السيرة البندارية (6)

موقع الكتابة الثقافي art 1
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد فرحات

وكلما نسى الدنيا، أقبلت عليه عوالم جديدة لم تخطر له يومًا على بال، نعم قد دخل الخلوة قبل ذلك أكثر من مرة، ولكن كان دخوله اجْتِهَادًا من نفسه، بدون أمر شيخ أو مشورته، هذه المرة مختلفة عن كل مرة، يبدأ يومه بصلاة الصبح، ثم يردد وِردًّا طويلًا من التسابيح ينقضي مع ضحى اليوم، ثم صلاة الضحى مثنى مثنى حتى صلاة الظهر ، فتهليل إلى صلاة العصر ثم قراءة قرآن إلى صلاة المغرب، ثم يكسر صيامه بشربة ماء، ولقيمات يابسة، وبعض من الملح، ثم يشرع في تلاوة الأوراد البندارية التي أمره بها الشيخ لصلاة العشاء، ثم ورده من صلاة الليل، ثم يريح جسده بقليل نوم، ثم ينهض لتهجد ينتهي مع أذان الفجر.

وكانت الخلوة في أقصى فناء داره، أشبه ما تكون بصومعة مخروطية الشكل، تحيط بها أشجار فل وياسمين من كل جانب، وكلما طالت خلوته يومًا، نمت على مقربة من جدرانها الطينية شجرة من أشجار الورد البلدي، والغريب أن الشجرة كانت تنمو نُمُوَّا سَرِيعًا في يوم واحد وفي نهايته تزهر بورود بيضاء وحمراء وصفراء ووردية وفي بعض الأحيان بنفسجية في شجرة واحدة، ومن المعلوم أن كل شجرة من الورد البلدي تستقل بإنتاج لون معين فقط من الألوان سالفة الذكر.

ومنذ دخل العيساوي خلوته، انقطع عن الدنيا وانقطعت الدنيا عنه، وانشغل ولده السيد بدروسه في القاهرة، والبيت والدوار والساحة في حاجة لأموال، والمريدون، والمنقطون للعبادة، واليتامى، والمساكين، وأولاد السبيل في حاجة إلى من يطعمهم، وكلما رجع الابن القرية باع قطعة من الأرض، وهكذا كانت تمر أيام انقطاع العيساوي بخلوته، يتجرد من متاع، وزينة الحياة.

ولما كانت الخلوة في أقصى فناء داره، مطلة على شارع جانبي، من شوارع القرية الضيقة، ترامت إلى مسامعه كلمات مفادها أن بقرة أثيرة على قلبه، قد تعثرت في سيرها فَكُسِرَت، تحرك قلب العيساوي لأول مرة بالدنيا منذ دخوله الخلوة. طرد العيساوي خواطره مُسْتَعِيذًا من الشيطان والدنيا بالله الرحمن الرحيم، واستمر في عبادته وتسبيحه وصلاته.

وبعد أيام جاء الشيخ محمود البنداري يتفقد أمور مريده الطيب، وكان موعد قدومه إيذَانًا بانتهاء فترة خلوته، توجه مباشرة بعد استقباله إلى الخلوة حيث العيساوي.

طرق البنداري باب الخلوة، فطار قلب المريد لشيخه شوْقًا، عرفت أذنه طَرَقَات الشيخ، ووقعها كصوت ارتطام حبات مسبحته، محفوظة في ذاكرته منذ طَرَقَاتِه الأولى يوم مجيئه الأول.

حاول الخروج من باب الخلوة الذي دخل منه منذ شهور إلا أنه لم يسع جسده، كيف وكان في صيام مستمر؛ قوته لم يتعد كسرات من الخبز والملح، ولما سألت الشيخ عن ذلك قال” ألم تعلم أنهم في آخر الزمان حينما يحاصر الدجال العصبة المؤمنة سوف يكون قوتهم التسبيح والتحميد والتهليل، وما بالك بمن كان مع نبيه، ألا يطعمه ربه ويسقيه؟!”

جاء الفلاحون بفؤسهم يوسعون الباب ليخرج العيساوي، ويستقبل شيخه مُتَشَوِّقًا كشوق حبيب لحبيبه، يحتضنه الشيخ ويسأله عن أحواله ثم يخبره بأنه قد دخل معه الخلوة رجلان؛ أحدهما حضري والآخر مُضري نجح الحضري والمضري وتعثرت أنت يا عيساوي، تقبل العيساوي نتيجته بصدر رحب فرح، فمع رؤية الشيخ تهون كل ملمة. فبادره الشيخ مستفسرًا عن عدم سؤاله عن السبب، فأجاب لأنه قد رضي برؤيته، فابتسم البنداري، تعثرت ياعيساوي حينما تحرك قلبك، وتذكر الدنيا بسماعك أخبار بقرتك الأثيرة، وأمره البنداري بدخول الخلوة ثانية لتوه.

***

بزغ الصباح نُورًا وَلِيدًا، ولاح في السماوات في ضآلة نجم تفصله عن الأرض ثمان دقائق ضوئية، يصارع جحافل الظلام المنتشر، المحيط به من كل جانب، وبمرور كل ثانية يكتسب فسحة ضئيلة، يدب ببطئ، بثبات وفتوة غير عَابِئٍ بكل ما يحيط به من ظلام يود وأده، إلى أن تم ضياء، أخاذًا، وبقوة بدد كل ما أحاط به من ظلمات، فملأ الأرض بهاء وسناء، وانغمس في مياة النيل المتدفق موجة موجة فانعكس تلألُؤًا على وجه الجالس مُنْفَرِدًا بمسبحته هَائِمًا بسماوات العشق والفناء.

ومع استغراقه في ورده، كان يتهادَى برياض ذكريات أبيه الشيخ عطية، وأخويه علي وعزيز، مضت سنون ممتدة منذ انتقال علي، ولحاق عزيز به، اشتاق لحكمة الشيخ، ولرأفة علي، ولحزم عزيز، أصبح غَرِيبًا عن الأيام، فَرِيدًا بين الخلق، وإن أحاطوا به…على رأس عشرين حِجَّة مضت، أَتَذْكُرُ ياجاب الله، كيف شح النيل وانحسر، ففجعت الأرض جفافًا، وتشققت كأفواه فاغرة تنادي عَطْشَى “شربة ماء!”، ولما يأست، ماتت، فطل من رحمها الجدب برأسه نَذِيرًا يصرخ ، وأحاط الفناء بكل حي.

إلا أرض البندارية المترامية المحيطة بخلوة الشيخ وبرزخه، تتباهى خضرة، وتتفجر رِيًّا وتجود بغلة الصيف والشتاء مَعًا. إيهٍ يابنداري ألا تنقضي العجائب والكرامات، أم هو الابتلاء بالخير فتنة، تفجرت الأرض عُيُونًا من ماء رائق بارد، بكر كأنه يلامس الأرض للمرة الأولى، فتحولت البندارية إلى واحة خضراء، وسط أرض أجدبت، وأمسكت عن الخير.

فلجأ الناس أَفْوَاجًا بصغارهم وشيوخهم ودوابهم لتلك الواحة المباركة، يحيطون كقيد محكم، بخلوة العطية، ينتشرون بأكواخهم المعدة على عجل، تُظِلَّهم من سياط الشمس، ومن لفحة الهجير الملتهب.

لم يكن من شغل لجاب الله سوى إطعام الطعام، وبذل كل مايملكون، مرددًا “إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا”

هو الاختبار يا جاب الله. وكل يدعي وَصْلًا بليلى، فهل تجود ليلى بالوصل، أم تضن.

كان يروح ويغدو خَادِمًا، مطعمًا، يعاونه الأولاد والأحفاد، شع وجه جاب الله بالنور كأنه استعار وجه القمر، صار وَاحِدًا من الأبدال، أمان الأرض، وونس الغريب، وملاذ الطريد، ولقمة الجائع، وشربة الظمآن، ورحمة الله على الأرض.

وحان وقت الالتزام، كيف يا جاب الله ولم يعد في الخزائن قطعة فضة واحدة، كيف يطالب الفلاحون بأنصبتهم من الضرائب، وهم يتكففون الطعام والشراب.

يصعد المنبر الكبير، ويثني على ربه ويحمده، ويصلي على نبيه ويسلم، ويعلن أن لا ضرائب، ولا التزام هذا العام.

تنتفض دائرة الحكم في العاصمة، والتي وصل ثمن الرغيف فيها ألف قطعة فضية، واشترى أحدهم حارة كاملة بطبق من دقيق القمح، فسميت إلى الآن حارة “أبو طبق.”

اعتبر الحكام تصرف جاب الله عِصْيَانًا، وتمردًا، وجُهزت التجريدة لتأديبه، وهلت طلائع الجند بيدها السياط والسيوف على صهوات خيولهم، ليقابلهم الفلاحون بالعصي والنبابيت، والحجارة، ويتدرعون بأغطية الحلل والقدور، ويقيمون خطوط الدفاع بالطنابير، وفلق النخل.

***

وعلت الصرخات مدوية في جنبات القلعة، بجناح الحاكم، وأسرع حرسه من كل جانب مدججين بالحديد، وبدون أن ينتظر استفسارهم، أو يرد عن استفسار عن سبب صراخه الذي شق هدأة ليل القلعة، ” إلَيّ برئيس البريد حَالًا!” ولما جاءه مُهَرْوِلًا، أعطاه رسالة مختومة لرئيس تجريدته المُحاصِرة البندارية.

وعلى تخوم البندارية المُحاصَرة ظهر على وجوه الجند علامات الإرهاق والجوع، كانت مأساتهم لاتقل بحال عن مأساة الفلاحين، فكلا الفريقين يتضوَّر جُوعًا، وكلاهما ترك عِيَالًا يبحثون عن كسرة خبز، فكلاهما أبناء لنيل جف، ولأرض أجدبت. وعلم الفريقان أنهما بصدد مقتلة حامية الوطيس، “فمن فرق بين أولاد آدم، فجعل أحدهم مَجْلُودًا، والآخر حَامِلًا للسوط؟!.”

ظهر من بعيد فارس يعدو بفرسه، فعلم فيه قَائِدُ التجريدة بَرِيْدَ القلعة، فأمر الجند بالانتظار، وكان قد همَّ أن يعطيهم إشارة البدء. ففض خاتم الرسالة، فوجدها أَمْرًا بالكف، والرجوع بالتجريدة إلى القاهرة،حيث خرج.

وجاء الشيخ جاب الله إلى نقطة المواجهة مُصطحبًا عَلِيًّا، وعطية أكبر أبنائه، ووراءهم الخدم، حاملين الطعام والشراب، فُرِشَت الأَسمِطَة، ووضع الطعام للجميع فنزل الجنود، وجلس الفلاحون والجند صُفُوفًا صُفُوفًا، يطعمون ويتضاحكون ويلهجون بالحمد، ولما حانت الصلاة أَمَّ الشيخ الجميع.

وبعد قليل جاء حاكم القلعة وموكبه، فقام جاب الله وولداه علي وعطية باستقباله، فنزل الحاكم وعانق جاب الله، وأراد أن يقبل يد الشيخ، وسط دهشة الناس أجمعين.

جاء الحاكم يطلب العهد من الشيخ ليصير من مريديه. فقال له الشيخ جاب الله، ” قد أخبرني سيدي أحمد البدوي بمجيئك وأوصاني بك…”

فقاطعه الحاكم مُتَعَجِّبًا، ” جاءني شيخك، بالسيف والسوط، يأمرني بالكف عنك..”

وكان كلما أغمض الحاكم جفنًا ليلتها، لاح له فارس عملاق حَامِلًا سَيْفًا بشعبتين، يلبس عمامة حمراء ضخمة، متدثرًا بسبحة ألفية غريبة الصنعة، يدعوه للمبارزة فيبارزه، حتى ليكاد أن يُجهز عليه، فيصرخ الحاكم مُتَوَسِّلًا بالرحمة والدين، فيرفع الفارس سيفه عن عنقه، فيسأله عن اسمه فيخبره أنه السيد البدوي، ويأمره بإرجاع جنده، وهكذا تكررت الرؤيا طيلة الليل، ففر الحاكم من فراشه مُرْسِلًا بريده.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون