الاستبداد يولّد جلّادين … والفن هو الأمل

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 41
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد برادة

قـد لا يكون موضوع رواية الكاتب المصري وحيد الطويلة “حذاء فـيـلليني” (دار المتوسط) جـديداً في سـجـلّ الثيـمات المتصلة بـمآسي الطغيان وتـرسانة التعذيب ووحشـية الاستـبداد، في المجتمعات العربية وفي العالم. إلا أن الشكـل الذي اخـتاره ونـسَـجَـه من خـيوطٍ مـتشابكة، أبـرَزَ جوانب كـامنة في أعماق الجلاديـن وفي مشاعـر الضحايا، من خلال ضـوء كشّافٍ يـتوسّـل بالسـرد المتعدد الأصوات، وبالتـقطيع السـينمائي الذي يُـجـمّـع المشاهد والأحداث ضـمن فـضاء مُتوازٍ. ومن ثـمّ، اتخـذ الشكـلُ وطـرائق السـرد أهـمية راجحـة، سـاعدت على الـحـفـر في تلك العلاقة الـملتـبسة بين الجلاد والضحية، بين النـظام السياسي الذي يُـفـرخ الاضطهـادَ والتعذيب، والضحايا الذين يقاومون التشويـهَ والموت...

تـتكوّن الرواية من ثلاثة عشـر فصلاً ومُـلحق يحمل عنوان “المشهد الأخير” هـو عبارة عن إعادة تشخيص لحظاتٍ أساسية من النص الروائي عـبر لـقطاتٍ وثلاثة مشاهد، يُـشـرف على إخـراجها فـيـلليني بأسلوبه الفانتاستيكي المُـكتـظ بالأصوات والموسيقى والتفاصيل الحيوية… وحضور المخرج الإيطالي الشـهـيـر بكثافة في ثـنـايا السرد، وبخاصةٍ في “المشهـد الأخيـر”، يـنطوي على أبعاد رمـزية استـثـمـرها الكاتب لإقامةِ جـدلية محورية بـنى عليها دلالات الرواية، كما سنحـلل ذلك لاحـقـاً.

يـأتـينا السـرد في معظم فصول الرواية، باستـثـناء فصلـيْـن، على لسان مُطاع الطبيب النفساني الذي هو ضحية الضابط الجلاد خلال اعتقال تعسفي دام أقـلّ من شـهر. وهناك فصلان يتـحدث من خلالهما الضابط الجلاد وزوجته التي عانتْ أيضاً من سـلوكه الـمهين لها فـوق الـفـراش. وفي فصليْـن آخـريْـن، يـتخذ السردُ شكلَ حوار بين مطاع والشيطان، ثم بيـنه وبين فيـلـليني المخرج السينمائي، وفي فصل آخـر بـينه وبين مأمون مساعد الجلاد ومنفذ أوامـره… على هذا النحو تغدو لعبة الـسـرد في “حذاء فـيلليني” مُـتـداولة بين شخصيات مُشاركة في الـفعل (مُطاع الذي تحول اسمه إلى مطيع أثناء التعذيب، والضابط وزوجته ومـأمون)، ثم شخصية مـستعارة من ذاكرة مطاع هي شخصية فـيلليني الذي هـو بـمثابة “الأنا الأعلى” لـدى الطبيب النفساني المغـرم بـأفلامه ورؤيـته الشعرية إلى الحياة. والنقطة الـمركزية لتحريك “الفـعل” داخل الرواية، تـتـمـثل في زيارة زوجة الضابط لـعيادة مـطاع ومعها زوجها الجلاد المُـنهار بعد إقالته مـن مـنصبه الـسلطوي وإصابته بـالعنـة والعجـز عـن مـتابعة الإذلال الجـنسي الذي كان يمارسه على زوجته…أصبحت الفرصة،إذن، سانحة لـكي تـنـتقـم الزوجة من جلادها، وقد جاءت لتـسـتـعـين بالطبيب الذي لا تـعـرف أنه كان أيضا ضحية لـزوجها. وستـكون لحظة المواجهة هـذه، داخل العيادة، فـرصة لـتـفجـير سلسلة من الأسئلة والمشاعر لدى مطاع الضحية، المجـبول من طـيـنة مختلفة والذي يـشـدّه تـكوينه الثقافي والـفنـي إلى عالم الـقـيَم الإنسانية الـنبيلة التي تراهِنُ على احتـرام البشـر وتمـجيـد الحياة.

إلى جانب هذه اللحظة الأساس المتـمثلة في مواجهة الطبيب لـجلادِه وزوجته، ثم لـمأمون المتعاون مع إدارة الأمـن الـعليا، هـناك استـحضار لـخلفية مـرحلة شباب الطبيب من خلال قصة حـبـه المـتـعـثر مع جـارته الجميلة التي شحذتْ عاطفته الإنسانية، وهناك أيضاً استعادة الزوجة لمسار حياتها الـرمادي مع زوجها الضابط الذي كان يسـتـعملها “تكملة” لـمـهنة التـعذيب التي يمارسها ضـد الأبـرياء… مجموع هذه العناصر المتمثلة في خيوط الـسـرد المتوازية والأصوات المتقاطعة، والمشاهد السينمائية المُـتـخـيّلة، تـضـفي على رواية “حـذاء فـيـللـيني” شـكـل مـواجـهة عـنيفة بين قوى الـشـر والتـسلط المـستنـدة إلى أجهزة المخابرات والضباط المتخصصين في التعذيب، وبين قـيَم تُـعلي من شأن الحياة والإنسان، والتي يمـثلها مـطاع المـعالج النـفساني والمخرج فـيللـيـني المعانـق لرؤية شعرية بها يُقاوم الظلم والاستلاب.

الـفـن طـوق نجاة

من خلال هذا البـناء المـتعدد الـطبقات والأصوات وتـقـاطع المحكـيات، وتـجـاوُر السرد مع اللقـطات السينمائية، يـبدو جـلياً أن “حـذاء فـيـللـيني” لا تـتـقـصّـد فقط “فضح” أو “إدانة” ظاهـرة الاستـبداد والقمع التي رافـقتْ تـجربـة ما يُسـمى بـ “الدولة الوطنية” بعـد استقلالات الأقطار العربية، ذلك أن روايات أخرى كـثيرة رصدتْ هذا العـنصـر المضادّ لـبناء دولة ديموقـراطية على ربُـوعـنا، وإنما يـريد وحيد الطويلة، وفق فهمي، أن يذهب إلى أبـعد من ذلك لـيـتـغـلغل في صـلب أواليات الاضـطهاد والتـعذيب، ويـسـتـبـطن العوامل الـمُـحفـزة لدى الجلادين، وكذلك الآثار المـترسـبة في نفوس الضحايا والجـلادين على السواء.

من هنا ندرك أن الرواية، حين تـتـوسّل في هذا الشكل الـمُـركب، المتوازي الخيوط والمسالك، لا تـرمي إلى تـجسيد ظاهرة التعذيب والقمع في بـلدٍ عربي بـعـيْنـه (وردتْ الإشارة إلى سمات من فضائه)، وإنما هي تـتـعدى ذلك إلى ملامسـة هذه الـظاهرة في شمـوليتها العربية والكونية. ولـعل هذا مـا يـبـرر، فنـيـاً، لـجوء الكاتب إلى استـدعاء فيـلليـني وحذائه وطقوسه ومواقفه الغـرائبـية، لـيكون شخصية مُـجاورة ومـتفاعلة مع شخصيات الرواية. على هذا النحو، تغدو ظاهرة القمع والتـعذيب عـنـصـرا ضـمن عناصر أخـرى في الإحالة على إشكالـيةٍ أعـمّ، تـعاني منها المجتمعات البشـرية قاطبة وهي إشكالية الاستـلاب التي حولت الناس إلى سـجناء داخـل عـالم تـنـهشه الليـبرالية المتوحشة وبـنـيـاتُ “مجتمع الفرجة” التي تسـاند السيطرة الاستـبدادية على المجتمع الـمدني… لأجل ذلك، يـغدو السؤال الضمني الكامـن وراء إشكالية القمع والاستـبداد، هو في الآن نفسه، سؤال مـواجهة أخطـبوط الاستلاب الذي يُحـيل الدولة إلى “لـيفـيـتانْ”، غـولٍ، يفـترس القيم الإنسانية ويُسـخّر المواطنين لِتأبـيدِ سـلطة المال وطقوس الطاعةِ العمـياء

إلا أن وحيد الطويلة لا يـسلك سـبيل الـتـعميم والتـجريد، بـل يـنـسج قـماش روايته من مـحكياتٍ متـجذرة في سـلوك زبـانية الأنظمة القامعة وفي سلوك المواطنين الـمُـعـرضيـن للمـسخ والتـشويه. يـتـجلى ذلك، على مستوى تشكيل النص، في تركيـزه على ثلاثة فضاءاتٍ هي: الـقـبو، الـعيادة، والقفـص الذي يتم داخله تـصوير مشاهد فيلليـني. هو إذن، فضاء مُـغـلـق يـتـواءم مع عـنـصـر “المواجهة” بين الضحايا والجلادين. وعندما يتـعلق الأمـر بشخصياتٍ “زائـرة” مثل فـيلليني والشيطان، يـتـم ذلك في الحلم لأنه “لا شيء أصدق من الحلم”. داخل الفضاء المغلق الذي تـتـمّ فيه المواجهة، تطغى مشاعـر الحقد والانتقام لـدى كـلٍّ من الجلاد والضحية، لأن ردود الفعل لـديهما تـظلّ محكومة بما هـو آنـيّ وظـرفي، إذ يـهدف الجلاد إلى فـْرض الطاعة والخـنوع، وتمـيل الضحية إلى استـئـصال جرثومة الـشـرّ وإقرار العدل، على نـحو مـا يخـطـر بـبالِ مطاع وهو أمام جلاده المـنهار: “عـذّبْـه فقط حتى يُـنـكر صوتـه ويـعي أصوات الآخـرين، حتى يـعـرف الفرق بين صوت الجلاد وصوت الضحية. هـذه طبـقة من الـعدلِ الذي تـبـتـغيه…” (ص53).

بـطبيعة الحال، مـبـرر الانتـقام لدى الضحية يـبدو معقولاً وطـبيـعياً، لكـنه لـن يـحل المعضلة من جذورها، على نحو ما أوضح فـيلليـني لمطاع المتشبع بفلسفـتـه: “كـل حياتك قامت على جُـمـلتي: لا شيء أصـدق من حُلم. وتحقـّق الحلـمُ، دعْـه إذاً وتـقـدمْ لحياتك. اهـزمْهم بأن تصنع حياة أخـرى مُـدهشة. لـن يهـزمَهم قـتلهُـم. إذا سقط منهم واحد تشققت الأرض عن عـشـرة. كل ما فعلوه بك يـريدون شيئاً واحداً: أن يُجـردوك من أحلامك. اتـركه إذاً ونمْ واحلم حلماً جيداً”.

يمكن القول بأن دلالة “حذاء فـيللـيني” تكتسب أبعادها وأفـقها من استحضار المخرج الإيطالي وافـتراض علاقة إعجاب بأعماله من لـدُن مطاع المعالج النفساني. ذلك أن تـفاصيل محكـياتِ كل شخصية في الرواية (الطبيب، الضابط الجلاد، الزوجة، مأمون المخبـر) تـؤول، عبر جدلية المواجهة داخل الرواية، إلى مـا يـشبه الباب الـمـوصَـد، لأن داء القمع والاستـبداد وتـشيـيء الـمـرأة مـتـجذر في تربة الماضي الموروث وفي إخـفاقات النهوض العربي المـتـتـالية، ومن ثم ضـرورة البحث عن عـنـصر يكون بمثابة “التـركـيـب” لجدليةِ: اسـتبداد الدولة/ حقوق المواطنة”. وقد اختار الكاتب رؤية فـيللـيـني ذات القـيم المـناصـرة في شـكلٍ مـطلق لـلإنسان وحـريـته.

واضح أن ما يـقتـرحه الكاتب، ضـمنـياً، هـو رمـزية الـفـن ذي الأبعاد الإنسانية والقيم الكونية المنشـودة من خلال ما يتـجلى عند واحد من فـرسان الـفـنّ السابع. كأنـما يـريد أن يهمس لنا بأن الطريق إلى علاج داء الاستبداد وعنجهية التسلط، إنما تـبدأ من تجذيـر القيم التي يحملها الفـن المغـموسُ في أعماق الحياة والمؤمن بـقدرتها على تـبـديد عناصر الشرّ المـعادية كرامة الإنسان: “الحياة سلسلة من الأدوار. يجب أن تـتعلم أن تحـيا مُجدداً. حيـنـها سـوف تـنبت لك أجنحة قـوية. لا تـسجن نفسك في الماضي . كـلما عُـدتَ إليه هـاجمتك الأشباح. لا يـمكنك اختصـار الجلاد بـشخصٍ أو حفـنةٍ تـشبـهـه. (…) ليس صحيحاً أن الـنار تـدمّر كل شيء. تـبقى دائماً بارقـة أمل. لا تنس أن تـمنحه لحبيـبتـك، للشـوارع، للمـرايا، لـمـفاتيح الـكهرباء، للشـروخ في الـجـدران. الأملُ رشـوة يـقـبَـلها الجميع” (ص174).

يـبدو هذا الأفـق الـدلالي الذي تـحومُ حـوله رواية “حـذاء فـيـلليني” من خلال اتـخاذ الـفن طـوْقَ نجاة، لمواجهة وضـعٍ عـربي غارق في الـتـداعي والانهيار، هـو الأفـق الـوحيد الـمـمكن، لأنـه لا يُـسـرف في التفاؤل ويكتفي بالدعوة إلى المراهنة على الحياة وقـدرتها على التجدد والاستمـرار.

اسـتطاع وحيد الطويلة، في هذه الرواية، أن يـؤكـد حـرصه على ابـتـداع شكل روائي قـادر على تـخصيص الرؤية إلى العالم وتـكـسير القشـور الحـائـلة من دون استنـطاق ما هـو كـامـن في الـلاوعـي أو مدسوس بين ثنايا الموروث. وفي الآن ذاتـه، اسـتثـمـرَ لـغته المتميزة بالدقة والـطـزاجة والـمـزاوجة بيـن الـنـثـرية والشعرية، مثـلما عـوّدنا في رواياته السابقة.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم