الخرافة الواعية والبحث عن المدينة الفاضلة

الخرافة الواعية والبحث عن المدينة الفاضلة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 فاطمة منصور

“قبل أن يعرف البحر اسمه” مجموعة قصصية للكاتب “محمد الفخرانى”، وهى تتضمن ما يقرب من عشرين قصة تستمد موضوعاتها من الطبيعة “البحر والسماء والشمس والنجوم والريح والقمر”، ومعظمها تدور أحداثها فى إطارات شبه أسطورية كثيرًا ما تغلب عليها الخرافة، والتى كانت السمة الأكثر حضورًا فى نصوص هذه المجموعة، لأن الخرافة تدل على الوقائع والأحداث غير المعقولة، والتى تعبر عن وقوع الخوارق وتصف حكاياتها، فهى كل ما لا تقره أذهاننا ولا تستسيغه ثقافتنا من معتقدات وممارسات، وأكثر القصص يدعمها الكاتب بالغرائبيات، وقد أكثر من استخدامه لأساطير وخرافات البحر وحكاياته الغرائبية، وتلك الحكايات ما هى إلا معرفة تقف على حافة الخطر المنفلت من الذاكرة الإنسانية، والتى تكشف فى أبعادها عن العلاقة بين الإنسان والغيب، أو بين الإنسان والكائنات الأخرى، أو علاقة الإنسان بالطبيعة بشكل عام

وقد عالج الكاتب هذه الغرائب بوعى ملحوظ، لأنه فى معظمها كان مشاركًا وفاعلاً، فألفته مع البيئة جعلته يلجأ إلى تجهيل بعض الشخصيات، يقول على لسان السارد فى قصة “اللعبة”: “لم تنبت لصاحبى أجنحة، ورغم ذلك شعرت بهواء يرفّ على وجهى، أخذنى من يدى وطار بى، وضعنى على قمة جبل، وطلب منى أن أقفز لأسفل، تراجعت فدفعنى للهواء، انتفضت بقوة، وبسرعة بدأت أشعر بمتعة الطيران ورعب السقوط فى نفس الوقت”، الكاتب فى هذه المجموعة يوظف الخرافات فى سرد حكائى من خلال فكر متجدد يستدعى به جوانب تصورية أو لا عقلية محاولاً استخدام قدرته على إنتاج خرافة دون أصل من الواقع الخارجى، فشكّل واقعًا وأدخل بيئته التخيلية فى تجربته، وأسبغ عليها معطيات التجربة الخرافية الواقعية بوصفها أقرب إلى الخرافة العجائبية، وإن كانت معظم قصص المجموعة قد بنيت بناء ذهنيًا، يعتمد على كيفية مدى تقبل فكرته دون صراع ذهنى بين القبول والدهشة، وهو ما يسميه “تودوروف” بالمبالغة، فقد استطاع الرواى فى المجموعة خلق أساطيره الخاصة بواسطة الاستخدام الغرائبى المبالغ فيه من خلال التأثير البصرى، يقول الكاتب فى قصة “البحر”: “البحر كان بلا اسم، حتى ظهرت أول قصة حب فى حياته، عندما رآها أمسك بقلبه حتى لا يفلت منه، تماسك حتى لا يندفع إليها فيهدمها أو تختفى فجأة، انتظرها وهو يتمنى أن تكون حقيقية.. كانت شابة حافية لم تمشط شعرها مرة فى حياتها، لم تفاجأ بالبحر وكأنها تعرفه أو تبحث عنه، أدرك هذا عندما نظر فى عينيها، سكن تمامًا وانتظرها، اقتربت ونظرت إليه، فأحسّ بعينها فى قلبه، ونبتت فيه جزر المرجان، مد يده يلمس قدميه ليتأكد أنها حقيقية، فاختفى منه لون الحزن وتلون بلون السماء الأزرق الصافى لأول مرة، وكان يرفضه قبل ذلك”، فتلحظ بذلك توظيف الكاتب لبعض المفردات الأساسية على امتداد المجموعة “السماء وما تحتويه، البحر وما يحتويه”.

إن ما يفعله الكاتب “محمد الفخرانى” فى مجموعة “قبل أن يعرف البحر اسمه” هو نمط تقابلى يحمل بعدًا تفسيريًا للعلاقة بين المخلوقات، و هو بعد أسطورى فطرى وإن كان يحمل منهجية التفسير فى سبيل ترسيخ عقيدة قائمة فى بعض البيئات الساحلية، راسخة فى ثقافتهم ترى أن للبحر أسرار لا يبوح بها لأحد، ومن يحاول كشف أسراره عنوة يجد ما لا تحمد عقباه، لكن الكاتب حاول هنا أن يرسخ لعلاقات مغايرة فى تفسيره لأسرار البحر، التى حمّلها معان جديدة تمامًا فى أكثر قصصه، وإن كان قد اعتمد على التهويل وأطلق العنان لخياله لإسباغ نوع من التشخيص على الكائنات غير البشرية لمواجهة الواقع بالخرافة، التى تركز على العلاقات الإنسانية، وتغيير الواقع، وإثارة الدهشة، التى تهدف فى معظم الأحيان إلى تخليق حالة المزج التام بين الإنسان والبحر، هذا المزج الوجدانى الذى يملك القدرة على التحول المادى، وفى محاولة أخرى لهذا المزج يقول فى قصة “قارب وسحابة-قصة حب”: “استيقظ القارب فى الغروب، وكانت السحابة تجلس على قمة جبل قريب، بما يسمح لها أن تتأمله عن قرب خلال ساعات نومه القليلة، واكتشفت أن من أجمل الأشياء التى يمكن لأحد أن يفعلها.. أن يتأمل حبيبه أثناء نومه” ثم يقول: “اعتاد سكان البحر والسماء أن يروا قاربًا وسحابة معًا فى أوقات عملهما وراحتهما، وفى الأسفار المختلفة، حيث طلبت السحابة أن تكون أماكن عملها قريبة من الأماكن التى يسافر إليها القارب، وأوقات عملها فى نفس أوقات عمله”.

الزمن فى هذه المجموعة غير مرتبط بحيز، فالحيز يجب أن يكون حاضرًا لاستضافة الأحداث لأن الزمن غالبًا ما يكون أشد وضوحًا لارتباطه بضمائر السرد، فالكاتب هنا بداخله دهشة وفطرة وطفولة، وهو يعتبر السارد بطلاً، ليس بالمعنى السلبى للبطولة، ولا بمعنى البطل الفرد الذى يحمل النبوءة والخلاص، ولكنه يرى أنه بطل داخل حدود معرفته بمعنى “التأمل” وتذوق الجمال، وامتلاك الوعى، وتكوين فلسفة خاصة عبر التأمل والتآلف مع الأشياء دون الإذعان لمنطق السرد الطويل، هذا التآلف الذى يتناسب مع الشكل الحياتى الذى لم يحاول الكاتب أن يفك خيوطه المعقدة والكثيرة، رغم أنه يحمل نضج التجربة وثراء الفكرة.

ونستطيع أن نقول أن هذه المجموعة تستحق الكثير من التقدير، خاصة أن الكاتب هنا يمتلك أدوات التعبير القصصى والحكائى بمهارة ووعى، وقد وصل بهذا الأسلوب السردى الممتع إلى قمته، خاصة فى قصته الأخيرة “الرجل الذى اشترى العالم”، والتى وقفت أمامها بانبهار وهو يختار ويتأمل مدينته الفاضلة، التى لا وجود لها إلا فى أحلامنا جميعًا، يقول: “أراجع ما اشتريته لأتأكد أن العالم صار سعيدًا نقيًا تمامًا: صناديق الحزن، الذكريات والموسيقى الحزينة، الملل، الوحدة، البرد، وهذه الصناديق أحبها، وهذه أيضًا، أحب كل صناديقى.. هل تبقى شىء؟ أفكر.. نعم.. شىء واحد أشتريه وأؤمن للعالم السعادة الكاملة، سأحمّل عربتى بجبال الذهب والفضة، وأجعله يومًا لا ينسى”.   

ــــــــــــــــــــــــــ

*ناقدة مصرية

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم