التيه الذي في القلب

التيه الذي في القلب
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

نهى محمود

بدت لحظة لا يمكنني وصفها ، تلك التي انتبهت فيها أني صرت استخدم قصاصات الورق الملونة الاصقة التي أحب أن أدون عليها أفكارا للكتابة هنا في المطبخ .

 

انتبهت بعدما  دونت عليها الأصناف التي انوي تجهيزها، ولصقتها على طرف مفرش الورد الذي هذبه محمد بعناية ولصقه في مكان علب التوابل، بشكل يجعلني ابتسم وأفكر في براعته في كل مرة اتناول فيها علبة من هناك .

ابتسم وأفكر في بهجة تهذيب مكان، ورص صحون واكواب واواني استعدادا لللهو بها ما تبقى من العمر .. بيت ومطبخ ومكتب .. طفلة وألعاب وتشبث بعالم يشبه المضي فيه، المشي على الحائط .. أنا التي تجد صعوبة في حفظ توازنها حتى على الأرض .

بقت الثلاث ورقات في مكانها فترة بعدها، أنظر نحوها بشرود كلما رأيتها، لكني بالأمس استعملت اوراقي الملونة مرة أخرى لأكتب على علب الجبن من الخارج، بدلاً من أن يجرب الثنائي المرح الذي يسكن معي في البيت كل أنواع الجبن الأبيض بحثًا عن نوعهما المفضل، تحديدًا بعدما اشتكت يسر في المرة الأخيرة أن الجبن حادق أوي يا ماما، قالتها وهي تغلق عينها كأنها تسترجع لسعة الملح في فمها الصغير .

 والحكاية أن إله الجوع عند المصريين القدماء يزور بيتنا  قرب ساعات الصباح، عندما أكون نائمة أحلم بأمور مرتبكة، أجرى اتصالات هاتفية لا أنجح ابدًا في الوصول لصاحب الرقم الذي أرغب في مهاتفته، واقضي الحلم كله أضغط على أزرار الهاتف في محاولة يائسة أن أتمكن من الوصول لمن أبحث عنه، من حلم الهاتف المتكرر دائما، لحلم ساحة المسجد المضئ ليلا الذي يشبه أحيانا مسجد السيد البدوي وأحيانا مسجد السيدة زينب، هناك حيث أمضي وأتوه ، وأقابل بشرًا وحكايات أستيقظ منها مرهقة ولا أذكر إلا رتوش خافتة .

في أوقات نومي، تلك القلقة، العصيبة، يدور محمد ويسر في البيت، بحثًا عن شئ يأكلونه ربما قبل الفجر بساعة أو اثنين، أستيقظ في معظم الأيام صباحا لأرى أثار المعركة، أطباق متسخة في الحوض واثار أكواب عصير وشاي، وكيس الخبز فارغ إلا من لقمة ربما.

ومن تعليق ما مثل “اقفلي علب الجبن كويس” أو “الجبن حادق أوي يا ماما ” أعرف انهما خاضا معارك مع علب الجبن .

بالأمس استخدمت قصاصات الكتابة الآصقة وكتبت فوقها “جبن  فيتا”،”جبن ملح خفيف ” ، ثم وضعت ورقة مكتوب عليها جبنة نهى، بعدها تذكرت أن هذه الورقة ربما ستجرح مشاعر محمد وسيعتبرها طلبا مستترا مني ألا يفتح العلبة، وأني أحب وحدتي واشيائي ، وأعاني من مشاكل في الإندماج والتعايش وأشياء فلسفية من هذا القبيل ، مزقت الورقة وكتبت على العلبة

“جبن اسطنبولي” .

ما إن وضعت القصاصات على العلب، حتى جلست أفكر في الأمر  كيف استخدم أشياء الكتابة بهذه السهولة والبساطة في أشياء تخص أمور أخرى !

هل عاتبتني الكتابة هذه المرة، أم اني شعرت بذلك الوخز وتأنيب الضمير لما أعانيه هذه الأيام مع الكتابة في النصوص المتفرقة المجهدة التي أكتبها وامسحها بحثا عن صوت وروح لم اجدهما بعد …

الأوقات الطويلة التي اقضيها في المطبخ ، والمهام الفارغة التي تظهر طوال اليوم ، المسافات الطويلة التي اقطعها بحثا عن لا شئ ، والعالم الذي يدور من حولي وأدور داخله .. فيجئ الليل والنهار والشتاء الحزين، والصيف الحارق الطيب، والعمر الذي يتسرب من ساعة الرمل دون أن أنهى كتابتي ،او أنقل لصغيرتي كل وصفاتي .

صغيرتي التي تبدي ولعا مرعبا بالمطبخ ، تسألني عن التوابل فأعرف أن في قلبها روح ساحرة صغيرة ، اخبرها عن الكمون التي تسال عنه طوال الوقت لأني اضعه في علبة شكلها مختلفة وقريبة من يدها ، تمسكه وتسأل ايه ده يا ماما؟

كمون يا يسر

يعني ايه .. يعني زي الملح يا ماما .. بنعمل بيه إيه!

ابتسم بذعر وأنا اخبرها عن استخداماته ، وأتساءل بجدية ما حاجة طفلة صغيرة لم تتجاوز الأربعة أعوام أن تعرف عن مسحوق في علبه صغيرة على منضدة المطبخ .

عندما أضع مكونا سريا في تتبيلة الدجاج ، تقول لي ببساطة عن اسمه وتسألني اذا كنت استخدمته فاعرف أنها وقعت في الفخ، الروائح واللمسات والألوان والطعم هي تميز كل ذلك كأنها أنا، ربما أحب انا الزعتر وهي لا تفضله على المعجنات، ربما وقعت أنا في غرام البابريكا مؤخرا عندما احتجت روح الفلفل الأحمر فقط دون حرارته حتى لا يؤذيها .

في كل مرة افتح علبة البابريكا – في كل مرة- أهمس لها بإمتنان ، وهي تبتسم وتتفهم .

التوابل ذكية وحساسة  مثل النساء تبتسم وتتفهم، وتمرر كل كلامها في صمتها ولمستها

 

      في الصباح نقلت القصاصات الملونة من المطبخ، وأعدها لمكانها على حافة رف المكتبة، في الصباح ، غادرت صغيرتي للحضانة ، ومحمد للبحث عن أفكار تصلح للإقتناص ، وبقيت في البيت أجرب المضي في هدوء وصمت ، وأبحث عني وسط فوضى اللهاث ، والرغبة في اللحاق بشبح الكتابة الذي ربما لن يغادر وسيتلكأ قليلا ، حالما اغسل الصحون، وأدون المزيد من الوصفات  ، وأعثر على قطعة سحر تكفي لكتابة نص أحبه وينقذني من التيه .

مقالات من نفس القسم

محمد العنيزي
كتابة
موقع الكتابة

أمطار