤية الأنثى له، رسائل تحملها الساردة بوصفها المتحدث الرسمي باسم النساء الممتلكات قدرة على تفسير شخصية الرجل أو صاحبات الخبرة في التعامل معه من خلال تجارب حصلت الأنثى بها خبرتها الإنسانية.

  • المسرود له: داخل النصوص حين تأخذ الساردة وضعية المخاطب للآخر/ الرجل المطروح عبر النص معبرا عنه بضمير المخاطب، يتكرر أربع مرات، ثلاث منها في المجموعة الأولى: رجل – حصار – انسلاخ، ومرة واحدة في المجموعة الثانية: الرسالة الأولى، وفي هذه الوضعية يكون الرجل معنيا بالخطاب بشكل مباشر، يتوجه إليه الضمير وتعنيه اللغة في صياغتها، ويتفرع منها وضعية غير مباشرة تجعل من النصوص جميعها خطابا موجها للرجل بوصفه متلقيا ضمنيا، وبوصفه نموذجا متلقيا للأمومة اعتمادا على أنثوية السرد، ومن زاوية انتماء النصوص للأنثى مما يجعلها مادة لها طابعها المؤثر في تنمية الوعي الإنساني، ذلك الوعي الذي يعد خصيصة من خصائص الخطاب الأدبي عامة والأنثوي خاصة (يمكن العودة إلى النسوية في جانبها النظري وإلى شهرزاد في جانبها الجيني بوصفها واحدة من أصول الخطاب السردي النسوي).

إن طريقة للقراءة تعتمد على الربط بين النصوص الثلاثة: رجل – حصار – انسلاخ، في تواليها الدال بوصفها (الرسالة الأولى) اعتمادا على الضمير الذي يمثل قاسما مشتركا ورابطا بين النصوص في رباعيتها حيث يكون كل منها ضلعا في مربع له قوة المربع السيميائي نفسه في صورة من صوره وفي تأويل من تأويلاته.

  • المسرود به: ويأخذ الرجل وضعيتين: الأولى: وضعية الرجل بوصفه تقنية تستخدم لإقامة النصوص سرديا وفنيا، حيث الرجل ليس موضوعا بقدر ماهو تقنية تتكشف من خلال اللغة والخطوط الفنية في تشكيلها للجمالي في النصوص، الساردة هنا تحكي (بالرجل) ولا تحكي (عن الرجل) وشتان بين حرفي الجر في دلالتهما على عمل السارد وطبيعة نصه، الثانية: وضعية ضمير المتكلم: حيث تمنحه الساردة فرصة التعبير عن نفسه معتمدة ضمير المتكلم مرة واحدة، في قصة ” الرسالة الثانية/ اعترافات متأخرة ” من المجموعة الثانية، وليس بعيدا عن التأويل ذلك العنوان الثاني (المفسر غالبا) ذلك الحامل معنى الاعتراف مقرا به ( على مستوى عناوين النصوص تكاد مفردة “الاعتراف” بوصفها علامة لغوية تنحصر في هذا العنوان دون غيره من العناوين )، وعلى مستوى النصوص جميعها تكاد العلامة تختفي من عالم الساردة، وقد استبدلته بمفردة “البوح” حين أدرجتها في واحد من النصوص المكتوبة بوعي الكاتبة لا بوعي الساردة، أعني إهداء المجموعة الثانية من نصوصها:” لكل الذين يؤمنون بأن البوح الحر، هو سجية الروح الحرة، لكل الذين ينأون عن تعليب الإبداع في القوالب الجاهزة ” ([12])، وهو ما يعني النص على علامتين ترتبطان تمام الارتباط: البوح – الإبداع، استنادا إلى فهم يقوم على رفض القوالب الجاهزة، والإيمان بالبوح الحر بوصفه رفضا لهذ القوالب، وهو معنى تتعدد دوائره متسعة بمعناه متجاوزا رفض القوالب الجاهزة في الإبداع إلى رفضها في كل مناحي الحياة الإنسانية.

وفي هذا الجانب تتضافر الوضعيات جميعها في تشكيل الصورة في حدها الأقرب، صورة الرجل بوصفه قاسما مشتركا في النصوص، وفي حدها الأبعد (عمقا) بوصفه شخصية يمكن رؤيتها بشكل محايد شريطة تخليصها من هذه العلاقة القائمة بين نوعي البشرية (الذكر والأنثى)، ولأن هذا ليس متحققا على مستوى النصوص كما هو على مستوى الواقع خارجها فإن الصورة المحايدة تبدو مستحيلة التحقق، إذ ليس هناك نص يحقق ذلك وإن ادعى.

الأنوثة

مبكرا تفرض الأنوثة نفسها، منذ المجموعة الأولى، بالأدق منذ العتبة النصية الأولى في القصة الأولى من المجموعة الأولى،” أنثى الغمام” غير أن العلامة تتجاوز لغويتها إنتاجا لمجموعة من الدلالات المطروحة عبر النص الأول الذي يأتي تعريفا وشرحا للعنوان:

“أنثى الغمام”

كانت تلهث جريا إلى مشارف التحنيط دون علمها!

خرجت من مهب التقليدية تتراكض معها أنوثة عذرية تشيد من حطام الذاكرة عالما لن تطأه قدماها!

 ناضلت كالأخريات، إلا أن نضالها انتهى بانهيار تحت أنقاض العرف!” ([13])

بين عنوان المجموعة وعنوان القصة الأولى فيها يعبر المتلقي على نص متكرر، يؤكد نفسه بالتكرار أولا، وبالمعنى القائم في النص الأول ثانيا، ومثلما هو عالم الساردة المطروح في بكارته، يطرح النص العلامة الأولى في عذريتها تأكيدا على البكارة بمعناها المجاز ي في الحالتين، العتبة في تصدرها المجموعة تفرض سلطة دلالتها على عالم النصوص بكامله، وفي تصدرها للقصة الأولى.

سرديا يتشكل النص من ثلاث فواصل، يستهل كل منها بفعل:

  • كانت تلهث جريا (الفعل الماضي الناقص كونه يدل على تأصل الحدث / اللهاث إلى مشارف التحنيط دون سابق معرفة أو دون معرفة مساندة يكون لها دور الواقي من الوقوع في التحنيط بكل ماتمثله العلامة من دلالة)
  • خرجت من مهب التقليدية – تتراكض – تشيد (العذرية)– لن تطأه.
  • ناضلت كالأخريات – انتهى نضالها، ولا يفوتنا المساحة الزمنية (القصيرة) الفاصلة بين النضال وانتهائه.

دلاليا يأتي النص اختزالا لتجربة الأنثى في مجتمع يصر على الحياة بين مشارف التحنيط ومهب التقليدية، الأنوثة بمعناها الثقافة، بكونها ثقافة متجذرة في عقل المجتمع العربي تتسع مساحتها في بقعة وتضيق في أخرى، تظل مختفية في عقل المجتمع زمنا وتعلن عن نفسها في أبسط المواقف كاشفة عن ثقافة المجتمع في رؤيته للأنثى، والنصوص تضعنا إزاء هذه الرؤية من منظور المرأة حين تجتهد في الخروج من مهب التقليدية، محاولة استثمار الحطام، حطام الثقافة المتأصلة في الذاكرة مما يعني أنها ليست قانون حياة بقدر ماهي بقايا الماضي الذي كانت له ظروفه ومواضعاته، وكانت له ثقافته التي يجب ألا ننسخها لنفرضها على الحاضر بما يتسم به من سمات العصرية والانفتاح على العالم دون التخلي عن منظومة القيم الإنسانية النبيلة، وفي مقدمتها النضال نحو التغيير والطموح للتخلص من الجمود الذي يضع الإنسان في قالب واحد يكون بمثابة القيد على تطلعاته وأحلامه، ولكن قيمة النضال تنتهي تحت وطأة العرف لتبدأ المحاولة السيزيفية ([14]) من جديد متكررة مع حركة الزمن ومع كل محاولة للخروج من الدائرة (الواقعة أيضا تعني كل محاولة لإعمال العقل أو تجاوز الأعراف السائدة حتى ولو كانت غير عصرية أو غير منطقية ).

سلطة العتبة الأولى لا تتوقف عند المجموعة الأولى وما تتضمنها من نصوص تشكل العالم، وإنما تؤسس لدلالة ممتدة توجه المتلقي إلى دال سردي يتشكل من ثلاث عتبات متتالية زمنيا، ترتبط متماسكة نصيا:

أنثى الغمام (تكتب) رسائل متعثرة (من أجل) هطول لا يجيء

دون أن نفرض فعل الكتابة أو دون أن نبين السببية لها أو لنتائجها يمكن قراءة العتبات مجتمعة (تأكيدا للقراءة المثالية في مقاربتها المجموعات كلها بوصفها مجموعة واحدة)، حيث القراءة نوع من الربط بين النصوص عبر عتباتها الكبرى (عناوين المجموعات) مع احتفاظها بحق الترابط عبر العتبات الصغرى، أو الوقائع والأحداث والخيوط السردية داخل النصوص نفسها، ويمكننا مكاشفة ذلك أو الوقوف عليه عبر سمات أسلوبية تتأسس عليها الدلالة، منها:

  • تتجانس العتبات في بنائها (التشابه في التركيب والتشابه في نوع العلامة)، فكل عتبة مكونة من علامتين لغويتين: الأولى من مضاف +مضاف إليه، الثانية من الموصوف + الصفة، الثالثة من موصوف + جملة صفة
  • تتميز العتبة الأولى بالإضافة وبكونها الفاعل الدلالي المنتج للرسائل والمنتظر نتيجتها (الهطول) وبكونها العلامة المكتسبة خاصية المعرفة تخلصا من النكرة، وهو ما يعني محاولة الخروج من حالة التنكير التي تفرضها الأعراف الاجتماعية إلى حالة التعريف التي تعد نظاما للتحقق الاجتماعي.
  • خلو العتبات (خاصة الأولى والثانية) من الفعل، ويحل في الثالثة منفيا بأداة النفي في شموليته الماضي والحاضر.

تفرض العلامة وجودها عبر انتشارها بعناية بين نصوص المجموعات مع تنوع دال يمنح كل منها قوته الدلالية منفصلا، متصلا:

  • في المجموعة الأولى: الأنثى (ص20) – شراسة أنوثتها الطاغية (ص 44) -الأنثى الوحيدة التي أحبته (ص47).
  • في المجموعة الثانية: أنثى العاصفة (ص 19)- أنثى صباحية (ص 48)- أنثى مرئية (ص 81).
  • في المجموعة الثالثة: أنثى استثنائية (ص 22) – يتعرف على كل أنثى (ص 33)- أنوثتها طاغية(ص35) – أنثى رقيقة (ص72).

بشكل متوازن تقريبا (ثلاث مرات في كل مرة، وأربع مرات في المجموعة الثالثة) تتكرر العلامة اللغوية، تتميز خلالها صيغتان متشابهتان تماما عبر سبيكة المضاف والمضاف إليه (أنثى الغمام – أنثى العاصفة)، في دلالتها على النوع أولا وفي تقاربها عبر الدالين (الغمام- العاصفة) طرحا لعدد من الدلالات السلبية: الغموض – الاضطراب، والإيجابية: النعومة والوعد بالخير – القوة، ثانيا.

بشكل خاص تطرح العلامة دلالتها كاشفة عن معانيها عبر مفردة ثانية (تتزاوج معها ) بالإضافة مرة وبالصفة مرة ثانية، تأكيدا لحقيقة أن الأنوثة لا تتفجر منفردة، وأنها لا تعطي معناها المتعدد حال انفرادها، وهو معنى وجودي يتأكد عبر النصوص في خطابها للآخر أو في اشتباكها معه، وهو ما يؤكده سؤال كاشف: ماذا يحدث حال وجود الأنثى وحيدة ؟، إن خللا وجوديا تطرحه النصوص حين تصور الأنثى في هذه الوضعية ( راجع النصف الأول من نصوص المجموعة الثانية، مجموعة الرسائل تحديدا). 

التفاصيل

تصدر الكاتبة مجموعتها الثالثة بنص مكثف، دال، سردي، شعري:

حتى التفاصيل المهمشة، يسعدها أن تعبرها بقعة ضوء ” ([15])

يكتسب النص كثافته تكوينه الموجز على مستوى البناء النحوي (تركيبان يرتبطان بعلاقة نحوية) ويكتسب سرديته كونه حدثا مسندا إلى فاعل دلالي، ولكونه يحقق علاقته بالنصوص جميعها من زاويتين: تصدره النصوص أولا، وارتباطه معها عبر تحقق العلامة اللغوية (التفاصيل) لوجودها في تسعة نصوص من مجموع تكرارات اثنتي عشرة مرة في نصوص الكاتبة جميعها، ويكتسب شعريته من صيغته المجازية القائمة على الاستعارة، مما يمنح العلامة طاقة مضاعفة لتكون واحدا من مفاتيح قراءة نصوص الكاتبة.

التفاصيل المهمشة، الهامش خارج النص متن داخله، والتهميش رؤية تفرض على الأشياء موقعها في الهامش، ولكن كل هامش قد يكون متنا عندك والعكس صحيح

“التفاصيل ” واحدة من مفاتيح قراءة عالم زكية العتيبي، غير أنها تفرض وجودها عبر صيغتين:

  • الصيغة المباشرة (المعجمية): تتجلى عبر مفردة ” التفاصيل” التي تتكرر بعد تصدرها في النص السابق (11) إحدى عشرة مرة في النصوص جميعها:
  • تفاصيل صغيرة ” ([16])
  • ” أعرف كيف أذيب تفاصيلي في كل الأقدار التي تعاندني ” ([17])
  • ” أحب تفاصيلك العارية ” ([18])
  • التفاصيل التي تضخ نفسها في ذاكرتي، تحيلني إلى سجن مأهول بك” ([19])
  • ” كل التفاصيل لم تغب أبدا، وأشياء أخرى لن أخبرك عنها ” ([20])
  • ” مازلت أحيك التفاصيل كأنها ما غابت قط ” ([21]).
  • ” سأرسم لطفولتي بعض التفاصيل التي نسيت أمي أن تخبرني بها ” ([22]).
  • ” هل تعلمين أنه من جردني من كل تفاصيلي، و سكبني في تفاصيله؟!”([23])
  • ” حتى لا يتورط معها بتواريخ، تحيل التفاصيل إلى مناسبات تستحق الاحتفاء” ([24]).
  • ” يطفئ بعض أوجاعه، بمشاركتها لبعض تفاصيلها التي لا يعبأ لها أحد” ([25])
  • “اعتذر من كل التفاصيل التي لم تعد تعنيه، بعد أن كاشفها ” ([26])

تتنوع مواقع المفردة وسياقاتها محافظة على صيغة الجمع، وكونها تفكيك أولا وتأكيد ثانيا للمفردة المتصدرة العتبة النصية (التصدير) في بداية المجموعة، المفردة في وصفها بالتهميش نادر الدوران بمعناه المباشر في نصوص الكاتبة (ترد العلامة اللغوية بصيغتين: اسم المفعول ” المهمشة”، والمصدر ” تهميش ” عنوانا لواحد من نصوص المجموعة الثالثة ([27])، والندرة لا تعني مطلقا ضعف الدلالة بقدر ما تعني فرض الوجود والمشاركة في إنتاج الدلالة على الرغم من قلة العدد، إذ نحن لا نحتاج لمجموعة عطور لبث رائحة طيبة يمكن الشعور بها، عطر واحد يكفي لتحقيق المطلوب، والكاتبة تمنحنا القدرة عبر هذه العلامات على الشعور بالتهميش خارج العالم، عالمها خلافا لوجود الأشخاص والمعاني داخل العالم ممررة عبر النصوص لاكتشاف نظام الحياة كما تقدمها من وجهة نظرها، وكما تراها شخوص الحكايات، حيث يمكن لتتبع المفردة في استقلالها أولا وفي ترابطها مع نظائرها ثانيا أن يطرح مجموعة الوظائف المنتجة لدلالتها السردية (سنعود إلى ذلك لاحقا ).

  • غير المباشرة: تلك التي تبدو فيها التفاصيل دون أن تعبر عن نفسها صراحة، وإنما تعبر عن نفسها بصورة كنائية، تراها في كل النصوص الساردة للتفاصيل الصغيرة، وقد وضعت الساردة متلقيها مفهومها للتفاصيل حين عنونت واحدا من نصوصها ” تفاصيل صغيرة” فجاء العنوان محددا مفهومها للتفاصيل بطريقتين: طريقة الاتفاق: حيث التفاصيل تعني طرح مكونات السرد وحركات الخط الدرامي اللازمة لصناعة الحدث ” اختاره، وجعله ساعده الأيمن، لأنه يعرف جيدا إنه صاحب فكر خلاق رغم صغر سنه. استغل إبداعه حتى الرمق الأخير، وبعد أن امتص كل جهده الذي رفع من شأن تلك المؤسسة، أوسع سيرته ضربا في غيابه حتى بهتت!” ([28])، حيث النص يطرح تفاصيله السردية عبر مجموعة الأفعال المتوالية، كل فعل وملحقاته: اختاره – استغل – يعرف – امتص – أوسع – بهتت، ستة أفعال مسندة لفاعل واحد (متنوعة الأزمنة: ماض – مضارع دلالة على اتساع المساحة الزمنية لحدث الاستغلال)، والفعل الأخير (بهتت) مسند للسيرة الخاصة بالضحية المستغل (بالفتح)، تلك التي تبدو كأنها انهارت ذاتيا بتأثير الأفعال الخمسة السابقة، وكأن الفعل نتيجة حتمية وطبيعية لهذه الأفعال مما يجعل الجاني يبدو بريئا من جرمه إذ ظاهريا يبدو غير مسؤول عن الفعل.

طريقة الاختلاف، وتتجلى في المفارقة القائمة في معنى التفاصيل، وتحديدا في وصفها بالصغيرة كأنها لا تعني شيئا ذا بال، وهو معنى يتأسس على مرجعية في الثقافة العربية المتداولة حين تهون من قدر بعض الأمور خلافا لمقصدها الحقيقي (كأن يختلس أحدهم ملايين الدولارات فتجد من يقول مجرد فكة لوجبة عشاء)، وهي طريقة يمكن الاعتماد عليها في فهم المغزى إنتاجا لوجهة نظر مغايرة لطريقة الاتفاق دون إلزام باعتماد واحدة من الاثنتين.  ولك أن تأخذ وجهة النظر الفنية في طرحها لمفهوم التفاصيل، أو وجهة النظر الثقافية في طرحها للمفهوم نفسه بطريقتها الخاصة.   

التنمية الإنسانية

كل عملية سرد هي نوع من المقاومة، وكل مقاومة تنمية لقدراتنا (قدرات الكاتب بوصفه مقاوما الجمود بالفن والنسيان بالتدوين، والقبح بالجمال، وقدرات المتلقي حين يستمد كل ذلك ويضيف إليه من المعاني ما يهتدي به استكشافا لذاته وتغييرا لكيميائه، فكل نص لا يغير كيمياء متلقيه لا يعول عليه)، والمقاومة تباشر عملها وفق منظورين:

  • منظور عام، منظور الكتابة بشكل عام حين تحقق فعل تحقق المنتج والمتلقي، وهو ما يخص عملية الكتابة بشكل عام، الكتابة بوصفها نشاطا إنسانيا، يستهدف تخليد المفاهيم، وترسيخ القيم قبل تخليدها، فالقراءة عملية متجددة لا تتوقف وكل نص يبث قيمة فهو يعمد إلى إطلاقها لقارئ لم يأت بعد، وكل نص منشور هو تحرير له من قيود الزمن، زمن التلقي في مساحة زمنية بعينها، و كم هم مساكين أولئك الكتاب الذين يبحثون عن قارئ في عصرهم أو يعتقدون أن نجاحهم يتوقف على توفر أكبر عدد من القراء في عصرهم، فكل عمل إبداعي مؤجل المعنى دون تحديد لموعد القراءة الأوفى، فلم يأت من يقول الكلمة الأخيرة في أي نص بعد لذا تظل الكتابة عملية تحريض دائم على الاكتشاف، تحريض مادامت هناك قسامة للعلاقة بين المرسل والمستقبل على أرضية من النص.
  • منظور خاص، هو منظور المرأة الساردة، ذلك الذي يتبلور في مظهرن متتاليين، أولهما: ذلك المظهر الممتد من الساردة الأولى، شهرزاد، بوصفها المرأة الأذكى، والساردة الطبيبة، والمقاومة الأولى في تاريخ معرفة الإنسان السرد وتوظيفه، شهرزاد حواء السرد وكما أن جينات حواء وصفاتها تسري في دماء كل بنات جنسها، فإن كل ساردة جديدة تنتمي جيناتها إلى الساردة الأم، وفق هذا المنظور يعمل السرد على تنمية الوعي الإنساني بفعل المقاومة، وكل مقاومة تتطلب تنمية العوامل القادرة على المقاومة، قوة الوعي وقوة الروح وقوة النفس فالمقاومة ليست يأسا وليست نوعا منه، والمقاوم يمتلك من عوامل القوة أكثر مما يمتلك من عوامل الضعف، وثانيهما: عصري يخص شجاعة الإبداع في زمن تفسد فيه عملية التلقي حين نجد نقادا يربطون بين شخصيات النص وشخصية المؤلف بوصفه مرجعية للشخصية، وبوصف الشخصيات صورة للمؤلف مما يقيد حرية الإبداع بدرجة ما وخاصة عند الكاتبة بوصفها فردا يعيش في ثقافة متحفظة تغطي مساحة الوطن العربي بكامله ([29])، وهو ما يجعل المرأة الكاتبة في حالة مقاومة دائمة لليأس من وضع المتلقي الأمور في نصابها الصحيح متحلية بشجاعة الإبداع:” الشجاعة ليست غياب اليأس وإنما هي بالأحرى، القدرة على التحرك قدما على الرغم من اليأس”([30])، وهو ما يعني بالضرورة حاجة المرأة الدائمة لتنمية ذاتها حتى يكون لديها القدرة على تنمية الآخرين أو تنمية المجتمع عبر الآخرين، تلك التنمية متعددة المظاهر، متوالية النتائج، متداخلة الطروح عبر نتاج الكاتبة:
  • تنمية وعي الرجل خاصة: حين يكون السرد قادرا على تقديم تفاصيل العلاقة أو ما يتجلى منها للوعي، وحين يكون السرد نوعا من تحليل الذات الإنسانية، فإن نتيجة حتمية تتحقق ويكون على الرجل وقد كان مادة للتحليل بوعي الشريك المثالي (المرأة ممتلكة وعي الكتابة على اتساعه، والممتلكة رؤية موضوعية على قيمتها)، يكون عليه الإنصات لصوت الشريك عبر النص، ووعي النص عبر المتحدث الرسمي باسم الشريك.

إن تعبيرا من مثل ” الرجل الحقيقي” يتكرر مرتين بالطريقة نفسها (صفة وموصوف) لم يكن تكراره مجانيا أو من قبيل المصادفة على مستوى النصوص، فالصفة في تلازمها للموصوف تدل على استمرار التلازم ودوامه فالصفة ليست حالة عارضة ([31])، وهي تعبر عن طموح الأنثى لما تحلم أن ترى عليه الرجل، لذا جاء الطموح متجاوزا المجاز إلى الأسطورة: الرجل الحقيقي هو الذي يجعل من طيفه رجلا حين يغادر جسده، يقوم طيفه بمهامه على أكمل وجه”([32])، وهي رؤية تتدرج مما هو واقعي إلى ما هو مجازي تعبيرا عن رؤية تتجاوز مجرد الواقع إلى عمق رؤية الذات في طموحها لتنمية.

  • تنمية وعي الأنثى: تطرح النصوص تجربتها، ولأن التجربة خبرة والخبرة أمانة، فإن الساردة تؤدي واجب حمل الأمانة عبر شفرة النص الأنثوية، تلك الشفرة التي تقدم نفسها عبر الوسيط السردي، عبر نص الحكاية بوصفه الأقرب لطبيعة الأنثى إنتاجا والأقرب لطبيعة النفس الإنسانية فنا.
  • تنمية وعي المتلقي (بث القيمة الإنسانية): وراء كل موضوع مكتوب، قيمة وراء جمالية، يدركها المتلقي وفق قدراته على الاستكشاف، النصوص حين تبث قيمتها تراهن على وعي المتلقي الممتلك قدرا من الوعي بالقيمة الإنسانية،، وفي مقدمتها الحب بوصفه قيمة تتبناها الساردة مؤمنة بها وبوجهة نظر من يؤمن بها ” الحب اهتمام، وأن “الحروف تموت حين تقال “، علمتني أن بعض الرجال الذين يحبون بصدق قد لا يحسنون الكلام المباشر، لكنهم يتقنون صب قوالبه في اهتمام، في قصيدة خالدة، تفصلها على مقاسي في قلبك” ([33])، التناص مع نزار قباني يحمل تأكيدا لاعتناق الساردة لوجهة نظر الآخرين وهو نوع من المودة أو التصالح مع الآخرين عبر أفكارهم، يغذي قيمة الحب ويعلي من شأنها، ويجعل منها نموذجا عمليا يليق بنا الاقتداء به، والأخذ بما يحث عليه وما يمثله من قيمة إنسانية، والنصوص تتعامل مع الحب بمعنييه الأساسيين، المتداولين في دائرتين تتداخلان وتتماسان وتتعايشان: الدائرة الأضيق، دائرة الحب بوصفه علاقة بين رجل وامرأة، دائرة الحب بوصفه علاقة بالحياة والعالم والقيم، الدائرة الأولى تفضي إلى الثانية وليس العكس، لذا تتجلى الدائرة الأولى بصورة تتواتر حتى تصبح قانونا للحياة الإنسانية، رافعا من شأن المرأة بوصفها نموذجا للتسامح، وبوصفها مساحة لتراكم المشاعر وتداخلها وطغيانها:” أحار ؛ كيف أحرر حبي لك من غضبي عليك ! وانا التي لا تعرف كيف تفصل بين هذين الشعورين إلا بعد أن تفجر سخطها في وجهك، ومهما كانت ردة فعلك أسامحك وأندم، وربما أعتذر أيضا!” ([34])، إن تحرير السرد في صيغة الرسائل يبعد النص عن السرد بوصفه خيالا إلى السرد بوصفه رسالة لها جانبها من الواقعي، فالرسالة تستهدف مرسلا إليه بصورة مباشرة خلافا للنص الذي يعتمد مفهوم الرسالة بصورة مقنّعة، حيث السرد يصبح قناعا للرسالة المفصحة عن نفسها فور اكتشاف أسلوب الرسالة ونظامها السردي، وبين عنوان النص (الرسالة…) بوصفها جملة موجهة، تحمل مضمونها معبرة عنه بقوة التوجيه من الأنثى للرجل، وهي رسائل موجهة من طرف واحد تعبر عن القول بوصفه توثيقا لفعل الاثنين: الرجل بفعله الخفي غير الظاهر، والأنثى بفعلها الظاهر بفعل الكتابة، الكتابة في شفافيتها وكشفها عن الأنثى.

……………

هوامش وإحالات

[1] – قاصة وناقدة سعودية وأستاذة جامعية، صدر لها ثلاث مجموعات قصصية وثلاثة مؤلفات علمية:

– أحوال الكلمة في الجملة من خلال السياق القرآني، سورة التوبة نموذجا – مكتبة الطليعة العلمية – عمان 2014.

– الأسرار البلاغية في سورة التوبة – نادي حائل الأدبي – حائل 2015.

أوراق نقدية، مجموعة من الأبحاث السردية والشعرية في البلاغة والنقد الأدبي – نادي الأحساء الأدبي – الأحساء 2016.

[2] – د. عبد الفتاح أحمد يوسف: العلامات والأشياء، كيف نعيد اكتشاف العالم في الخطاب ؟!– ابن النديم للنشر والتوزيع – الجزائر، دار الروافد الثقافية – ناشرون – بيروت 2016، ص 49.

[3] – أنثى الغمام ص 7.

[4] – رسائل متعثرة ص 27.

[5] – وليم راي: المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية – ترجمة: يوئيل يوسف عزيز – دار المأمون للترجمة والنشر – بغداد 1987، ص 30.

[6] – رسائل متعثرة ص 87.

[7] – زكية العتيبي: هطول لا يجيء – تشكيل للنشر والتوزيع – الرياض 2016، ص ص8.

[8] – زكية العتيبي: أنثى الغمام – دار المفردات للنشر والتوزيع – الرياض 2013، ص 5.

[9] – أنثى الغمام ص 13.

[10] – رسائل متعثرة ص 42.

[11] – رسائل متعثرة ص 64.

[12]–  رسائل متعثرة ص 5.

[13] – أنثى الغمام ص 7.

[14]-سيزيف أو سيسيفوس الماكر في الميثولوجيا الإغريقية، غضبت عليه الآلهة زيوس، فعاقبته بأن يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا وصل القمة تدحرجت إلى الوادي، فيعود إلى رفعها إلى القمة، ويظل هكذا حتى الأبد، فأصبح رمز العذاب الأبدي.

انظر:

  • أمين سلامة: معجم الأعلام في الأساطير اليونانية والرومانية – مؤسسة العروبة للطباعة والنشر – القاهرة، ط2، 1988ص 228.

– ألبير كامو: أسطورة سيزيف – ترجمة: أنيس زكي حسن – منشورات دار مكتبة الحياة – بيروت 1983.

[15] – هطول لا يجيء ص 5.

[16] –  أنثى الغمام، ص 27.

[17] – زكية العتيبي: رسائل متعثرة – دار غراب للنشر والتوزيع – القاهرة 2015، ص 13.

[18] – رسائل متعثرة ص 17.

[19] – رسائل متعثرة ص 21.

[20] – رسائل متعثرة ص 26.

[21] – رسائل متعثرة 34.

[22] – رسائل متعثرة 54.

[23] – رسائل متعثرة ص 61.

[24] – رسائل متعثرة ص 85.

[25] –  هطول لا يجيء، ص 16.

[26] – هطول لا يجئ ص 66.

[27] – هطول لا يجئ ص 45.

[28] – أنثى الغمام ص 27.

[29] – ليس هناك فارق بين بلد عربي وآخر فمازال هناك نقاد (ناهيك عن القراء العاديين) يفسرون النصوص ربطا بين المؤلف والنص رافضين – بتعسف مبالغ فيه – مقولة ” موت المؤلف “، ومضييقين مساحة حركة المؤلف، وخانقين مجال التأويل في النص.

[30] – روللو ماي: شجاعة الإبداع – ترجمة: فؤاد كامل – دار سعاد الصباح – الكويت 1992، ص 14.

[31] – مقارنة بالحال فإن الصفة تعبر عن معنى التلازم، فالحال مؤقت يرتبط بوقت وقوع الحدث (الحال هيئة الفاعل أو المفعول وقت حدوث الفعل).

[32] – أنثى الغمام ص 13.

[33] – رسائل متعثرة ص 42.

[34] – رسائل متعثرة ص 22.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
ترقينات نقدية
د. مصطفى الضبع

تناغم (22)