السارد والمؤلف الحضور والتماهي في “الخوف يأكل الروح”

السارد والمؤلف الحضور والتماهي في "الخوف يأكل الروح"
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد أحمد عبد المقصود

تقوم هذه الورقة البحثية بدراسة مركزية السارد وحضوره، والفضاء النصي الذي يحتله من خلال الآلياتِ السردية التي يستخدمها، وتجعل صوته مسيطرًا علي السرد، وُتمَحوره حول ذاته واهتماماته، وترصد العلاقة بين حضور هذا الصوت وبين المؤلف الحقيقي، وذلك في ثلاثة نماذج تنتمي إلي الكتابة الروائية للروائيين الجدد الذين أخذت أعمالهم تنتشر في مصر منذ حقبة التسعينيات من القرن الماضي .

وتدرس هذه العلاقة من منطلق فرض يري أنه ثمة علاقة تماه ٍ بين السارد والمؤلف في الكتابة الروائية الجديدة، وأن هذا التماهي بوصفه علاقة بين طرفين: مجازي ( السارد ) وحقيقي ( المؤلف )، يدفع إلي رؤية السارد بوصفه صوتـًا فنيـًّا للمؤلف. وهذه العلاقة مشروطة بتصور أن النص الروائي الجديد ( الذي يصلنا من خلال صوت السارد، وهو ذات مجازية متخيلة ) لا يمثل المؤلف ـ وكذلك ما يتصل به من خبرات حياتية، و وقائع حقيقية، وأشياء موجودة في عالمه الحقيقي الخارجي ـ إلا بشروط خطابه الأدبي. و أول هذه الشروط إعادة بناء ما هو واقعي أو حقيقي، ليصبح علامة نصية مجازية لها قوة الحقيقي أو الواقعي. ومن ثم يصبح النص الروائي الجديد بخطابه الأدبي هو مصدر التعرف علي السارد/ المؤلف الذي صار علامة أو عنصرًا نصيـًّا، ومع هذه الصيرورة تنتفي الإحالة إلي السيرة الذاتية للمؤلف أو العالم الخارجي.

لنر ذلك من خلال النصوص.

التجريب واللعب ومحاكاة الذات في “الخوف يأكل الروح”

“الخوف يأكل الروح” رواية قصيرة، واضحة القصر، مقسمة إلي ثلاثة أقسام، في كل قسم يروي السارد حكاية عن شخصية أو شخصياتٍ، لا تحضر في القسمين الآخرين. الحاضر في كل أقسام الرواية، والقابض علي عملية السرد، هو مصطفي ذكري الذي يهيمن صوته، فيحكي، وينقل كلام الآخرين، ويشرح، ويعلق، ويعقب. مصطفي ذكري هو السارد وليس المؤلف الحقيقي كما سيتبادر إلي الذهن، فهذا اسم السارد الذي ورد في مفتتح الرواية علي لسان جورج المزيف ـ الزوجة التي كانت تقلد صوته ـ وهو يدعو صديقه للحضور:

“مصطفي .. مصطفي .. هكذا جاء صوته لجوجًا علي الهاتف». (ص12)

و ُذكر كاملا ً ـ في القسم الثاني ـ علي لسان السارد نفسه في سياق كلامه عن “الرسائل” التي كتبها لصديقة التليفون:

” تعليق علي الخطاب الثاني عشر المفقود، ويضاف في هذا الخطاب لسان آخر إلي ألسنة الباب الخارجي لبيت مصطفي ذكري». (ص42)

السارد مصطفي يضعنا أمام ظاهرتين متداخلتين: وجود سارد مسيطر علي عملية السرد، وتماهيه مع المؤلف الحقيقي. سيطرة السارد تحقق من خلال بعض الأساليب السردية والمهارات الكتابية التي تجعله مسيطرًا علي عملية السرد وحسب، وُتمَحورها حول ذاته واهتماماته. وهناك أسلوب بعينه يعتمد عليه سارد “الخوف يأكل الروح”، هو التوليد الذي ينتج تكرارًا، ويمكن القول إننا أمام سارد مولع بتوليد حكايات وأفكار، تتحول بفعل التوليد المستمر إلي مجموعة من التفاصيل، هذه التفاصيل تمثل الواقع وما هو موجود بالنسبة للسارد.

في الاستهلال أو مفتتح القسم الأول يقدم السارد أصدقاءه جورج وزوجته نانا، فيبدأ بتقديم ما تتميز به نانا من “سمات خفية فوق طبيعية». (ص7)، ثم جورج الفنان التشكيلي الكلاسيكي الذي يشبه زوجته، ويمتلك كلبًا يجمع بينه وبين صاحبه عرج خفيف في الساق اليمني لكليهما. هنا يشرع السارد في سرد أفكاره حول ” تزامن العرج في الكلب وصاحبه». (ص9)، ثم يحكي قصة إصابة الكلب بالعاهة علي يد صاحبه. حيلة استغل فيها جورج طبيبين بيطريين، يكسر جورج ساق كلبه اليمني، ويحضر طبيبًا لوضع جبيرة، وبعد مضي نصف المدة يستدعي طبيبًا آخر لفكها، لتدوم عاهته أبدية “كما دامت عاهة صاحبه». (ص9)، ثم يرفع دعوي ضد الطبيب الثاني بتهمة فك الجبيرة في نصف المدة، فتحكم المحكمة “بسحب رخصة العيادة منه لكونه تسبب في عاهة مستديمة لكلب مرخص». (ص9). تنشر الحادثة تندرًا في صحيفة يسارية، ويقرأها الطبيب الأول وكان علي شيء من الثقافة، فيكتب تعليقا إلي الصحيفة ـ يلخص السارد مضمونه ـ استشهد فيه بمشهد في فيلم قديم بعنوان رجل وامرأة، يظهر فيه الرجل وكلبه وهما يغمزان في مشيتهما الغمزة نفسها، وبعد الاستشهاد يقص قصته مع جورج وكلبه توني، و” يتهم جورج بالوحشية والجنون وعدوي الواقع بالفن، ليبرئ ساحة زميله، لكن مع الأسف أخذ التعليق مأخذ الطرافة، ولم يتحرك أحد». (ص10)

التوليد يبدو واضحًا، فمن تزامن العرج يتولد سؤال السارد، ومن السؤال يتولد تفسير محتمل لإصابة جورج، ومنه تتولد قصة السبب المؤكد لإصابة الكلب، ومنها تتولد قصة القضية، وتحولها إلي خبر صحفي طريف، ومقال الطبيب الأول، ثم التعليق الختامي للسارد. وهناك ظاهرتان مهمتان: الأولي التفاصيل التي تتصل بقصة عرج توني نتيجة التوليد، والثانية وجود طرفين ينهض عليهما ما يقصه السارد : فكرة جادة ومثيرة للانتباه، وفكرة أو شيء هامشي أو تفصيلة صغيرة بعيدة عن الانتباه، يبدأ السارد في التركيز عليها، فيزداد حضورها، وتتصدر المشهد. فقد تحول السارد تدريجيا عن تقديم شخصية جورج وعرجه إلي عرج الكلب، و أزاح الشخصية الإنسانية عن مركزها الذي حظيت به في السرد الكلاسيكي، وجعل هويتها وملامحها مرتبطة بدخولها في علاقة مع العنصر الهامشي الآخر، فعرج الكلب يحدد الطبيعة النفسية المضطربة لشخصية جورج. وبعد أن يقدم لنا السارد جورج ونانا يأتيه صوت جورج لجوجًا عبر الهاتف، يطلب منه الحضور:

” مصطفي .. مصطفي .. هكذا جاء صوته لجوجًا علي الهاتف. أعرف جورج ونانا منذ عشر سنوات، لكنني لا أشاهدهما كثيرًا لكثرة العمل. قال أريـد أن أراك، هناك أشياء حـدثت يجب أن تعرفها، ثم قال بصوت مشروخ، توني مات، يجب أن تحضر.طلبت منه أن يهدأ حتي أعرف لماذا يريد مني الحضور بهذه الطريقة المفاجئة لاسيما والليل يتقدم ويوغل في شتاء بارد،لكنه لم يقل غـير نبـأ موت كلبه توني .. وضعت سماعة الهـاتف، وشرعت فـي ارتداء ملابسي، وانطلقـت مسرعًا إلي حي جاردن سيتي،كان البيت من طابقين علي الطراز القديم.. البيت في شارع هـادئ جدًا.تذكرت توني، لطالما قام جورج مع كلبه العزيز بتمشية الصباح في هذا الشارع الهادئ …. هل كان انزعاج جورج لموت كلبه يصل إلي هذا الحد؟ ثم ماذا عن زوجته؟هل أصابها سوء لموت توني؟.

علي الدرجات القـليلة التي تؤدي إلي الباب الخارجي الكبير المصنوع مـن حديد أسود مشغول، وخلفه زجاج إنجليزي سميك مضلع ـ وجدت فأرًا سمينًا بليدًا منتخفا بصورة مرعبة،يحاول هبوط الدرجات من منتصفها.كان حريا به أن يهبط الدرجات عند أقصي جوانبها لأنه يعترض طريقي.نعم كان كبير الحجم لكن هـذا ليس سلوك فأر. كان لونه يضرب إلي الرمادي القاتم المشوب بلون ترابي أغـبر وكالح. وكانت حركته بطيئة جدًا، بل كانت حركة بائسة كريهة. كانت درجات السلم عالية علي وزنه الثقيل، لذا كان عند كل درجة يتوقف قليلا، ويحاذر الهبوط الذي يأتي في النهاية ارتطامًا ووقوعًا علي فمه.حركته تفتقر بشكل مريع معني الرشاقة.توقف عند قدمي بغباء عنيد، وأبعد ما يكون عن معني الجرأة وكأنه يريد مني أن أفسح له الطريق هكذا بلا مبالاة وخمول يبعث الرهبة في النفس.

كان فـمه وأنفـه ملطخـين بدم متخـثر جاف من أثر اندلاقه علي بوزه أثناء هبوطه درجات السلم….. وكان الاشمئزاز يرتفع في داخلي كرغبة في القيء. لكن شروعه في متابعة هبـوط درجات السلم بحركته البطيئة البائسة ـ فـور زوال العـواقـب والحـواجـز من طريقـه ـ دغدغ شيئـًا ما في أعماقي السحيقة.

شيئًا وجوديا.كأنني أشعر بذنب لا خلاص منه لاحتقار هذا الكائن منذ لحظات.

إنه الآن يتابع طريقه و يستأنف سيره غاسلا شعوري بالاشمئزاز نحوه. إنني الآن و أنا أنظر إلي مؤخرته و ذيله السميك واندلاقه المأساوي علي درجات السلم و افتـقاده لليسر ودأبه علي العـسر ـ أحترم كـينونة مجهولة ومتباعـدة ومغرقة في بيوريتانيتها، أحترمها و أقدرها و أطمئن إليها. لكن بعـد كل هـذا أليـس هناك انقـباض في صدري مفاده أن أري هذا الفأر السمـين المتـخم بوجوديته الغامضة ـ قبل رؤية الصديقين العزيزين جورج ونانا؟». (ص 12، 13، 14).

مفاجأة المكالمة، ونبرة صوت جورج وإلحاحه، وتوقيت المكالمة، ومنولوج السارد المنفعل تقول إنه لدينا حدث جاد ومثير، لكن السارد يتحول من الحدث الجاد محطمًا توقعنا إلي حدث آخر هامشي ـ يفترض ألا يثير انتباهه وهو في هذه الحال الانفعالية ـ وهو هبوط فأر ضخم للدرج. شيئـًا فشيئـًا يدفع بالفأر إلي الصدارة، فيبدو علي القدر نفسه من أهمية الحدث الجاد. ويأخذ السارد في وصفه بدقة متناهية، ويسرد تفاصيل تحيل هبوط الفأر للدرج إلي حادث مثير، أثار مشاعر و أفكارًا داخل وعي السارد، انتهت بربطه بالحدث المثير الأول الذي جاء من أجله، وهو مقابلة نانا وجورج، ويحدس بأمر غير سار.

هذا الأسلوب السردي يكشف أمرين، الأول انشغال السارد في التفاصيل انشغالا يكشف عن لحظة عبثية نادرة، لحظة لعب. فالشيء الهامشي التافه ( مثل فأر ) يأخذ منه مجهودًا في القول مقارنة بالحدث الجاد(1). لكن السارد الذي يمتلك رؤية جمالية خاصة لا يراها كذلك، يراها ذاتا موجودة، ربما كان وجودها غامضا، لكنه وجود طاغ ٍ، له حضوره الآني في ذاته ( لاحظ قول السارد ضغط السارد علي ذاته والظرف “إنني الآن” في مواجهة هذا الوجود )، وفوق ذلك هو وجود مؤثر، أثر في السارد. والثاني أن الهامشي هذا “الموجود الآن” لم يعد عارضًا، إنه مرتبط بما يبدو أنه جوهري، هذه رؤية السارد التي دفعته إلي ربط رؤية الفأر برؤية الصديقين.

وبالطريقة عينها يقوم بالسرد في القسم الثاني الذي وظفت فيه عناصر من سيرة المؤلف الذاتية، فهو يستهله بالحديث عن باب البيت الخارجي غير المغلق بإحكام دائمًا، والشعور بفقدان الأمان الذي أصابه نتيجة لذلك، ودفعه إلي الجلوس أمام الباب ليؤمن نفسه. ويقع البيت في شارع خسرو باشا، ومن موقعه أمام الباب الخارجي يمكنه أن يري أي شخص “يحاول الدخول إلي حرمة البيت”(ص31). ويولد من ذلك حكاية “سعدية المجنونة” التي كان يراها من موقعه، وحكاية شارع خسرو باشا مع البلدية، ثم حكاية أفراد أسرته، وذكريات طفولته، والخوف المتأصل في نفسه الذي يتولد عنه حكايته مع صديقة التليفون المجهولة التي تتصل به، والمكالمات والرسائل المتبادلة ومضمونها. و دومًا يولد أفكارًا تخصه، فمن مضمون الرسائل تتولد فكرة “القبح”، فيناقشها من خلال علاقته بشعوره بالخوف، وتولد فكرة القبح مسائل تتعلق بالصلة بين الكتابة والقبح، مثل استخدام الأسلوب الساخر والجاد، أو المتفلسف والتقريري المباشر في قول الأشياء. ومع نهاية الفصل ( المضني علي قصره) يصبح السرد مجموعة من التفاصيل الصغيرة لذوات غالباً مهمشة (سعدية المجنونة، وأفراد أسرته العاديين، والسارد نفسه الذي يكتب روايات عاطفية من الدرجة الثانية ).

هذه التفاصيل تدخلنا في دوامة مرهقة ـ أحيانًا ـ من التلقي، وتكشف عن وجود ذات ساردة منغمسة في وجودها الفردي وزمنها الخاص، ذات تهتم بالأشياء الهامشية والصغيرة، لا لشيء إلا لتصور وجودها وطغيان إحساس السارد بهذا الوجود. ومقابل ذلك لم تعد فيه الجماعة ولا قضايا الوطن الكبري السياسية والاجتماعية والتاريخية محط اهتمامها، ومن ثم تصبح طريقة التوليد والحرص علي التفاصيل طريقة كتابة، و تفكير، و رؤية للعالم. نعم، طريقة كتابة تكشف عن قناعات المؤلف الجمالية وكيف يري العالم من خلالها، هذه القناعات تظهر من خلال مصطفي ذكري السارد المتخيل و الصوت الفني لمصطفي ذكري الحقيقي.

وتؤكد أعمال مصطفي ذكري المؤلف أن التوليد والانشغال بالتفاصيل وبالهامشي إستراتيجية كتابة، فقد أقام نصه “تدريبات علي الجملة الاعتراضية” علي الجملة الاعتراضية، وهي محدودة الاستخدام، وينظر إليها علي أنها جملة فرعية، فقلب مصطفي ذكري التراتب الشائع عنها في البلاغة والكتابة العربيين، وحولها إلي أصل، إلي جملة أساسية، لكن هذا القلب تحقق بواسطة كتابة تبدو للنظرة الأولي مهارة أو لعبا شكليا . أما دال “المتاهة” الوارد في عنوان نصه “هراء متاهة قوطية”، فيصف طريقة التوليد للأفكار والحكايات التي ترهق القارئ، وتشعره أنه يسير في متاهة تدوخه، وهي طريقة واضحة بقوة في سرد القسم الثاني من “الخوف يأكل الروح”. وفي “مرآة 202” يعتمد سرد البطل عماد علي التوليد والتكرار. ومن ثم فنحن أمام كتابة روائية مختلفة عن الكتابات التي تسبقها، خاصة كتابات نجيب محفوظ، والكتاب الذين عرفوا بجيل الستينيات، ولا يزالون يكتبون، مثل: محمد جبريل، وجمال الغيطاني، وإبراهيم عبد المجيد.

الصلات بين”الخوف يأكل الروح” ونصوص المؤلف الأخري خاصة “مرآة 202″، تكشف لنا عن تقنية أو مهارة كتابية أثيرة لدي السارد، تجعله حاضرًا ـ لحظة القراءة ـ في سياقات السرد المختلفة، وهي اختلاف الضمائر الذي يمنح صوت السارد تنوعًا، وتجعلنا نراه بضمائر مختلفة، في المقطع السردي الواحد. ويعتمد السارد في هذه التقنية علي لعبة الغموض والوضوح التي تمنح حضور السارد ثراء أكثر، فهناك مقاطع سردية في القسمين الثاني والثالث تبدو غامضة في سياق ضمير الغائب، تعقبها مقاطع بضمير المُتكلم تزيل غموضها، وتدفعنا إلي العودة لرؤية ما كان غامضًا مرة أخري. وهذه اللعبة أوضح ما تكون في المقاطع التي يتكلم فيها السارد عن الخطابات التي تبادلها مع صديقة التليفون.

“الخطاب الثالث عشر. قالت امرأة قبيحـة بعد ثرثرة مرحة ـ لرجل قبيـح وبلهجة جادة هل أنا قبيحـة ؟ أجاب الرجل بلهجة لا تقـل في وجومها عـن لهجة المرأة ـ بصيغة سؤال .كان سؤال هو نفس السؤال الذي سألته، هل أنا قبيح؟ أجابت المرأة باستغراب وقالت أنت رجل… (ص42)

كـثرت نساء الرجل القبيح بعـدد لا نهائي ومع الكثرة أتقـن الرجل تفاصيـل دقيقة عن المرأة القبيحـة التي قطـع علاقته بها إلي الأبد منـذ أن قالت له أنت رجل. تلك الشجاعة التي جعلته مثـل دون جـوان. إنه كلب وفي حمل في عقـله وقلبه فضل المرأة القبيحة التي دفعتـه إلي عالم النساء. قالت إن لك يـدًا غليظة ثقيلة حين مسكتُ يدها، لم أقصد أن أكون ثقيلا غليظا وأنا أمسك معصمها… (ص43)

فالغموض الذي يلف سياق ضمير الغائب علي امتداده السردي يزول مع التحول إلي ضمير المتكلم الذي يخص السارد وحده في النص. ولكن لماذا الإشارة إلي المقاطع السردية الخاصة بالرسائل تحديدًا ؟. لسببين: الأول أن هذه المقاطع تحولت إلي مجال لمهارات كتابة ذات طابع تقني صرف، واختلاف الضمائر لعائد واحد هو مهارة تقنية من تلك المهارات. والثاني أنها إحدي الوسائل التي تصنع منطقة يتماهي فيها السارد مع المؤلف، وذلك من خلال المزج بين أحداث القصة كما يحكيها السارد وبين هموم الكتابة المهنية البحتة التي تخص المؤلف الحقيقي، والتي يفترض ألا ُتعرض داخل الحكاية. المهارات التقنية الصرف بدورها تعبير عن هذه الهموم، عن هوس كتابة تجرب بطريقة مختلفة، ولهذا ترد إشارات ـ في هذا السياق تحديدًا، سياق فكرة القبح التي ولدها السارد من مضمون الرسالة الثالثة عشرة ـ إلي نصوص للمؤلف الحقيقي، يمكن وصفها بأنها نصوص تجريبية تعبر عن هموم الكتابة :

” علي سبيل المثال لا الحصر، فأنا قد تحدثت في وقت مضي عن القبح بشكل مجرد، وكانت مناسبة الحديث هي إحدي القصص التي تحمل عـنوان”حديث الصورة” و كانت القصة ضمن كتاب صغـير بعـنوان ” تدريبات علي الجملة الاعتراضية”. كان حـديثي في ” حديث الصورة ” موجهًا بشكل مباشر إلي القارئ…….. لكن ما إن بدأت الكتابة حتي هاجمتني أسباب فنية بحتة ذات طابع تقني صرف. (ص44)

“تدريبات علي الجملة الاعتراضية” ـ كما أشرنا سلفا ـ نص لمصطفي ذكري الحقيقي، إذن لدينا اسم المؤلف الحقيقي، ونص من نصوصه، يضاف إلي ذلك عناصر من سيرته الذاتية : الحي السكني، والبيت، وأفراد الأسرة. وهناك تأثير هذا البيت علي التصورات الجمالية التي تشكل كتابة “الخوف يأكل الروح”، وقبلها “تدريبات علي الجملة الاعتراضية” :

” كان قـدري في هذا البيـت أن أري بشكل أبدي كل الأفعال البسيطة وهي تؤدي بدقة متناهية وكأنها تؤكد روحًا أخري وراء جديتها، روحًا عبثية يقع تحت تأثيرها كل من يراقبها». (ص30)

السارد يتكلم عن أسرته من موقع المراقب لما يؤدونه ـ خاصة الأب ـ من أعمال بسيطة ( فهم أفراد عاديون تمامًا )، وها هو ذا قد وقع تحت تأثير روحهم ( لنلاحظ إشارة السارد إلي القدر)، فظهر في كتابته. هنا يحدث التباس بين المصطفيين السارد ( المتخيل) والمؤلف ( الحقيقي )، قد يفضي إلي إقامة علاقة تطابق، والنظر إلي الصوت المتكلم علي أنه صوت المؤلف الحقيقي. لكن يجب ألا تخدعنا عناصر السيرة الذاتية وبعض التجارب الشخصية، خاصة وهي ترد في سياق ضمير المتكلم الذي نبني عليه دائمًا ـ في هذا النوع من الكتابة ـ وهم التطابق.

المسألة كلها تتعلق بـ”هموم الكتابة”، وبأسباب فنية بحتة ذات طابع تقني صرف دفعت إلي توظيف هذه العناصر، وهو ما يجعلنا أمام كتابة أشبه بمحاكاة الذات، يحاكي المؤلف ذاته من خلال السارد. وإضافة بعض عناصر من السيرة الذاتية والتجارب الشخصية ذريعة مصطنعة لكتابة تجرب، وتعتمد علي لعب ومهارات محاكاة الذات مهارة منها. وإذا ما تذكرنا أن السارد كاتب روايات عاطفية من الدرجة الثانية، فسندرك أنه واقع تحت تأثير هوس المهنة، مهنة الكتابة.

 عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم