البيت والموت وانقسام الشخصيات.. قراءة فى ثلاث روايات لـ مى التلمسانى

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 44
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. شاكر عبد الحميد

سعدت بالمشاركة منذ أسابيع قليلة مع العزيز الروائي المبدع طارق إمام في ندوة ناقشنا فيها ثلاث روايات للأديبة مي التلمساني هي روايات “دنيا زاد” و”هليوبوليس” و”أكابيلا” هذه إطلاله على عالم هذه الروايات.

فى “دنيا زاد” تحكى مى التلمسانى عن وفاة الطفلة (دنيا زاد) بعد الولادة، وتذكر كل ما أحاط بولادتها ثم موتها، حالة الحزن؛ حزن الفقد grief التى انتابت الأم، مع وصف لعملية الولادة وتفاصليها ثم حالة الاكتئاب التى تلتها الرواية تكتب من خلال ما يمكن أن نسميه بتيار الوعى المزدوج أو وجهة النظر، حيث ترد الذكريات والخواطر والأحلام والأمنيات والكلام الداخلى والتعبير عن المشاعر والأحزان مرة من خلال الزوج، ومرة أخرى من خلال الزوجة، كما أنها تتذكر الطفلة وتحلم بها، وتحلم بنفسها مكانها، وتحلم بحالة من التوحد بينهما.

هنا ولع بالذاكرة والماضى، بالألعاب والقراءات والحكايات والتفاصيل والبيت القديم الذى تم بيعه وحال لونه، وأصبح أثرا فى الذاكرة، تلك التى تظل حية متوهجة بالأحداث والصور. والذاكرة لدى مى التلمسانى مثلها مثل الرحم، والبيت والقبر والصناديق مثل عملية الكتابة: أماكن للاخفاء وأماكن للكشف، أماكن للأضواء وأماكن للبوح، البيت قد يكون مكاناً للراحة والسكينة وقد يكون أيضا مكانا للوحشة والشعور بالغربة والاغتراب والخوف، والذاكرة قد تكون صافية وقد تكون مختلطة، والرحم قد يلد الميت وقد يلد الحى، والقبر مكان للدفن ومكان للتذكر والحنين والشوق لمن كانوا أحياء يسعون على الأرض وفى القلب، والصناديق، وفقا لجاستون باشلار، ترتبط بفلسفة الامتلاك وسيكولوجية الحالمين بالاقفال وبشعرية الأثاث والحاجة السرية للاخفاء والكشف، بأحلام الألفة وبالخوف من ضياع البيت.

والموت موجود هنا على نحو آخر، وفى رواية هليوبوليس، إنه موت الروح، تحول الإنسان إلى آلة، أو إلى دمية متكلمة، تشعر ميكى أو “ماهى” أنها ماريونيت، وهو شعور كان يلازمها منذ لحظة غامضة فى الطفولة، ربما منذ ثلاثين عاما، ويما بعد يوم فى كل صباح يزداد يقيُنها بأنها قد تحولت إلى ماريونيت، عندما تجذب نفسها خارج الفراش، عندما تفتح صنبور الماء على وجهها، عندما تنظر فى المرآة، عندما تفتح فمها فلا يخرج لسانها على نحو تلقائى بل بعد ان أن تمسكه بأصابعها وتجذبه للخارج، عندما تتحدث إلى نفسها أمام المرآة بصوت حاد يشبه صوت القراقوز وأيضا عندما يزداد ادراكها لتخشب جسدها على نحو متزايد وكذلك ادراكها لتلك الخيوط التى تتدلى منه فى كل اتجاه “الأمر الذى يسمح لها بحرية أكبر فى تحريك نفسها دون وسيط”.

هنا ذات متكلمة من خلال ادراكها لتحولاتها (من “ماهى” إلى ميكى “ال ماريونيت”) هنا ذات تلجأ أيضا إلى التذكر، وكذلك محاولة فهم عملية التذكر “بوصفها وسيلة لإدراك مراحل التحول إلى ماريونيت، ليس ذلك التحول الاحادى كما قالت، ليس التحول فى ضوء طبيعة المادة التى تتكون منها العرائس، الخشب أو البلاستيك أو الورق، بل التحول الذى يطرأ على الروح، التحول الذى يضع قناعا على الوجه والجسد والذى يحول الصورة إلى ظل والظل إلى صورة، التحول الذى يجعل الأنا الوادعة الهادئة “تتحول إلى شخصية محورية متعددة الذوات تقتل واحدة لتحيا الأخريات ثم تقتل الأخريات لتبقى واحدة.

هنا نجد الذات المتكلمة من خلال الحكايات، والمتكلمة أيضا من خلال الأقنعة ومن خلال الكلام أمام المرآة “تقول فى وجه العالم وفى المرآة:  لا يكفى تراث خيال الظل والقراقوز والماريونيت وصندوق الدنيا للإجابة عن السؤال الواحد اللازم من أنت: كما أن أشباح الصور المتحركة التى أماتتها الكاميرا فى لحظة تصويب خاطفة لم تعد تنطق ولم تبح يوما بسرها، وسوتر اوهارا الهندى صاحب اليد المختص أعلى المسرح، يجذب الخيط فيحرك الساكن لكنه يصمت وقد التبس عليه الأمر”.

هنا دمية تحاول أن تكون إنساناً، وإنسان يتحاشى أن يتحول إلى دمية، وهنا تكون الدمى، وكما تقول “أولجاثا كيدو” بدائل للأقنعة القديمة التى كان يمكن للإنسان أن يقول من ورائها كل شئ لكنها قد تبعث ما هو قديم أيضا وموجود فى عالم الأحلام وترتبط الدمى كذلك بفكرة العرائس أو الماريونيت التى تحركها أرواح غامضة وخيوط خفية، تصلها بالأفكار والمخاوف الخامنة بالموت والحياة، الحضور والغياب، غياب البشرى وحضور الدمى الخشبية أو النسيجية أو البلاستيكية المختلفة آو الآلية المعدنية المخلقة التى يختفى وراءها الإنسان أو يوجد بداخلها، يظن نفسه حراً وهو محبوس بداخلها، عبداً لدمية أو شيطان أو زاحفة أو قناع وهنا تكون حركة الآلى والميت وغير الحى مجسدة لذلك الخوف الغريب فى عالم تختلط فيه الأشياء والكائنات فلا نعرف من الحقيقى ومن المزيف من الأصلى ومن الذى يحاكيه”.

من خلال فعل التدوين، من خلال القراء والكتابة، تحاول هذه الذات المتكلمة المتشكلة التى تعيش وجوداً ملتبساً أن تجد ذاتها، تجدها من خلال القراءة، الكتابة، الصداقة، الحب، التذكر، الاحلام، وكذلك التأمل فى تلك الآليات الخاصة بالتكرار، التكرار الذى يحول الحى إلى آلى، والإنسان إلى دمية فاقدة للروح، تتحرك، لكن دون إحساس أو وعى أو بهجة أو سرور، تتحول إلى ظل طليق بلا أصل محدد  Simulacra تتحول إلى قناع يخفى الشخص الأصلى.

فى الرواية رصد لتاريخ حى مصر الجديدة، قصر البارون امبان ووصف لكيفية ظهور هذا الحى وتطوره، تحولات طراز العمارة من الطراز الاسلامى إلى الطراز الكولونيالى الأوربى، وكذلك انتقال عائلة الراوية من العباسية إلى مصر الجديدة وإقامتها فى عمارة هناك حيث سكن أفرادها بأسرهم فى ثلاثة طوابق.

فى دنيا زاد كان هناك حديث عن ولادة طفلة وموتها وفى هليوبوليس حديث عن ولادة المدن وموتها أيضا، وسرد لتاريخ المكان الحديث منذ عام 1905، عندما فكر المالى البلجيكى البارون إمبان فى انشاء هذه المدينة الجديدة شمال القاهرة وكذلك عندما وضع المهندس البلجيكى جاسبار تصميمها العربى الجميل، فى الرواية رصد لأحداث موت كثيرة، موت عبد الناصر (1970) ثم مقتل السادات (1981) مظاهرات يناير 1977، وأحداث الأمن المركزى ثم موت أفراد فى العائلة ثم موت الروح وتحول الطفلة ما هى إلى دمية متحركة متكلمة وماريونيت، ثم كيف تتحول الأحداث والذكريات والأشخاص إلى صور تعلق على الحوائط، هناك أيضا رصد للصور وتحولات الصور، تحول ألوانها ومحتوياتها وتحطم الأطر (البراويز) التى تحيط ببعضها، الصور التى تحمل كل شئ ولم تعد تحمل أى شئ سوى الشجن والحنين.

يرتبط عالم الظلال والظلام والأحلام والكوابيس، بتحولات الإنسان من اليقظة إلى النوم ومن الوعى إلى الحلم تقول.

كما يوجد لدينا هنا بيت قديم وبيت حديث وطفلة تحولت إلى إمرأة ثم إلى ماريونيت وأم لها صوتان وشخصيتان، وهكذا يكون الانقسام والتعدد والتكرار آلية ومكوناً أساسيا فى هذه الرواية بل فى روايات مى التلمسانى عامة، فى الرواية الأولى “دنيا زاد”، هناك تكرار للحمل ولموت الأطفال بعد ولادتهم وهناك شخصيتان يرويان الأحداث ويتذكر أنها، الزوج والزوجة فى هليوبوليس، الشخصية المحورية (ماهى، ميكي، منقسمة والآم كذلك منقسمة، والانقسام موجود أيضا ما بين الأصل والصورة، الصورة والظل، الشخصية والقناع، وهى أمور موجودة أيضا فى أكابيلا وكذلك البيت القديم والبيت الجديد شقتها الأولى وشقة عايدة التى اشترتها بعد وفاتها.

مثلما يتحكم محرك العرائس (ولاعب القراقوز) فى حركاتها أصواتها فكذلك كانت الأم قادرة “على تكوين صوتها وعلى مصاحبة كل صوت بحركة تلقائية تبدو لفرط تلقائيتها شديد المسرحية الصوت الأول هو صوت “زينات” التى تقول ما تعتقده دائما ولكن على لسان الأخرين لأنها تأبى الافصاح عن رأيها بشكل مباشر، كما علمها أبوها وكما ربتها “جدتي”، والصوت الثانى هو صوت “زوزو” التى تنقل ما يقوله الآخرون بحياد زائف لا يلبث أن ينكشف وراءه رأيها الشخصى فى نبرة استنكار أو نبرة تعاطف، فيبدو من صوت “زوزو” أنها تتبنى موقفا متمرداً من كلام الغير، أو تعتبره ساذجا أو طريقا من وجهة نظرها التى تسعى جامدة لأن تجعلها معلنة”.

مع الذاكرة هناك الصور، والصور مستودع من مستودعات الذاكرة، مثلها مثل الصناديق التى تحمل أشياء أو كتابات وصورًا ومتعلقات، وهناك صور كثيرة معلقة على الجدران فى بيت الجدة وغيرها من بيوت العائلة، لكن الصور يطرأ عليها أيضا ما يطرا على البشر من تحولات وتغيرات، تجف الهالات التى تحيط بها وتتحطم أطر، وتختفى ملامح بعض شخصياتها، وتتحول ألوان بعضها إلى الأبيض والأسود، إلى ذلك التجريد الذى يعبر عن الدراما الإنسانية التى تصطدم فيها الحياة مع الموت  والوجود مع العدم، صور معلقة على الحوائط، وصور موجودة فى القلب، وفى الذاكرة، صور تبقى بعد موت البشر، وصور تتحول إلى أشباح، وأشباح يتحولون إلى صور، ومثلما قد يتحول الإنسان إلى دمية أو ماريونيت أو قناع؛ فكذلك تكون الصور أقنعة للبشر، معبرة عن حالة مؤقتة من حالاتهم، حالة يحاولون خلالها جاهدين أن يكونوا مبتسمين أو يكتمون البسمات فى فرح حقيقى أو متظاهرين بالفرح، مزهويين بأنفسهم، وفى قلوبهم انكسار، مرحين، بينما الحزن يزلزل وجودهم والأسى؛ نجدهم فى حماسة أو كآبة، أو بِشر أو حزن، هكذا نجد هنا صورًا للحيرة، للألم، للكآبة، ووصفا كذلك للأطر الذهبية والفضية التى تحيط بالصور، ونجد كذلك حالات تحولات الصور وانتقالها – بعد تحطم اطرها – من برواز إلى آخر.

هكذا تكون الصورة أيضاً قناعاً يخفى الشخص الحقيقى؛ تكون قناعاً حتى لو كان التعبير الذى كان على وجهه حينما التقطت صورته تعبيراً حقيقياً، وذلك لأن ذلك التعبير كان متعلقاً بتلك اللحظة التى كان فيها مبتسما أو مزهواً أو حزينا، أما الآن فلم يبق منه سوى أثره أو ظله أو صورته، لكنها صورة موجودة خارج زمنها الخاص، لأنها قد تكون صورة قد التقطت لشخص كان حياً مفعماً بالوجود ثم تحولت حالاته أو مات ولم يعد موجوداً إلا فى الصور، الصور التى هى هنا أشبه بظل له أو قناع، لكنه قناع حديث موضوع على وجه ميت، مثلها، الصور مثل وجوه الفيوم القديمة التى كانت توضع على وجوه الموت للدلالة على أنهم ما زالوا أحياء خالدين.

هكذا يكون الصوت قناعاً، وتكون الصورة قناعاً أيضا، وتكون الشخصية قناعاً، ويتحول صاحب القناع إلى دمية متكلمة.

تهتم مى التلمسانى فى أعمالها بوصف البيوت ومع وصف البيوت تهتم بوصف المطابخ والملابس والموائد وأدوات الطعام، وأنواع الطعام والشرفات والأسرة والآثاث والهدايا والكتب والورود واللوحات والموسيقى والأغانى والمغنيين والأحلام والصور والمكتبات، والبشر لديها أشبه بممثلين فى مسرحية كوميدية أو تراجيدية، وهناك من يقوم بإخراج المسرحية وادارة الممثلين فيها، ومثلما تتغير وظائف البشر وشخصياتهم فكذلك تتغير وظائف الأشياء وأدوارهم ومواقعهم وتتغير وظائف الأشياء وأدوارهم ومواقعهم وتتغير الأماكن والأزمنة ولا تبقى سوى الظلال والبقايا التى تتوه وسط أوراق وأحداث متراكمة، وفى كل رواية وكل مشهد هناك حفر فى طبقات الذاكرة وحكايات وتثبيتات على الماضى، على البيت والآلفة والحنين والسكينة والسكن، وثمة محاولة دائما للامساك بما قد مضى وللإحاطة بما قد انقضى، ثمة ولع خاص بالصور، الصور الفوتوغرافية وصور التليفزيون وصور البروجيكتور وصور الذاكرة، عالم الصور والأفلام والأحلام وهناك ولع كذلك بالصناديق، صندوق أدوات نجارة الجد مثلا بكل ما كان يحتوى عليه من أدوات وآلات واجهزة، وكذلك الصندوق الذى ستفتحه ميكى.

هناك ولع بالأشياء التى تشبه البشر والبشر الذين يشبهون الأشياء، الأشياء التى تبقى بعد موت البشر، والبشر الذين يكدسون الأشياء ثم يتركونها لتبقى بعد موتهم دالة عليهم وعلى عالمهم.

هكذا وكما تقول الساردة فى هذه الرواية: “لن يبقى فى ذاكرتنا سوى بعض من تلك الحيوات المختزلة فى الأشياء، تلك التى تصبح وتمسى على مرأى منها، تتربص بها وبما تبقى لنا من قدرة على التذكر وسوف لا ترحل برحيلنا ـ لابد من البكاء الآن على موتنا المتوقع، وسوف تظل مفتوحة العينين على القادم خلف ظهورنا، خلف أطيافنا المتعاقبة ستشبه أشياءنا التى تشبهنا، ونكرر أنفسنا بتكرار ظلنا فيها ونتعرف على وجوهنا المتكسرة فى انعكاساتها، وسنحافظ على التركة طالما حافظنا على حياتنا، نحن نساء العائلة”.

وتظل تيمة الصوت موجودة أيضا فى رواية “أكابيلا” بداية من عنوان هذه الرواية والذى يشير إلى الغناء بدون آلات موسيقية، محاكاة الصوت للآلة، تحول الصوت وصاحبه إلى آلة، لكنها آلة تحيل أيضا إلى طبقات وانفعالات ما قبل الحكى وما قبل الكلام، تلك المنطقة التى كان فاجنر دائما يحاول استكشافها، وهى المنطقة المهمة أيضًا فى الترانيم الكنسية الدينية والكانتانا، وفى أصوات المنشدين وهم يترنمون بالأدعية والصلوات.

فى الرواية أيضا نجد شخصية عايدة التى يوجد لها أسمان أيضا: عايدة “أيدا” والتى لها شخصيتان أيضا، احداهما متخيلة متوهمة والأخرى حقيقية والحقيقة مصابة بجنون السرقة وتعدد العلاقات، وهى تسقط كل أخطائها وعلى الشخصية الأخرى، حالة أشبه بالفصام المبكر مضام البارانويا.

تقوم عايدة بسرقة أشياء كثيرة من صديقتها الراوية ومن غيرها، تتحول هذه السرقات إلى مادة للذاكرة، وتتحول الذاكرة إلى ما يشبه المتحف لكنه متحف للمسروقات، المسروقات التى تظن الذات/ الرواية أنها سرقت منها، خاتم ذهبى ذو فصوص حمراء، طقاطيق، رزمة نقود، أفلام وكتب وأشرطة موسيقى ومناشف صغيرة وزجاجات عطر وامشاط وملاعق من الفضة وتماثيل خزفية وأدوات زينة وألعاب أطفال وملابس داخلية وعملات قديمة وحديثة.

لوهلة تصورت الراوية أنها لا تعرف عايدة وأنها ليست صاحبتها على الرغم من معرفتها بها “بدت مثل شخص غريب اعترض طريقى برهة قصيرة من الزمن ثم اختفى وراء ركام من الأشياء الضائعة” كنت أعرف أنها كاذبة محترفة، وأضيفت إلى تلك الصفة صفة السرقة، واكتشفت أن هذا فى ذاته يبهرنى ويجتذبنى اليها بشكل غريب كأن هذا الجانب الجديد من شخصيتها رغم علاته يعدنى بمغامرة مثيرة”.

ولعايدة صوت يستغفل الجميع، أقرباء وغرباء، صوت يستغفلهم” ويعلن انتصاره على الملأ” صوت يقرر أن الجميع أغبياء ما عدا عايدة، وعايدة أيضًا “ذات صوت مكتوم، خالٍ من النغم، يسخر ويستهين ويصر”.

تكتب الراوية عن عايدة، وعايدة تكتب عنها وعن الأخرين تكتب عنها داخل المذكرات وخارجها ويكون فعل التدوين وسيلة لاكتشاف الذا وكذلك اكتشاف الأخر الموجود داخل الذات وثمة اعجاب هنا بذلك الأخر الذى يمثل الحرية والخروج على كافة الأطر والصور والأنماط والأعراف والقوالب، ومثلما سرقت عايدة منها أشياءًا كثيرة أو فاتها كذلك قد سرقت كراسات مذكراتها، ومثلما عرفت عن عايدة عيوبها: السرقة والكذب والاستهانة والتحرر؛ فإنها قد توحدت معها تدريجيا وكأنها القسم الأخر من روحها أو وجودها أو شخصيتها، كانت تستنكر سلوكها ، لكنها كانت أيضا معجبة بها، حتى أنها بعد موتها تشترى شقتها وتقيم فيها، وكأنها كانت تمثل بالنسبة إليها التجسيد الحى لروح الانحراف التى تحدث عنها ادجار آلان بو في قصته القط الأسود .

قد تكون هذه روح انحراف وقد تكون محاولة لتعديل مسار الروح والحياة من خلال المغامرة والكتابة وايجاد التوازن اليهما بعيداً عن الانماط والقوالب والقيود والحدود “كنت فقط أتلذذ بالتحول لسارقة كي أشبه عايدة، وقاموس الأخلاق الذى تربيت عليه يتهاوى أمام عينى مع كل صفة أتلصص فيها عليها”.

الساردة الرئيسية مترجمة لكنها أيضا مولعة بالسينما، وبالافيشات والملصقات، الكبيرة والصغيرة للأفلام السينمائية، وهى لا تهتم بأكاذيب عايدة فى ذاتها بل بطريقتها فى الكذب، ذكاؤها فى تلفيق القصص، الحبكة التى تجددها وتطورها كل مرة عن زواجها الأول والثانى، وعن ظروف طلاقها، عن مصدر دخلها رغم عزوفها عن ممارسة أى عمل ثابت كانت معجبة بذكائها وحكاياتها، وخيالها وحريتها وقدرتها على خداع الأخرين أيضا هل عايدة شخصية حقيقية أم متخيلة مختلفة، هل كانت مجرد تجسيد للجانب الخفى أو الظل الخاص من شخصية الراوية؟ ربما عايدة تعشق الأوبرا وتتحدث الانجليزية بطلاقة لماذا قامت الراوية باعادة كتابة وتدوين مذكرات عايدة، لماذا لم تصورها؟ لماذا قامت بنسخها، ليست هذه وسيلة لاعادة اكتشاف ذاتها، جانبها الخفى، ظلها من خلال الكتابة؟

عايدة منقسمة وكذلك الراوية وتجسد الاحلام الموجودة فى الرواية هذا الانقسام وفى الاحلام تجئ البيوت والذكريات والأحداث والأشخاص والأشياء التى تبقى بعد موت البشر نجدها فى أحلامها ونجدها أيضا فى صناديق عايدة وحقائبها بعد موتها، أوراق ولوحات وكتب وملابس وساعات وحلى وغيرها والبيت يتحول خلال الحلم إلى ما يشبه نصف الدائرة الذي تحاول الراوية الخروج منه بلا جدوى.

لدى باشلار ترتبط الصناديق بسيكولوجية التلصص والسرية وأحلام الآلفة والرغبة فى تفادى مشاعر الوحشة والهروب منها، وقد قامت الساردة الرئيسية فى هذه الرواية بالتلصص على ممتلكات عايدة، على صناديقها وادراجها وسرقت كراسات مذكراتها، فقامت بعملية السرقة التى كانت تتظاهر باستنكارها علنا، لكنها كانت معجبة بها وبكل ما تقوم به غير ذلك، بيتها وبين نفسها، هكذا تبدو عايدة وكأنها تمثل الجانب الخفى المراوغ الحر اللعوب المهوّم المتصلة الساخر اللاهى من شخصية الساردة، بل إن عايدة نفسها ربما كانت شخصية مختلفة متوهمة ابنة احلام اليقظة وشقيقة الروح، ربما لم توجد أصلاً، فقد خلقتها الكاتبة وشكلتها من خلال فعل التدوين ومن ثم توحدت معها فصارت عايدة قناعاً تختفى وراءه الساردة كى تقوم من خلالها بكل ما لم تستطيع أن تقوم به فى حالات اليقظة أو الوعى، وقد تكون عايدة نفسها تجسيدًا لفعل الكتابة نفسه، ذلك الذي يسرقنا من أنفسنا، ويسرق أحلامنا، وحياتنا، ويجعلنا مندمجين فيه مستمتعين به فننحرف برهة أو يزيد عن حياتنا العادية، نتمنى أن نصبح نحن وهو عالماً واحداً وكياناً واحداً، غافلين خلال ذلك كله عن كا ما قد يلحق بنا من انقسام أو غياب أو موتُ لحياتنا اليومية العادية.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم