الحياة السرية لقراصنة حمام السباحة

نهى محمود
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

نهى محمود

 يبدو مكاني الخاص للكتابة مثل غرفة متخيلة، تشبه الألعاب المطاطية التي يستخدمها الأطفال للطفو فوق الماء، تبدو غالبا على شكل إوزة أو سمكة أو زورق، يمكن أن نحملها في كيس صغير دون عناء، وعندما يظهر اللون الأزرق.. البحر/ حمام السباحة نملؤها بالهواء ويستخدمها الطفل في مغامرات القراصنة.

طوال الوقت أحمل كيس الهواء ذلك، وشخوص حكاياتي، وأفكاري في جعبة غير مرئية وأمضي بشجاعة لمواجهة العالم.

كلما تقدمت في العمر، عرفت أن استمراري في الكتابة لم يحتج دوما سوى الشجاعة، الكثير منها..

في البداية شجاعتي أن أكسر قيود العادي، وأن أبوح بما تفكر الآخريات في إخفائه لأن المجتمع يشير لهن نحو الخفاء والظل.. شجاعة أن أحكي، وأن يرتفع صوتي حتى أسمع صداه يخبرني كم أن الحياة شاسعة، يشكل لي ذلك الصدى طريقا أعرف من خلاله أن هناك جبال وعوائق وكهوف ستقابلني في رحلتي.

مضيت في طريقي، رغم أن صوت دقات قلبي كثيرا ما كان يشوش على خطواتي، دقات اختلط فيها الخوف والحب وبعض التردد.. لكن الكتابة لم تخذلني أبدا.

عندما تكونين امرأة يسهل أيذاؤك، يمكن لنميمة هنا أو هناك أن تجرح قلبك.. لكن عندما تكونين كاتبة تملكين مراوغة وحيلة تنقذك من الموت كالجدة شهرزاد، تهديك عشرات الحيوات، وعددا لابأس به من البدايات الممتعة، والنهايات المحتملة.

عندما نشرت روايتي الأولى “الحكي فوق مكعبات الرخام” هاجمني ناقد في ندوة، وقال إني ربما أكتب حكايتي  وأني مجرد طبيبة بائسة مطلقة تحكي قصتها.

لم يغير كوني صحفية وغير متزوجة وقتها من وقع الأذي الذي كان من المفترض أن يصيبني، لكن شيئا في روحي لم يبال حقا، تكرر الأمر في روايتي الثالثة “هلاوس” التي فازت بالمركز الأول لجائزة دبي الثقافية، عندما قرأت على جود ريدرز نقد ما  يتحدث فقط عن قصور كون الكاتبة امرأة، ويخلط بشكل ساذج بيني وبين بطلة روايتي الكاتبة الوحيدة التي تعاني لإنهاء كتابها وسط حالة من الهذيان والألم ، كلام  مليء بالكره والعنصرية، تعليق مؤذٍ لم يتحدث بشكل فني عن أي شيء في الكتاب، هو فقط أراد أن يقذف صاحبة تاء التأنيث بحجر في وجهها ربما تصمت فقط لتصمت.

أنا بنت الكتابة، والكتابة علمتني أن أصمد وأنجو أمام خيبات الحياة وأحزان الفقد، رممت روحي، وأهدتني كتبا وجوائز وأموالا  وحبيبا وسعادة وهو ما لم أختبره إلا بها ومعها.. 

 

الكتابة هي سري الصغير الذي أقف طوال الوقت على أعتاب الروتين والواجبات والعمل والأمومة والبيت، أقف على أطراف أصابعي في انتظار أن تخفت كل تلك الأصوات قليلا، حتى أتمكن من التظاهر بالعزلة وسحب الأوراق والحكايات من جعبتي، قد يطول انتظاري لأيام دون مجيء اللحظة المناسبة، كثيرا ما تفصلني عنها الأكواب والصحون المتسخة، الالتزامات البغيضة، تعكر المزاج بسبب أعباء الحياة أو فقط الإرهاق… مؤخرا كنت أشعر بالتعب لأيام ربما لأسابيع.. يتسرب الوقت والأفكار من عقلي، يملؤني الإحباط والغضب.

أشعر بالاختناق والرغبة في الهروب من كل شيء، والجلوس على شاطي بحر أو الاختباء في مكان هادئ يصلح للكتابة في ساعة مبكرة يمكنني معها أن أشعر بنسمات الصباح الطيبة، الخالية من ذبذبات الزحام الذي يعطل عقلي عن العمل،  أفعل ذلك كثيرا، أترك كل شيء وأهرب لأمارس سري الصغير.

أضغط على زر “قف”  فيتجمد كل شيء، وأغادر مع الكتابة، شعور يزداد صعوبة كلما غرست قدمي في الحياة الحقيقة، أشعر أني اخذل صغيرتي وأهجر مسئولياتي في ذلك الوقت الذي يتجمد فيه العالم من حولي لأكتب.

لكنه يبدو في الوقت ذاته “وقت النجاة” بدون تلك الساعات السرية المختلسة من زحام الحياة ما كنت لأنجو أبدا، لا يمكن لكاتبة متعطلة عن الكتابة أن تكون امرأة سعيدة..

ولا يمكن لسيدة غير سعيدة أن تحمل فوق رأسها طفلة وبيتا وعملا وأحلاما، لا يمكنني أن انجو إلا بالكتابة، الشيء الوحيد في هذا العالم الذي أبدو خلاله الفتاة التي أحبها، القوية المقاتلة، السعيدة، هناك أحمل قلب فراشة ويقين عرافة ومحبة عاشقة.

هناك في أرض الكتابة، وغرفتي المتخيلة، أنسخ خيوط الحكايات، أكتب عما يشغلني، أتصالح مع ضعفي وأخطائي وأصنع أساطيري وأحقق أحلاما وأنسج عالما يجمع في خيوطه كل ما أحب من ألوان وبشر .

مقالات من نفس القسم