الحس الإنساني وتشكيل المتخيل القصصي في “حلم غفوة” لمحسن أخريف

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 46
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد المسعودي
ما تجليات “الحس الإنساني” في قصص مجموعة “حلم غفوة”؟ وكيف يعمل “الحس الإنساني” باعتباره سمة تكوينية على تشكيل المتخيل القصصي؟ وهل يمكن لهذه السمة التكوينية تأدية دور حيوي في بناء فنية القصة؟
هذه أسئلة ثلاثة أثارتها قراءتنا للمجموعة القصصية الأولى للشاعر والروائي والقاص محسن أخريف، وهي المجموعة التي احتلت المرتبة الثالثة في جائزة الشارقة للإبداع العربي في دورتها 20 سنة 2016. فما تجليات “الحس الإنساني” في قصص مجموعة “حلم غفوة”؟ وكيف يؤدي دوره الأساس في بناء فنية القصة؟
إن من يقرأ القصص الأربع والعشرين التي اشتملت عليها هذه الإضمامة يلفي حضور “الحس الإنساني” ملقيا بثقله على كل نصوص المجموعة. وهذا الحضور جعل قصص “حلم غفوة” تتسم بمقدرة فنية لافتة للنظر على تصوير معاناة الشخصيات القصصية انطلاقا من بعد تشاركي ورؤية متعاطفة مع ما تعايشه هذه الشخصيات من حالات وأحوال وتحولات. وقد كان هذا البعد سمة فنية بامتياز أسهمت بدور كبير في بناء حكي قصصي متماسك ومنسجم. ومن هنا يلمس متلقي هذه القصص أن هناك هاجسا جماليا، وأفقا دلاليا متسقا ينتظمها، ويهدي سير خطاها نحو غاياتها الإبداعية المنشودة.
ويتخذ “الحس الإنساني” تلوينات موضوعاتية متنوعة في ثنايا النصوص وانطلاقا منها يشكل الكاتب عوالمه المتخيلة، ومن أهم هذه التيمات نجد: العزلة والوحدة والغياب والخوف وافتقاد الحنان وغياب فهم الآخر والموت والكره… وغيرها من الموضوعات ذات البعد الإنساني، وهي موضوعات تحضر، كما لا يغيب عن ذهننا، في أغلب نصوص أدبنا القصصي الحديث، غير أن طرائق اشتغال هذه التيمات في قصص “حلم غفوة”، والآفاق التي تتيحها لتشكيل المتخيل فيها جعلت هذه القصص زاخرة بالحس الإنساني وتفهم الآخر والإحساس بمكابدته في زمننا المختل. وهذا التفهم والإحساس بالآخر هو إحساس السارد بالذات في تفاعله مع شخصياته وحدبه عليها وإيمانه بإمكان تغيير الشرط الإنساني والمضي به نحو الأفضل.
في قصة “أنفاس قطة بيضاء” يتشكل متخيل النص من خلال تيمة الرغبة في العزلة والانزواء بعيدا عن الآخرين، إذ يختار بواب إحدى العمارات الفارغة، تقريبا، من السكان العيش في قبو العمارة، غير أن قطة بيضاء تأبى إلا أن تقتحم عليه عزلته وتخرجه من أسر إمكانية الابتعاد عن الناس وعن الكائنات الأخرى. وهكذا يجد نفسه في أحد الصباحات لاجئا إلى الشقة رقم ثلاثة هاربا من أنفاس القطة، غير أنها كانت تسابقه الأدراج نحو باب الشقة التي قرر الإقامة فيها. بهذه الشاكلة يأبى السارد أن يترك شخصيته منزوية منعزلة عن العالم، وهكذا جعل من كائن وديع أليف يتمثل في قطة بيضاء علة لترك القبو والسكن في إحدى الشقق الجميلة بالعمارة المهجورة. وهكذا كان الحس الإنساني الذي يبديه السارد نحو شخصياته عاملا فعالا في تشكل بناء النص وتأثيث عوالمه السردية.
وفي قصة “عيون مامادو” التي تتخذ منحى واقعيا فانتاستيكيا نرى السارد يتخذ من تيمة الموت غرقا أثناء عبور المهاجرين الأفارقة نحو أوربا منطلقا لتشكيل متخيل قصصي لا يصف معاناة هؤلاء الأفارقة بشكل مباشر، وإنما من خلال خلق “حس إنساني” يعي معاناتهم وفواجعهم عن طريق رفض السكان أكل سمك الشرغو le sar
بعدما أعلن التلفزيون أن البحر يرمي الناس أحياء لكنهم بدون عيون، نظرا إلى أن الأسماك تأكل عيونهم. وهكذا صار سكان المدينة يرون في عيون سمك الشرغو عيون مامادو، أو المهاجرين الأفارقة. وهكذا عاد الصياد البحراوي إلى ثلاجته وأخرج منها أسماك الشرغو التي اصطادها، ونزع عيونها ليرمي بها مرة أخرى إلى البحر، وليكتشف صيادون آخرون أن البحر يرمي أسماك شرغو عوراء بدون عيون. بهذه الكيفية ولد تعاطف الساكنة مع مامادو المعروف عندهم في الحي حالة من رفض أكل سمك الشرغو، وهكذا تحول هذا الحس الإنساني إلى موضوعة قصصية، وإلى سمة مكونة بنت متخيل القصة وشكلت عوالمها الحكائية، وكشفت عن تعاطف السارد مع المهاجرين، ومع مآسي الغرق في البحار، والموت المجاني المهين للإنسان في عصرنا الحالي.
أما قصة “حياة مشتركة” فتتخذ من الحديث عن تيمة الوحدة والشعور بالعزلة منطلقا لبناء عوالمها السردية. إننا أمام زوج يبوح بلواعجه ومعاناته بعدما توفيت زوجته، وبقي وحيدا لأزيد من سبع سنوات غير أنه كان يعيش مع ذكراها راضيا لأن حبها كان لا زال نابضا في أعماقه، وها هو الآن يتنقل بين أركان بيته يسترجع حبه وذكريات زوجة عاش معها ثلاثة عشر سنة من الحب والامتلاء والدفء الإنساني، غير أنه يستشعر الآن فداحة الغياب وقسوة الخواء الروحي والحضور الجسدي للمرأة. وهكذا كانت تفاصيل القصة تطفح بتصوير معاناة الزوج انطلاقا من حس إنساني متعاطف وفي أفق تفاعل مع هذه الحالة الإنسانية الدالة على قيم المحبة والوفاء في عالم ندرت فيه هذه القيم.
وفي القصة الثالثة من “ثلاثية الوحدة”، وهي مجموعة نصوص قصيرة مكثفة، حملت عنوان مقهى “الوحدة”، نجد السارد يرصد حالة شبه فانتازية، إذ نجد شخصيات هذه القصة تصر على التشبث بعزلتها عن الآخرين والانفراد في عوالمها الخاصة، فلا تواصل ولا تقارب بينهم من أي نوع، ولا تفاعل لهم مع العالم الخارجي، بحيث فرضوا على أنفسهم نوعا من المنفى الاختياري، وضربوا حولهم غلالة شفافة لا يراها أحد سواهم. وهذه الوحدة مقدسة لا تنتهك حتى من النادل الذي يحفظ مع الوقت طلبات زبائنه فيحضر ما يرغب فيه كل زبون من تلقاء ذاته دون أن يطلب الزبون ذلك، وكأن تبادل طلب المشروب وتحية النادل عبئا يجب التخلص منه.
تكشف هذه القصة عن طبيعة الحياة المعاصرة التي جعلت الناس يلوذون بحميميتهم الفردية ويربأون بأنفسهم عن مشاركة الآخر والتفاعل معه، وكأن العزلة خيارا لا مفر منه في ظل ظروف كثرت فيها أخبار الموتى والقتلى، وكثر فيها ضجيج العالم وصخبه. وعلى الرغم من أن القصة تصور واقعا غريبا وحالة شاذة في سياق فانتازي واضح، إلا أن رمزيتها الشفيفة، وبعدها الإنساني العميق تجعل المتلقي يتعاطف مع شخصيات مقهى “الوحدة”، ويسلم باختيارها الصعب، وبرؤيتها إلى العالم من حولها.
وتمضي قصص المجموعة على هذه الشاكلة في صنع عوالمها السردية وبناء متخيلها الحكائي بما يجعل من “الحس الإنساني” سمة تكوينية أدت دورا حيويا في تشكيل فنية النصوص القصصية، وفي تأثيث أبعادها الدلالية والترميزية. ولعل القصص الأخيرة التي ختمت بها المجموع، وهي بالمناسبة، نصوص مالت إلى التكثيف والاختزال عكست هذا الحس التشاركي والبعد المتعاطف مع الآخر/ الشخصيات بشكل أفضل، كما نجد في قصة “اختفاء” على سبيل المثال. ففي هذه القصة -التي تشكل جزءا من خمس قصص قصيرة شملها عنوان واحد: “شيء من الحياة”- نلفي بطل القصة يتحسس سريره لليلة الرابعة بحثا عن زوجته التي اختفت منتصف ليلة، ولم يجرؤ على سؤال أحد من جيرانه يمكن أن يكون قد رآها تتسلل خلسة من باب العمارة، كما أنه لم يقم بإبلاغ الشرطة عن اختفاء الزوجة، خشية الفضيحة وخوفا من ألسنة الناس وما ستلوكه من كلام يمس زوجته ويمسه. وهكذا أمام يأسه ظل يتحسس مكانها حتى دون أن يعمد إلى النداء عليها باسمها، وكان تحسسه للمرة الرابعة وكأنه يكتشف لأول مرة اختفاءها الغامض المفاجئ، وهكذا تمعن القصة في تصوير معاناة الرجل، وفي إشفاقه على زوجته وعلى نفسه مما قد يلقاه من المجتمع. ومن خلال التصوير الفني الغني بالمشاعر والأحاسيس المتضاربة يتمكن السارد من جعل المتلقي يتعاطف مع حالة شخصيته هذه التي وجدت نفسها تحيا في وضع لا تُحسد عليه. وبهذه الشاكلة كان “الحس الإنساني” الذي تزخر به القصة سمة تكوينية استطاعت أن تمنح النص حيوية وقدرة على إثارة ذهن القارئ ومشاعره.
في ضوء كل ما سلف يتبين لنا الدور الفعال للحس الإنساني في تشكيل متخيل قصص “حلم غفوة”، وفي بناء النص القصصي. وبذلك كانت هذه السمة الفنية سمة تكوينية أساس في تشكل الأبعاد الدلالية والخصائص الفنية في هذه المجموعة القصصية الواعدة التي تنبئ عن ميلاد قاص جاد ممتلك لأدواته الفنية ننتظر أن يتحفنا لاحقا بنصوص لا تقل جمالا وغنى عن نصوص مجموعته الأولى.

……………….

*محسن أخريف، حلم غفوة، منشورات دائرة الثقافة، الشارقة، 2017.

مقالات من نفس القسم