الرحلة والأسطورة في “وشم وحيد” لسعد القرش: التاريخ مؤطِّراً السَّرد

موقع الكتابة الثقافي writers 89
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حمزة قناوي

   تتجلَّى فِكرة “الرحلة” في مواجهة التاريخ ومفرداته وشواهده أكثر من أي مُرتكزٍ آخر في رواية سعد القرش “وشم وحيد”، تلك الرواية التي تستعرض حقبة قريبة من التاريخ المصري الحديث، الأيام الأخيرة من حفر قناة السويس في عهد الخديوي إسماعيل “أفندينا”، (1859)، وجانباً من حفل الافتتاح، والتي استغرق العمل فيها حتى افتتاحها عِقداً كاملاً، هذا الحدث التاريخي سيظل هو الإطار المُشكِّل لتفاصيل العمل وتوجيه مساراته.

   فالرواية التي تدور في تلك الحقبة تنطلق من هذه الأيام الأخيرة لحفر القناة، حيث “وحيد” الذي يعمل في الحفر بالسُّخرة كمئات آلاف المصريين، ويموت أبوه “يحيى” بجانبه أثناء الحفر، من الإجهاد والشقاء، ولا يستطيع “وحيد” أن يدفنه إلا في موضع وفاته، وقد حلُمَ بنقل جثته إلى “أوزير”، مسقط رأسه.

   وأوزير هو اسم الإله الفرعوني المذكور في “متون الأهرام”، ويمثِّل مُعتَقدَاً هاماً في ميثولوجيا المصريين حول آلهة الإنماء والخلق في الحياة الأخرى، غير أن “أوزير” هنا ليست الآلهة الفرعونية، إنما قرية الجذور التي ينتمي إليها “وحيد” وعائلته، في شمال الدلتا، والتي يشُد الرِّحال إليها، بعدما يستطيع الفرار من السُّخرةِ في حالةٍ بين الحياة والموت، “أوزير”، التي اقترنت باسمي “منف” و”أبيدوس” في مصر القديمة، بدت كالوِجهة الضائعة التي كان يبحث عنها “يولسيس” جيمس جويس في رحلته مع النسيان من إيرلندا إلى الشمال الأوروبي. يفر “وحيد” من موقع حفر القناة، ليبدأ رحلة “البحث عن المصائر”، مصائر أفراد عائلته، عائلة “عمران”، الذين لا يعرف عنهم شيئاً: عمه “إدريس”، وعمته “عائشة”، متذكراً أنه “سمع أباه يرددُ أن جدَّه “عامر” نصح “إدريس” بالرحيل إلى مصر المحروسة، والسكنى بجوار سيدنا الحسين والجامع الأزهر، وأن يكتب رسالة إلى الباشا هناك، يخبره بحال أوزير”. فيشدُّ الرحال إلى “المحروسة” بعد محاولة فاشلة لاغتيال “أفندينا” ـ الخديوي إسماعيل ـ في حفل افتتاح القناة بمساعدة “الشيخ إبراهيم”، الذي التقاه في رحلة هروبه من السُّخرة، فقد كان الأخير موتورا أيضاً من حُكم “أفندينا”.

   يصل “وحيد” إلى المحروسة، على حماره النحيل، “نفس الهيئة التي بدا عليها دون كيشوت مغادرا “دي لامنتشا” في رحلته الباحثة عن المغامرة”! يلتقي المدينة التي وُسِمت في مرآه الأول لها بالقلعة، والقباب الصغيرة المتناثرة من حولها، باحثاً عن عمه “إدريس”، فيهاله اتساع المدينة، ويلجأ إلى الحسين والأزهر ليصلي فيهما ويدعو، ويسأل سكانهما عمن يعرف عمه.

   في طريقه للعودة إلى الجذور يلتقي “وحيد” “هند”، وهي الشخصية الأنثوية الرئيسية في العمل، وتكاد تُمثِّل الشخصية النفسية المُعاكِسة لـ “وحيد” الغارق في حُزنِه وانكساراته، بينما هي ممتلئة بالحياة ضاجةً بها. يترافقان في الرحلة، ويفقدها ويلتقيها، لا تُمثل “هند” ما هو أبعد من اللحظة الحية القائمة، لا امتداد لها سوى ما تعيشه، وهي نفسها يُمكِن إحالة كل شواهد الواقع المُنتج لهويتها وكينونتها باعتبارها شخصية تُمثل عصرها الغارق في عبثيته واستهتاره بالإنسان، فقد باعها رجل لا تذكره في مصر جارية لمن لا تعرف، وأبوها لم يستطع دفن أمها، وهو نفسه مات بالطاعون في الطريق، بينما “وحيد” هارب من سخرة ماضٍ قريبٍ، ينشدُ وجهة مستقبلية تنبئ عن غدٍ أكثر تماسكاً من هذا الحاضر الواقعي المهلهل، ممثلة في “أوزير”. التي تعادل سيميائياً “الخلاص” أو “الانعتاق”.

   هذه الأجواء النفسية ذاتها نجدها في روايات ألبير كامو “الطاعون”، و”الغريب” و”السقوط”؛ تلك الأعمال التي تصوِّر إدراك الإنسان للاجدوى التي تحيط بحياته، فينفصل عن الواقع باحثاً عن خلاص.

   تُمثِّل “هند” في العمل محوراً جديداً تدور حوله حياة “وحيد”، وتتخذ اتجاهاً فرعياً مؤسِّساً لفضاء السرد، هي الشخصية الممتدة الموازية للبطل في كافة تحركاته، حتى تكاد تُشكِّل رجع صدىً لمواقفه وأفعاله، تناقشهُ وتناقضُه، وتشكِّل مرآة يُفضي من خلال نقاشاته معها بجوهره النفسي والصراعات التي تحكُم مواقفه، ويطغى حضورها على غيرها من الشخصيات التي “يُفتَرَض” أن تشغل مركزية وحضوراً أكبر في الأحداث.

   ثمة “بطل” آخر للسرد، يستمر حُضوره منذ أول العمل حتى انتهائه، هو “المكان”، الذي مثَّل ركناً هاماً من أركان الرواية، حيث نجد تفاصيل “القاهرة القديمة” و”الفاطمية”، مبثوثة في كل مفاصل ومتكآت الحكي، فالفضاء المكاني الروائي تحكمه وحدةٌ متماسكةٌ، كأنما شكَّلته عدسةٌ دقيقةٌ لم تُفلِت تفصيلة في زمنِها إلا وسجَّلتها، شاهدةً على عصرِ ومسجلة شواهدَ تاريخ وطبيعة لغةٍ اختلفت كثيراً في سياقها التداولي عما هو قائمٌ اليوم، وذلك متجلٍّ في مناقشات الحياة اليومية ووصف الأماكن، من سوق الغورية، وشارع المعز، والأسواق والأسبِلة، ووكالة العطور، والديوان، وقصر عابدين، وبِركِة الأزبكية، وبحر القناة، وأسماء الشهور المصرية القبطية القديمة “هاتور”، و”كيهك”، و”أمشير” و”النسي”، وكلها ارتبطت بمواسم الزراعة والحصاد لدى الإنسان المصري القديم، وبعض مفردات السرد التي تميزت بخصوصية مستمدَّة من زمنها الحكائي، فيما يُشبِه “سبيكة” موحَّدةً شكلاً وجوهراً، فيما يتعلَّق بالعصر وروحه، ناسه ولغتهم، وأحداثه ووقائعه، ومعضلات الوجود التي واجهها أهل هذا العصر.

   في هذه الرواية التي تدور فكرتها الأساسية حول الظُلم والتمرُّد عليه ونشدان العدل، والبحث عن الجوهر والحقيقة والجذور، تُعدُّ الرحلة هي المسرح النفسي المُهيّئ لطرح الأفكار وتلاقي خطوط السرد، الزمن أيضاً يحضر بقوة في نهاية العمل بعد نصف قرن تقريبا من المشهد الافتتاحي الأول للرواية، حيث يُشارِك “وحيد” في حفر القناة، بينما في نهاية العمل، تنفتح آفاق المشهد الروائي على مدينة القاهرة الحديثة في عهد الخديوي “عباس”، حيث زالت شواهد وحلَّت أخرى مكان القديمة في المدينة التي تغيرت، في قفزةٍ نفسيةٍ انتقلت بالبطل عبر ما يشبه البرزخ إلى مكان وزمان آخرين، بعدما تغيرت أحوالهُ، ومسَّه ما يُشبِه الجنون، مُبحراً في الزمن، حالماً بالانتقام من “أفندينا” لمصرع أبيه، قبل أن تطالعنا ما يُشبه “لحظة الكشف” في حوارٍ بينه وبين رفيقه في المقهى، حين يتوجَّه “وحيد” إليه بالسؤال: “إيش يكون الشاي”؟! فيخبره ساخراً بأنه يشربه معهم في بورسعيد منذ عشر سنوات على المقهى، هنا يطالع “وحيد” (الممسوس) وجهه في المرآة فيكتشف هرمه وشيبه، يعود له الوعي في هذه اللحظة المفارقة للزمن، ويتذكر أن له دارا وزوجة وابنا أنجبته له “هاشم”، فيعود كأنه مُسرنَمٌ إلى مكانه القديم في الأزبكية، يتلقَّط أخباراً لا يعرفها عن أفندينا الجديد “الخديوي عباس”، ويمُر بمكان “بِركة الأزبكية” فلا يجدها إنما يجد تمثال “إبراهيم باشا” على حصانه في ميدان الأوبرا القديم، كأنه منفصلٌ عن الزمانِ والمكان، والمفتاح المُفسِّر لهذا التحوُّل السردي هو في مشهدٍ أشبه بالحلم، حين يحاول “وحيد” اغتيال أفندينا، في حفل افتتاح القناة (1869)، فتطير الرصاصات فوق رأس الباشا، ويتلقى وحيد ضربة على رأسه ويشعر بنفسه خفيفاً له جناحان ينقلانه إلى عالمٍ آخر يرى فيه رفاقه الكادحين في حفر القناة، وقد تدثروا بالدفء وامتلأت وجوههم بالمسرَّة، ما يرسم تصوراً لنا بأن السرد انتقل إلى عالمٍ موازٍ ، هو العالم الآخر، حيث اختلف صوت السارد، ورؤيته وطبيعة المشهد.

   تنتهي الرحلة / الرواية، بـ “وحيد” المكتهل، العائد إلى الذاكرة بعد فقدها، واقفاً على باب بيته القديم في الأزبكية، يسأل عن زوجته “هند” ووليدها الصغير “هاشم”، ليجدها قد اكتهلَت، في انتظارها له كل هذه السنوات، وهاشمٌ كبُر وتزوج صبية فاتنة تشبه “هند” منذ نصف قرن، وحين يبادر بالسؤال عن هاشم تخبره الزوجة الوفية الصابرة أنه غادر القاهرة، متجهاً إلى حيث رأى والده الغائب في الحلم هناك.. في “أوزير”!

   فالرواية التي تصارع الزمن بشخوصها، وتنتقل بتحولات الإنسان والمكان والأفكار من عصرٍ إلى آخر، لم تزل تقبض على أسرار تجلياتها الإبداعية المشفَّرة في رموز التاريخ وإحالات الشواهد بما تكتنزه من دلالات وطاقاتٍ سردية، ما أكسبها فرادةً وتميزاً بين روايات عصرِها، شاهدةً على زمنٍ وبشرٍ وأساطير.

…………….

* (مجلة “الصدى” / مايو 2015 )

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم