الانحياز للفوضى في “قبل أن يخرج الأمير للصيد”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 78
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

في كتابه “اللهب المزدوج” يقول أوكتافيو باث، إن “العقم ليس فحسب علامة متواترةً في الإيروسية، بل هو شرط من شروطها … في الإيروسية يتم التحرر من الميول العنفية، [أي] أنها تكف عن خدمة الإنجاب لتصير غاية مستقلة بذاتها”. ويقول إن الجنس يقول بالتناسل دائما، أما الإيروسية فتضع التناسل بين قوسين.

ويقول إن “علاقة الشعر باللغة هي علاقة مماثلة لتلك القائمة بين الإيروسية والجنس. ففي الشعر … نجد اللغة تزيغ عن هدفها الطبيعي: التواصل … الشعر لا يتطلع إلى أن يقول، بل إلى أن يكون، واضعا وظيفة التواصل بين قوسين، كما تفعل الإيروسية مع التناسل“.

هل هذا شأن الشعر وحده؟ ألا يزيح النحت مهمة الحجر الغرضية ـ دوره كجزء من جدار أو كهف أو جسر ـ ليجعله غرض نفسه؟ أليست هذه طبيعة الفن بعامة؟

لو جاز أن تجاب هذه الأسئلة بالإثبات، فلا أجد داعيا حقيقيا يدعوني إلى كتابة المزيد عن متتالية محمد عبد النبي القصصية “بعد أن يخرج الأمير للصيد“.

*

أتصور أن من يقرأ قصص هذا الكتاب، قد يسأل نفسه في لحظة من اللحظات، أثناء القراءة، أو ربما بعدها، عن البنية، أو التركيب، عن مبرر الانتقال من فقرة إلى فقرة داخل القصة الواحدة، عن معنى هذا الظهور المفاجئ لضمير المتكلم، ثم الانتقال ببساطة إلى ضمير الغائب المهيمن على المجموعة، أو ضمير المخاطَب المفرد، أو جمع الإناث، أو حديث السارد إلى “فؤاد” ـ الشخصية الرئيسية في قصص الكتاب ـ ثم حديث السارد إلى نفسه، وعن الكثير والكثير للغاية من ألاعيب السرد. قد يسأل القارئ نفسه عما إذا كان هناك منطق يحتّم ترتيب القصص نفسها على النحو الموجود في الكتاب؟

وسط هذه الفوضى (وحين أقول الفوضى فأنا أنحاز لـ “فؤاد” الذي يعتبر نفسه ابنا بارا لها)، أتصور أيضا أن لدينا شذرات كثيرة نستطيع أن نجمعها، ونرتبها كرونولجيا مثلا، فنرى فؤاد مأخوذا إلى بيت كودية الزار طفلا صغيرا علاجه الزار، ثم طفلا تفلت من يده طرحة أمه فيتيه في السوق، نراه خلف أبيه على الدراجة النارية حيث يتركه أبوه في المعهد الأزهري تائها أيضا، وبلا حماية، ونراه في القرية يرسم امرأة فتقطع المرأة رسمته ظنا منها بأنها استهزاء بها، وكذلك في الفصل بالمدرسة الابتدائية ولكن هذه المرة يرسم فيُحتفى به، وفي الثانوي يرسم أيضا ولكنه يعاقب، ويلتذ بالعقاب، ونراه في الثانوي مدمنا للف والدوران والتسكع في السوق، مدمنا للتيه الذي تعرض له في مرحلة أسبق، ثم نراه يتدرب على الترجمة في مركز لحقوق الإنسان، وعضوا في خلية ماركسية، وصعلوكا يأخذ العطايا من عجوز عريقة الأصل، نراه في المساجد القديمة والكنائس الأثرية، يدخل استوديو المصوراتي اليوناني، ويدردش مع حارس الأثر، يناقش مع نفسه ابراهيم أصلان وعبد الهادي الجزار، ينتظر شخصا في محطة الأتوبيس [الإسعاف]، وهكذا

كما يمكن أن نتتبع بالقص واللزق خطوطا أخرى، تقنية مثلا، يمكن أن نجرب قراءة متتالية لكل ما يرد مرويا بضمير المخاطب، أو ما يرد موجها إلى المخاطب، أو ما يرد موجها إلى جمع الإناث، يمكن أن نجرب قراءة متتالية للمقاطع شبه الشعرية الواردة تقريبا في كل من نصوص الكتاب. يمكن أن نجرب هذه الألعاب ونرى إلى أين ستفضي بنا.

ولكن هذا الترتيب الخطي، وأي ترتيب خطي يفرضه القارئ على المتتالية في لعبة القراءة، كفيل في ظني بأن يجعلنا نحن القراء نتساءل: وماذا بعد؟ بينما السؤال الذي أقترح أن نطرحه ونحن نقرأ هذا الكتاب هو: “وماذا أيضا؟”. ذلك لأن “محمد عبد النبي” نجح أن يحقق الشرط الذي يضعه أوكتافيو باث للشعر، أو الفن: أن يكون لا أن يقول.

*

أثناء قراءة المتتالية، بدا إلي العنوان مشكلة، فكرت مرة أن حلها يكمن في تشكيل الفعل المضارع “يخرج”، هل يخرج الأمير ـ بفتح الياء ـ برغبته هو ومن تلقاء نفسه، أم يخرج ـ بضم الياء ـ بفعل قوة ما ترغمه على ذلك. وراودني أن الحل ربما يكون في مفردة الصيد، فالعنوان لا يطرح الأمير (اللقب الذي خلعه فؤاد على نفسه دون أن يكون مضطرا لإثبات أحقيته بهذا اللقب كما يقول في موضع ما من الكتاب) كصياد فقط، ولا كفريسة فقط. هو يقول إنه يخرج للصيد، أو يُخرج له، يمكن أن نتخيل اللحظة التي يخرج فيها الصياد من كوخه، واليمامة من عشها، كلاهما في واقع الأمر خارجان للصيد.

عندما دخول فؤاد محل المصوراتي، في أول قصص المتتالية، يفترض القارئ أنه الصياد داخل ليصطاد حارس الذكريات العجوز ولكن:

كأن هذا الرجل كان في انتظاره، عارفا بأمره الغامض، عارفا حاله الذي يجهله هو نفسه أو يتجاهله” حالة الانتظار التي يكون عليها المصوراتي، وحال المعرفة بأمر الداخل المجهول، يجعلان من المصوراتي أيضا صيادا كامنا لفريسة، وليس فريسة هو نفسه. وفي موضع آخر نصادف “الأمير يتصعلك، يصطاد، يفترس الآخرين ويفترسونه” وفي آخر نراه يتساءل “كيف أستدفئ أنا العريان بصوف الريح باردة عليَّ من دون أنفاس الطريدة تأتي مسلمة نفسها دون جرح ولا طراد ولا سؤال ولا وقت يمر بي وديعا كما صياد اليمام يجرحه اليمام لأن الصائد بلا جناح يشيله من على الأرض كاليمام”. وفي موضع آخر يقول “كلٌّ يصيد بعضه البعض: شحاذو المتعة السريعة، شيوخ الوظيفة أو سجناء الرتبة العسكرية، الأنفار الصعايدة المغتربون، الخادمات والمطلقات والأرامل والباحثات عن وجبة ومكان للمبيت لحد الصبح“.

إن ما يجمع فؤاد بكل هؤلاء، على اختلافهم البين، شيء واحد يتحدد في واحدة من القصص بأنه “موهبة السعي العنيد وراء شوكة اللذة

هل ينبغي أن نتأمل في الجذر الأصلي لكلمة الموهبة، في معناها اللغوي لا الاصطلاحي؛ فمعناها الاصطلاحي لا يتجاوز المقدرة، بينما المعنى اللغوي يوسعها لتصبح ذلك الشيء الذي يتم نواله بدون طلب وربما بدون رغبة، الشيء الذي يوضع في والت، فيصبح ديزني أو يصبح ويتمن، هو وحظه، ونحن وحظنا.

كل هؤلاء إذن باحثون عن شوكة اللذة، ومثلهم فؤاد، غير أن وخزة الأشواك تروح “يا خسارة، بسرعة هكذا؟” غنيمة الصيد إذن سريعة التبدد لدرجة أن يتساءل السارد أو فؤاد لا أدري “هل كنا هنا بالفعل؟” حيث نلنا شوكة اللذة.

إذا كان الأمير يعرف أن اللذة عابرة بهذا الشكل، فهل ما ابتلي الأمير بالبحث عنه أو ما وهب البحث عنه هو اللذة؟

*

لا. لا. أريد الحرية فحسب.

الحب المجد المال، مجرد سجون.

اسمحوا لي بالخروج لكي أمضي معي.

هذه أبيات ليست من كتاب محمد عبد النبي، بل من قصيدة لألبارو دي كامبوس، أحد أنداد البرتغالي فرناندو بيسوا. أما فؤاد فهو كما يرد في ص 64 “يحب الذهاب بمفرده إلى ساحة السوق، أن يتحرك خفيفا وصامتا، دون حبل كلام يشده إلى أي شخص، ودون أن يواكب خطواته مع إيقاع آخر لخطوات رفيق درب ما” هو إذن مثل ألبارو دي كامبوس يحب الخروج ليمضي مع نفسه.

من ناحيته يقول ألبارو دي كامبوس:

أبغي استنشاق الهواء لوحدي

لا نبضات عندي،

لست سوى أناي

لم أخلق إلا لأكون من أنا إياه

ممتلئا بأناي.

ألبارو دي كامبوس، هو الند الذي يقال إن بيسوا اخترعه ليبث من خلاله أو ليضع فيه “كل الانفعالات التي لم يسمح بها حتى لنفسه”. كامبوس هو الشاعر الأكثر حسية بين أنداد بيسوا، وهو الذي ولد بعد قراءة بيسوا لـ والت ويتمن، ويتمن بالذات، شاعر الديمقراطية الأمريكية الأول، وشاعر الحسية الإنسانية المخلص.

يقول كامبوس عن نفسه إنه الشاعر الميتافيزيقي الذي يبغض الميتافيزيقا. هكذا يبدو لي فؤاد بطل المتتالية القصصية، شخص يشغله طوال الوقت سؤال كبير، سؤال الحقيقة والخداع مثلا؟ ألا تبدأ المتتالية كلها بسؤال كبير عن خداع الفن؟ ولكن فؤاد دائما يسخر من سؤاله الكبير، يفتته دون أن يحاول الإجابة، يشيح عنه، يشغل نفسه بشيء آخر. في لحظة يقول السارد:

كان فؤاد يبكي ثملا لأنه ولد وحده ويموت وحده ويبعث وحده” وفي السطر التالي لهذا السطر الأسيان يقول السارد بنبرة سخرية واضحة: “وكأنه اكتشف شيئا جديدا أو غريبا“.

أو حينما يقول فؤاد ضمن مقطع مروي بضمير المتكلم:

الذنب إذن ضروري مثلما هي المغفرة. والخطيئة واجب الإنسان الأول على هذه الأرض فقط ليتوب، ويندم ويعود إلى بارئه مغسولا بدموع العذاب”. وتعليقا على هذه التأملات يقول فؤاد أيضا: “مراهق بقى” ماذا تنتظرون مني؟“.

هل ما يريده فؤاد ـ مثل نديد لبيسوا ـ هو أن يعض الأرض بتمامها؟ ألا يرد في إحدى قصص الكتاب قوله: “ومع هذا يتجسد الحبيب، من وراء حبسة الزجاج … من داخل السطور … من خلف الجدران الحجرية المزخرفة بأسماء الله الحسنى، من الستائر المخملية المرسومة بالصلبان، يحطم كل أعمدة الرخام في أركان العالم ليتجلى في كل حي، يهشم الأيقونة التي طالما مزقت ضلوعه ويمد ذراعيه على شكل صليب ليحتضن الدنيا بما فيها

هل ما يسعى فؤاد بعناد إليه هو كما يقول أن “يحِب ويحَب، يجرب ذلك الشيء الغامض الذي يتكلمون عنه باستمرار” كما قال لأصحابه بعد شرب زجاجة “سفن ستارز”، أم هو الشخص الذي “كله حذر من خيوط المودة” التي يشبهها بـ “نسج العنكبوت

الحقيقة أن من بين الصعوبات التي يواجهها قارئ هذا الكتاب هو أن فؤاد يعلن في أكثر من موضع فيه أنه كذاب، وهذا يضعنا في قلب المشكلة المزعجة، فحين نصدق من يقول إنه كذاب نكون كذبناه، وحين نكذبه نكون صدقناه، وفي كل الحالات نكون مخالفين للمنطق. فؤاد يكذب، هو يقول هذا، وهذا قول لا يمكن الخلوص منه إلى شيء، ولكن كفافي يحل هذه المشكلة حين يظهر في النص ليقول إن “المهم أن يقال الكلام الجميل، ولا يهم إلا قليلا من يقوله وبأية لغة وفي أي زمان وعلى أي أرض“.

*

إذا كان ما يسعى إليه فؤاد هو شيء أكبر من اللذة، أو شيء آخر مع اللذة، فما هذا الشيء؟

نجيب محفوظ طرح مرة سؤالا مهما في إحدى رواياته، أظنها الثلاثية، وأظن السؤال كان مطروحا على لسان كمال عبد الجواد: كيف يمكن الوصول إلى نشوة الخمر دون اللجوء إلى الخمر؟

كيف يمكن الحصول على اللذة، دون الاضطرار إلى دخول السوق، وخوض ساحة الصيد فريسة أو صيادا، أو كليهما معا كما هو الحال طوال الوقت، كيف يمكن اجتناب الورطة الأبدية: لما نلاقي المكان ما نلاقيش الآخر ولما نلاقي الآخر مانلاقيش المكان؟

ربما هذا ما يبحث عنه فؤاد بعناد: اللذة بدون مشقة الحصول على اللذة، اللذة بدون حسرة انتهائها، ربما هو باحث عن مقام اللذة.

*

مرة أخرى، يقول دي كامبوس، والترجمة دائما للمهدي أخريف:

عذِّبوني

مزقوني وشرِّحوني

بعثروني على البحار،

اتركوني في الشواطئ الجشعة للجزر

أوه يا وُشَّام مخيلتي المجسدنة!

أخضعوني كمن يقتل كلبا برأس قدم!

صيِّروني شيئا ما، كما لو كنت مجرورا، يا للذة، يا للألم

محمد عبد النبي يقول:

لا بد أن يذهب كل من ماعز والغامدية ليعترفا بجرم الزنا فيأمر الرسول بإقامة الحد لتكتمل الدائرة: الألم العظيم نهاية فعل الحب، لسعات السياط على جسمك العاري ليست موجعة يا أمير، ليست شريرة أو قاسية، بل كلها محبة وكلها حق“.

اقتران اللذة بالألم، أو التماهي بينهما، ملفت للكتاب منذ زمان، وهو ما يستشعره دي كامبوس مثلما يستشعره فؤاد، ولكن فؤاد أو السارد أو النص يريد أن ينقي كلا من الألم واللذة

حاولوا أن تجعلوه يفهم، يا أولاد الحلال، إن الألم ليس هو اللذة، وإن الحب مفردة أخرى غير الموت”. كأنه قلب فؤاد معلق بالنقاء، في الألم، مثلما في اللذة.

*

رواية البيكاريسك Picaresque جنس روائي نشأ في أسبانيا، ويقال إنه تأثر بالمقامة العربية، بطل هذه الرواية شخص متشرد ينتمي إلى بيئة متواضعة ويعيش في مجتمع فاسد، وتتبع الرواية مغامراته، والمصطلح الآن يشير إلى تكنيك سردي لا إلى جنس أدبي، فهو يشير ببساطة إلى أي مسلسلة سردية حول مغامرات بطل روائي، أو شخصية روائية أساسية. البعض يعد الطبل الصفيح لجونتر جراس رواية بيكاريسك، وإيفالونا لإيزابيل أليندي، وكذلك أوليفر تويست لتشارلز ديكنز.

هذا ليس هامشا، كما هو واضح، إنه إشارة.

بعد أن يخرج الأمير للصيد، متتالية قصصية، محمد عبد النبي، دار ميريت، الطبعة الأول

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم