العشيقان

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

الأصيل، الجو جميل ودافئ.

يقف في البالكون، شرفة أنيقة تشرف على واحات النخيل الممتدة حتى حدود الأفق، يشعل سيجارته، ينفث دخانها بكثير من المتعة، وينظر لفنجان القهوة الكبير، يتأمله، وكأنما يقرأه، يرشف منه رشفات خفيفة، وبين الحين والآخر يلقي نظرة على الأفق.

كانت القهوة السوداء المسكرة وسيجارة المساء إحدى العلامات المشرقة في حياة الغربة القاسية، كانت له طريقته في انتظارها كل مساء، يترك الباب مواربا، نصف مفتوح، نصف مغلق، فعل ذلك لسنوات، بالنسبة له، الجمال في هذه المدينة عملة نادرة، أغلب النساء هنا لم يكن أبدا موضوع إغراء أو غواية.

وحدها (فاطمة) كانت جميلة، جميلة جدا، جذابة وآسرة.
يتساءل، أكان يتحمل حجم هذا الاغتراب بدونها؟
يبتسم، يشعر نحوها بكثير من الامتنان.

ينتابه شعور غريب، شيء يشبه الندم ورثاء الذات، تصرف أحيانا بجبن، أحيانا بقسوة، أحيانا بوضاعة وأنانية تخدش الصورة المثالية التي كونها عن نفسه لسنوات، ثم في نوع من العزاء، يعتبر أن الأخطاء جزء من الحياة، الأمر يعود في نظره لغياب النضج وقلة التجربة والخبرة بالناس والحياة…

يفكر بصمت، المهم ليس الأخطاء ولا الخطايا، المهم هو الاعتراف، والاعتذار، والقدرة على الغفران.
تنمحي ابتسامته، يخاطب نفسه بصوت مسموع.

– إنها أخطاء الطفولة ونزق الشباب….
ثم يستعيد هدوئه، يشعر بنوع من الرضا عن الذات، فقد كان دائما شهما، جنتلمان بطريقته الخاصة.

يعود الماضي فجأة مثل نهر جارف، تهجم عليه الذكريات، ينخرط في نوستالجيا قوية، تتلاحق الصور.


طفل صغير يقف على كرسي خشبي، يده على مفتاح (البوطاغاز) وعينه تحرس إبريق القهوة، تصعد القهوة، ترتفع زوبعتها، يتصاعد عبقها، يملأ عليه كيانه…
ينتبه لفنجانه، يرشف رشفة خفيفة، ثم يعود للصور.


طفل وسيم، امرأة جميلة، تمنحه حلوى، تداعب شعره الأشقر، تنظر في عينيه، تشتهيه، تقبله، تمتص شفتيه، تغمض عينيها للحظات، تغيب، يستشعر هو أنفاسها المحمومة، تتنفس الصعداء، تعود إلى نفسها، تضع مجلات الموضة أمامه، تفتح واحدة، تشير لأجساد النساء العارية وتقول:
– شوف… أهن أجمل أم أنا؟!


زوجان يخرجان من غرفتهما، يمشي الرجل مزهوا، يتمايل…تقف المرأة على بعد خطوات، تنظر إليه غاضبة، تخاطبه بصوت حاسم:

– لن أسمح لك بفعل ذلك ثانية…لقد بهدلتني!!
فهم فيما بعد –ربما بعد سنوات– أنه تخلى عنها في منتصف الطريق وتركها عطشى!!


جلسة حريمية ذات أصيل، يمسك الطفل الصينية، يوزع كؤوس الشاي على النساء، تصطدم أنامل إحداهن بشيئه الصغير منتصبا وقاسيا، يشعر بالحرج، تفضحه، يضحكن، تنبري أمه، تدافع عنه.
– حشومة، دعكن منه…إنه لا يتحمل جرأتكن!!


تلميذة وسيمة، وجهها طفولي أسمر، مرسوم بعناية، تمشي منتشية بكبرياء، تكاد تطير، تتطاير ضفائرها المجدولة، تعبث الريح بتنورتها الملونة، تخرج ورقة مطوية من محفظتها، تتحلق حولها الفتيات، يقرأنها، يطلقن ضحكات طفولية، يتابع هو المشهد من بعيد.


مراهق يتبع فتاة جميلة وأنيقة، يتوقف، يجلس على سور السكة الحديدية، ينظر اليها بعينين حزينتين وهي تختفي تدريجيا في قاع الحي الصناعي.


سمع الباب وهو يغلق، سمع خطواتها وهي تقترب، احتضنته من الخلف، التفت، قبلها مرحبا، أخذها بين يديه كانت شهية، مستسلمة وحزينة.

انتبه فجأة لأناقتها، وقف ينظر إليها، يتأملها، كانت تلبس طقما مغربيا فخما، سألها:

– معروضة؟!
– واه!!
– فين؟!
– عندك!!
ابتسمت، احتضنته، قبلها ثانية…

ارتدت ملابس الفرح لتحضر عرسا، لكنها فضلت أن تحتفل بين أحضانه…

إنه يوم مشهود، انتابها نوع من الحدس الغامض، أحست أنه لقائهما الأخير، فليس من عادته أن يقطع عطلته السنوية، هو أيضا لم يخف ذلك، لكن العشاق لهم عاداتهم دائما، احتفلا أولا، ثم تركا الحزن للحظة الوداع، تمالكت نفسها، بدت سعيدة وحزينة، قوية وهشة في نفس الوقت، فكر في صمت.
– للجمال دائما شيء من الكبرياء!!
انخرط في لحظة تأمل، انتقلت إليه العدوى، أحس بالكآبة، تساءل، أهو الحب هذا الذي يجمعهما؟ أين ترتسم حدود الرغبة والحب والإشتهاء؟
أسئلة بخلفية فلسفية كثيرا ما استحضرها في سجالاته الفكرية مع الأصدقاء، لكنه كعاشق لم تكن تهمه.

كانت له دائما مقاييسه الخاصة، الشوق، الانجذاب، لغة الصمت، عجز اللغة، الكآبة الغامضة، الرغبة في التملك والخوف من الفقدان، الألم، وهذا الجرح المفتوح على الدوام…

تساءل:
–  أيكون العالم ممكنا بدون حب، بدون نساء وعشيقات ؟
ابتسم بحزن، خاطب نفسه بصمت.
– النساء والحب ملح الوجود!!
مرت ساعات طويلة، هل كانت طويلة؟ هو لا يدري، أحس أن الزمن ينفلت من بين يديه…

وقفت تودعه، في البداية بدت هادئة، قبلته، ثم انخرطت في نوبة من البكاء القاسي، اهتز جسمها الرشيق بعنف، دفنت وجهها في عنقه، انتفضت مثل عصفور صغير وخائف، احتضنها، أحس بحجم الألم الذي يعتصر قلبها، تألم هو أيضا، قال كلاما خافتا لمواساتها، لكنه لم يبك…

مسحت دموعها، قبلته للمرة الأخيرة، تحررت، وانسحبت بخفة…

وقف في الشرفة يتابع طيفها، أحس باليتم والفقدان، التفتت مرة أو مرتين، ثم أخيرا اختفت في ظلام المدينة.
مرت سنوات طويلة، طويلة فعلا…

ثم وجدها يوما أمامه تضغط الجرس…

ابتسمت، أشرق وجهها، قالت:
– أحبك!!
تردد قليلا، ابتسم، احتضنها وهو يهمس.
– أنت شجاعة!!

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون