الرسالة الضائعة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش
الزمان: ما بين 1224م/1230م.
المكان: بلدة (سافونا) الإيطالية.

بلدة جميلة، هادئة، منغرسة بين أحضان الجبل، ومنفتحة على سواحل الريفييرا غير بعيد عن الحدود مع فرنسا…

طبيعة سخية وجميلة، مناخ متوسطي ربيعي بحرارة معتدلة طول السنة، وأطياف طفولة حالمة، هي بعض من أشياء تشدني إلى هذه البلدة الحالمة…
كنت طالبا أهيئ بحثا لنيل الإجازة في علم اللاهوت المسيحي، لسنوات كنت أشتغل على شرح (رسالة الثالوث المقدس) ل(بويتيموس)، وهي رسالة نقدية في إظهار تهافت (رسالة دوناتيوس) المليئة بالضلال والتجديف والهرطقات…
في الحقيقة، لم يكن انخراطي في سلك الكنيسة بسبب التقوى أو ورع ديني، فأنا شاب في مقتبل العمر، والشباب والتقوى نادرا ما يلتقيان، بل كنت مدفوعا بالطموح والرغبة في النجاح والترقي الاجتماعي.
وفي الواقع لم أكن مستعدا للتخلي عن حياتي الدنيوية، ولم أخف أبدا إعجابي بهؤلاء المسلمين الذين يعرفون كيف يجمعون في تركيبة عجيبة بين الإيمان الديني والولع بالعلم، والعناية بالحريم، وقضم كعكة الحياة…
تركيبة يمتزج فيها الدين والدنيا والخطايا بالألم والأمل وفكرة الغفران. 
اشتغلت لسنوات تحت إشراف أستاذي المبجل (ألبتروس الأكبر) الذي كان يخصني بكثير من الحرص والعطف والمشاعر الأبوية…وكنت أقضي معظم الوقت في مكتبة دير (مون كاسان) وهو عبارة عن قلعة معزولة، تقع في أعلى نقطة على الجبال المبثوثة في الريف الإيطالي…

كانت مكتبة كبيرة وزاخرة، تكاد تكون خرافية، تضم روح الرحيق المختوم للمعرفة البشرية، منذ أفلاطون وأرسطو، ومنذ فاضت العقول عن العقل الأول، مرورا بحكماء الشرق في الهند والصين والفرس، وصولا إلى آباء الكنيسة الكبار، وأخص بالذكر هنا القديس (أغسطين الكبير)، وانتهاء برموز الفكر الفلسفي في الإسلام، أمثال المعلم الثاني (أبو نصر الفارابي)، والشارح الأكبر لأعمال (أرسطو)، الفيلسوف والقاضي والفقيه (أبو الوليد ابن رشد) الأندلسي…

تمر الأيام.
غمرتني سعادة عارمة، فقد قطعت شوطا كبيرا في عملي الأكاديمي، عندما وقعت بالصدفة على ما يفترض أنه الرسالة المفقودة للإمام (أبو حامد الغزالي) وهو أحد أعمدة العقل الديني والفلسفي في الإسلام…كان مريدوه والمتعصبون لفكره يسمونه (حجة الإسلام) في إشارة منهم إلى مكانته المتميزة.
كانت رسالة (المضنون به على غير أهله) مكتوبة بالحرف العربي، في نسخة نادرة وعجيبة، تضم شروحا وحواشي وتعاليق باللاتينية والفارسية، افترضت أنها ربما كانت لبعض آباء الكنيسة، الذين وقعت الرسالة بين أيديهم، والذين لديهم ولع وإلمام بتراث العرب والفرس…

كان الأمر واضحا، فهمت منذ البداية أن الرسالة كنز حقيقي، أمضيت أياما وليالي، أقرأ، أعيد القراءة، أتأمل، وأستكشف المخطوط، كانت الرسالة مليئة بالتفاصيل والإحالات التي تكشف عن تبحر واطلاع لا يضاهى لعلوم المسلمين في ذلك الزمن، واهتماماتهم الفكرية، من لغة، وأدب، وفقه، وفلسفة، وعلم الكلام (يقابله في ثقافتنا مصطلح الثيولوجيا وهي خطاب يمتزج فيه الدين بالفلسفة)

كنت أغرق تدريجيا في تفاصيل الرسالة واكتشفت أن وراء هدوء العبارة، وطمأنينة اللغة، يختفي قلق الفكرة، فقد كانت الروح القلقة والمترددة للغزالي واضحة في الرسالة (من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والحيرة).
تمر الأيام والأسابيع، قررت بعدها أن أستثمر الرسالة في إنجاز بحثي، أخبرت أستاذي المبجل بأمر الرسالة، وشجعني على ذلك، بعد أن نبهني إلى ضرورة التأكيد على المشترك الكوني في الأديان السماوية، وخطوط التقاطع بين الفلسفة واللاهوت والأساطير وعقائد البشر…
ولكي أشرك القارئ في متعة القراءة والاكتشاف، كتبت توطئة وتركيبا إشكاليا لرسالة الغزالي، أردتهما تقديما وتنويرا للقارئ غير المطلع…

وهذه خطوطه العريضة.
(تسألني أيها الأخ الكريم عن كيمياء السعادة، فاعلم حفظك الله، أن العلم شجرة، والعمل ثمرها، فلو قرأت العلم مائة سنة، وجمعت ألف ألف كتاب، لا تكون مستعدا ولا مستحقا لرحمة الله تعالى إلا بالعمل…

فاحرص على سلوك سبيل الحق، واحرص حفظك الله على تطهير سريرتك، فالقلب دخيلة الإنسان، حيث يتردد صدى الوحي ويطن الكلام الإلهي…
واعلم أيها الأخ الكريم، أن السعادة لا يمكن أن تكون إلا سلبية، فهي ليست سوى تعليقا مؤقتا للألم، وتوقيفا مؤقتا للعطش…واعلم أن أخلاق الرحمة إنما تنبع من التعاطف مع التعاسة والبؤس، الذين تسبح فيهما الإنسانية…
إن مهمة الفلسفة، هي أن تعلمنا كيف نكون تلامذة لأنفسنا، وأن نتبين بوضوح حدود البرهان العقلاني وآفاق التسليم والإيمان الديني، وأن وظيفة الوحي والكلام الإلهي المنزل هي أن يضع أصبعه على الخطأ، ولكن ليس باسمه، بل باسم العقل وحده…

إن الفلسفة من حيث هي خطاب للعقل، مطالبة بترميم الأعطاب وانكسارات الإنسان، وتضميد جراحات روحه الضالة، وذلك بالكشف عن كل الأسرار القابلة وغير القابلة للبرهان…
اعلم يرحمك الله، أن الله هو الشمس التي تنير العقل البشري، ليرى الحقيقة، وأن الله هو ديمومة واستمرار، فهو الكائن الأعلى والكامل، وهو الخير المطلق والثابت…

واعلم أن الطبيعة البشرية، التي خلقت من عدم، ليست – ولن تكون – أبدا لا خيرة ولا فاضلة، إلا بمقدار اشتراكها وانخراطها في الوجود…)
كانت الرحلة جميلة وممتعة، مرت سنوات، وأنا أنجز البحث، اطلعت بشكل جيد على دين الإسلام، ومذاهب الكلام عند العرب، قرأت كتب الغزالي كلها، ووقفت على ما آلت إليه روحه المترددة…

قرأت القرآن، وأعدت ٌقراءة الأناجيل، وأسفار العهد القديم، وتعاليم بودا، وكونفشيوس، وبيدبا، وشرائع روما…
وفهمت أن وراء التفاصيل العقدية، واجتهادات البشر، ربما تختفي الحقيقة الإلهية الموجهة لنا نحن البشر، وأنه لحكمة ما – حكمة خفية مثل لغز – لم تنجح الأديان، كل الأديان، في حسم قضية الخلاص، خلاص الأرواح…

وربما لن تنجح أبدا.
أنا اليوم أشعر بالكثير من الفرح، لأنني تخلصت في حدود المعقول عن رفاهية اليقين الدغمائي، تعلمت أخيرا أن أتحدث بيقين أقل، وطمأنينة أقل، فالشك ليس هداما دائما…
تعلمت أن رحلة التيه والاغتراب بين الإيمان والضلال، وبين اليقين والشك، ستبقى مستمرة ومفتوحة، حتى مع وجود الخفير، ودليل السفر، وأن العقل البشري، هذا الضوء الجبار الذي يشع بدواخلنا، رغم كل مزاعمه، سيقف حتما عند حدود الحياة في وجهتها الحائرة…
وتعلمت أخيرا – وهذا هو الأهم – أن السعادة هي الطريق، السعادة في الطريق، السعادة تكمن في البحث عن السعادة، وأن الرجل السعيد، هو الرجل القوي، والرجل القوي هو ذلك الذي يلتزم بالتفاؤل المأساوي، ويبحث عن التجربة الشديدة والمؤلمة، تجربة الموت والحدود القصوى، حتى وإن أدى به ذلك إلى التعاسة…

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون