الخزاف

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 49
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسني حسن

يفيق من نومه مشوشاً ومنهكاً. يتردد، لدقائق، قبل أن يترك الفراش محاولاً، بغير جدوى، استعادة صورة غائمة كانت تلف روحه قبيل الصحو مباشرة. يضع قدميه على الأرض، فيشعر بدبيب مستعمرة كاملة من النمل ترعى فيهما. يلعن النقرس، على الأملاح، على أدوية القلب ومن أشار عليه بها. كان الطبيب قد حذره، بشدة، من التهاون أو الإهمال، معلناً له براءة ذمته من حالته إذا لم يتبع توجيهاته حرفياً، وبمنتهى الدقة. في أعماقه، راح يسخر من الطبيب، ومن حرصه البالغ، والمبالغ فيه، على سلطته العلمية ذات الروح الكهنوتية.

-يظن أني أواصل العيش بروشتاته.

 يقول لنفسه في الحمام، وقد عاودته، بغتة، بعض ملامح وتفاصيل متطايرة لصورة الحلم التي أيقظته تواً. أخذ ماء الدوش ينساب على رأسه وجسده، بارداً ومنعشاً، حتى تنبهت حواسه كلها. جفف جسمه، بسرعة، وارتدى ملابس الخروج، ثم دخل المطبخ ليعد لنفسه كوب الشاي الصباحي المعتاد. أحس بفرح صبياني خبيث، وهو يذيب ملعقتي السكر الممتلئتين في شايه. ليكن ما يكون؛ فلن يدخل الخامسة والخمسين وهو يصدع، صاغراً، لتعليمات طبيب لا يرى صواباً إلا في حرمانه من كل ما يحب.

لماذا يمضي الإنسان، هكذا، سجيناً للتعقل والاتزان والحرمان؟ لماذا لا يمتلك القوة والصحة والشباب إلا حين تغيب المشتهيات، وعندما تتوافر هذه الأخيرة، وتتناثر تحت قدميه، يكون كل شيء، عداها، قد انسحب إلى ما وراء الوراء؟ أية حكمة يراها، ويقصدها، الخزاف الأصلي في هذا الموقف الملغز المتناقض؟

هل تساءل عن الخزاف الأصلي؟

-نعم، هذا ما كنت أحاول استحضاره منذ الاستيقاظ ؛ صورة الخزاف الأصلي.

 أسرّ لنفسه، مبتهجاً، بأنه قد تذكر أخيراً. كان الخزاف يدير دولابه بقدمه، فيما تنشغل يداه، المعجونتان من الطمي، الغارزتان في الطمي، بتشكيل التفاصيل الصغيرة، بمهارة ورقة، بعشق وتجرد، أو بلا مبالاة تامة.

-كنت أعرف أنك ستقع تحت يدي مجدداً، وأني سأضعك، ثانيةً، على دولابي، وأدير عجلتي في طينك، بكل سرعة.

 قال الخزاف، فأحس، هو، بقشعريرة تجتاح جسده، لتصدر عنه آهة واهنة، غير مسموعة.

-لا، ليس أنا، ليس بعد.

 أجاب، ضاجاً بالخوف، ومشدوهاً برغبة سرية عارمة في أن يعيد الخزاف عجن طينه في نفس الوقت. جلجلت ضحكة الخزاف العجوز، في أذنيه، ساخرة فزُلزل كيانه.

-سيفعل ما يشاء رغماً عني!

 فكّر.

-ومن يقدر على تحدي مشيئته؟

فيما كان يهم بالنزول من ترام الرمل، صدمت أذناه فرقعة ضحكة، أخرى، طفت فوق ضحكة العجوز المتصادية. كانت الضحكة الجديدة ماجنة ومنكرَة، بذيئة وشابة، مغترة بالوجود.

-نازل هنا يا جدو؟

 سأله متهكماً، وبلا سبب، المراهق الصغير، بجينزه المهترئ، وشعره المصفف بالچيل على شكل عرف الديك. نظر إلى الصبي دون أن يجيبه، الأمر الذي استفز الأخير، وحرضه على “التتنيح” معه، مستقوياً، بطبيعة الحال، بعصبة الرفاق بأعراف الديوك. تملكته، فجأة، رغبة مستبدة في أن يمد يديه، ويقبض على الولد، ويلقي به أسفل عجلات القطار.

كثيرا ما يحدث معه ذلك؛ يكون ممتلئاً بالحب وبالشفقة،  مستنيماً لموسيقى روحية عذبة تحلق بكيانه لأعلى، بقدم أو اثنتين، عن تراب الأرض وحصاها، قبل أن ينقلب موج روحه، في غمضة عين، ويشتهي لو يكون بيده، لحظتها، كلاشينكوف ليفرغه في صدور من يعبرون أمامه كافة، وبغير تمييز، ليس عن عداوة صميمية للبشر ، فهو يحب البشر، يحبهم إلى درجة الرعب والتقتيل، لكنه يمقت من يتصادف أن يمر بقربه متحامقاً بكل الطبيعة البشرية الحمقاء، أو لعله يحب البشر كمفهوم بذات القدر الذي يمقتهم فيه كموجودات.

-وإلى متى يظل سعد زغلول، مصلوباً على هذا النحو الهزلي، متدثراً بمعطفه البرونزي الثقيل، حابكاً طربوشه العتيق على جبهته الفلاحية التي لا تخطئها عين، ومولياً المدينة ظهره، بكل من فيها وما فيها؟ وهل يأتي ذلك اليوم الذي سيكف فيه عن الشخوص، بنظرته المتحجرة، باتجاه الخليج الصغير الذي شارف على الموت اختناقاً؟ أو لم تكل قدماه من طول الوقوف؟ أم لعله لم يكابد، يوماً، آلام النقرس وأملاح القدمين؟

لا، ليس شبحاً خارجاً من قصة “بورخسية”، ولا برجوازيا، مرفهاً، ينوح على انهيار عوالمه الذاتية، في معمعان، لا يهدأ أواره، لأناس كادحين عرايا حفاة جائعين ومرعوبين، بل، بالأحرى، هو محض طين، سيسترده، قريباً قريباً، الخزاف القديم.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون