الاتفاقات الأربعة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

الأرقام هي ذلك الحد الفاصل بين كل شيء وآخر.  كتواريخ تعبر عن بدايات ونهايات وأحداث هامة.  كمسافات فاصلة بيننا وبين من نفتقد.  كساعات تقبع عند طرف إشارة عقرب يدور بلا توقف ساحب بأثره أعمارنا الزاخرة بالحكايات.

 لي مع الأرقام علاقة مركبة، يحكمها شذر من هوس، لا أستطيع تمييز سببه، هل هو وسواسي القهري ببعض الأشياء أم أنها خرافات قرأتها بالصغر وعلقت بوجداني عن الأرقام وعلاقتها بالحظ والحوادث!

في مرحلة ما بعمري قررت أن كل الأرقام طيبة وأن فكرة التيمن بأحدها والتطير بآخر هي فكرة سخيفة وساذجة. وأن ما هي إلا أسماء سميتموها وأيام قدرتم عددها، بينما اليوم هو اليوم الخامس من الشهر العاشر لأن أحدهم أراد توقعا تقريبيا للزمن، بينما الزمن نفسه هو لغز أكبر من حساباتنا.

 لكن محاولاتي لتفادي هوسي بالعد، أفسدتها موضة صحافية بائخة، ابتدعها الغرب وانسقنا ورائه.  فكم من المقالات يطالعنا كل يوم بوصفات محددة عن كل شيء وأي شيء!

 “تسع طرق لمعرفة إن كان حبك حقيقيا” “خمس صفات تميز الإنسان الناجح” ، “إحدى عشر طريقة لتصيري أكثر إثارة”!

وامتدت الصيحة لعناوين الكتب “السبع عادات الفعالة للنجاح” ، 15 طريقة فعالة لإدارة وقتك” “قواعد العشق الأربعون”…

يريد الناس وصفة سريعة ومحددة، ككتيب التعليمات يحتوي على نقاط محددة ويخبرك بالتفصيل بما يجب عليك فعله.

صار بيني وبين تلك النوعية من الكتابة رفض مسبق من جانبي، وصرت أتجاهل تلك العناوين التي تروج لنفسها بأثر قوة الرقم.  وعلى الرغم من هذا ومن عدم تفضيلي في الأساس للأرقام الزوجية، غرر بي كتاب “الاتفاقات الأربعة”, وأقنعتني صفحاته الأولى بحمله معي إلى بيتي، مبررة لنفسي أنه كتاب صغير ولن يضيع كثير من وقتي.

أحد كاتبي الكتاب هو Don Miguel Ruiz كاتب من أصل مكسيكي ومعلم روحاني.  وقد يبدو الوصف غريبا على ثقافتنا الغالب عليها الدين الإسلامي.  لكن بأمريكا مؤخرا صار للديانات التي تعتمد على ممارسات روحانية أمثال الديانات الشرقية, شعبية طاغية. فأسلوب الحياة الأمريكي يغلب عليه الإيقاع السريع والتوتر, مما شكل حاجة ملحة لممارسات تعيد للروح سلامها وللذهن صفائه. فراجت ظاهرة المعلم الروحي والكتابات التي تتمحور حول الروح وسلامها. وقد شاركت في تحرير الكتاب Janet Mills  وهي صاحبة دار النشر المؤمنة بدورها في نشر التعاليم الروحانية بالعالم.

 و Don Miguel Ruiz قد ولد لأسرة تتبع معتقد مكسيكي قديم يدعى Toltec وعلى الرغم من دراسته الطب وتخصصه بجراحة الأعصاب إلا أن حادث سيارة كاد أن يودي به للموت قد غير من حياته فهجر الطب واتجه لممارسة التعليم الروحي لينقل معتقد أجداده للعالم وكتابه الاتفاقات الأربعة, يشرح ذلك المعتقد.  ال “تولتك”  The Toltec هم “رجال ونساء المعرفة”, أصل تواجدهم بجنوب المكسيك وهم علماء وفنانين شكلوا مجتمعا خاصا بهم لحفظ المعرفة الروحانية للقدماء. ولقد توارثت أجيال من التولتك تلك المعرفة عبر القرون المتعاقبة

 منذ ثلاثة آلاف عام كان هناك إنسان يعيش بمدينة تحيطها الجبال وقد كان يدرس علم الطب ومن أجل هذا بدأ في تعلم معرفة الأجداد.  لكن بقلبه كان يشعر أن هناك ما لم يعلمه بعد.

إلى أن رأى في منامه ذات ليلة جسده، وقد خرج من الكهف ونظر إلى للبدر المضيء بالسماء وللنجوم وعندها أدرك أن النجوم لم تخلق من الضوء ولكن الضوء هو ما خلق النجوم وأن كل شيء مخلوق من ضوء وأن الفراغ ليس بخال. 

 كل المخلوقات ما هي إلا مجرد تجسيد لوجود خالق واحد وهو من ندعوه الله، والمادة ما هي إلا مرآة تعكس الضوء بتجسيد صورته. والعالم ما هو إلا وهم أو حلم، كضباب يكتنفنا ويحجب عنا رؤية حقيقتنا.

أننا بالأصل محبة خالصة أو ضوء خالص

 تلك هي ترجمة ملخص المقدمة التي تمهد لنا معرفة الاتفاقات الأربعة، حيث الحياة كما يصفها الكاتب مجرد حلم متصل، كل ما يحيط بنا في تصوره هو أشبه بالحلم، وهناك أحلام عامة كبيرة يعرفنا عليها المجتمع ونتبناها، أحلام بالمال، بالأسرة، بالشهرة, بالنجاح.. الخ

 

منذ الطفولة يحاول الجميع شد انتباهنا، الأب والأم ثم المعلمين بالمدرسة ونكبر وتلك الحاجة لجذب الانتباه أصيلة بنفوسنا وتتطور معنا مع التقدم بالعمر.  ثم نتعلم اللغة. روتلك اللغة التي لم نخترها هي عقد الاتفاق الأول بيننا وبين العالم. بمجرد ما أن نفك شفرتها تبدأ الاتفاقات بالتوالي، حيث موافقتنا ضمنية دون اختيار من جانبنا.  يختار لنا المحيط ديانتنا، لغتنا ومفهومنا عما هو أخلاقي.  ولم تتح لنا الفرصة لاختيار أي من هذه المعتقدات ولكننا وافقنا ضمنيا على المعلومات التي مُررت إلينا منذ الصغر. إن كل ما نؤمن به هو اتفاق أو عهد بيننا وبين تلك القناعة، انعقد بالموافقة عليها وتصديقها والتصرف بناءا عليها. هناك آلاف من الاتفاقات الضمنية التي عقدتها مع نفسك، مع الآخرين، مع الله، مع المجتمع، مع والديك، مع شريك حياتك ومع أطفالك.  أهم تلك الاتفاقات هي تلك التي عقدتها مع نفسك لأنه بمقتضاها أنت تعرف نفسك كشخص وتفهم مشاعرك.

يعتقد الكاتب أن هناك البشر يعانون وأن أغلبيتهم يفتقد السعادة لأن كثير من الاتفاقات التي عقدوها غير صالحة بالنسبة لهم.

 يذكر الاتفاقات الأربعة وفي كل فصل يسهب في شرح الاتفاقات أو العهود التي يعتقد ان التولتك قد توارثوها من الأجداد كأساس للحكمة والمعرفة.

 العهود هي:

 1.    Be Impeccable With Your Word.

2.    Don’t Take Anything Personally.

3.    Don’t Make Assumptions.

4.    Always Do Your Best.

 

1-           كن متسقا مع كلمتك

 

وتلك ترجمة غير حرفية للعبارة لأن الكلمة التي استخدمها الكاتب هي “معصوم من الخطأ” لكن عند شرحه لمعنى ذلك العهد فإنه يوضح أهمية ألا تتكلم بالسوء تجاه نفسك أو تجاه آخرين، يشرح لك أهمية الكلمات وأن ما نتفوه به أو نفكر به ليس بهين بل أن الكلمة هي قوة في حد ذاتها وطاقة موجهة.

 

2-           لا تأخذ أي أمر بمحمل شخصي

كل ما يقوله ويفعله الآخرون لا يحدث بسببك، إنهم يعيشون داخل حلمهم هم وأفكارهم الخاصة.  أخذ الأمور بمحمل شخصي يؤدي لفرضية أنهم يعرفون عالمك وقد يؤدي بك هذا لمحاولة تغيير عالمك لموافقة عالمهم.  وحتى هؤلاء الذي يتعمدون الإهانة المباشرة، إهانتهم لك غير شخصية هي تعكس لغتهم الخاصة وطريقة تعبيرهم عن أفكارهم.  ذلك العهد لا ينطبق فقط على النقد الموجه إليك ولكنه يشمل أيضا المديح، وهذا لا يعني أنك لا تحترم آراء الآخرين أو أنك لا تصدقهم ولكن هذا عهد غرضه تذكيرك بأن لكل شخص منظوره الخاص بالحياة ورأي الشخص هو منظوره الخاص، لا يعني هذا بالضرورة أن ذلك يطابق منظورك أنت أو ان ما يعتقد الآخر هو حقيقتك.

 

3-           لا تفترض

ذلك الاتفاق الثالث لا يحتاج إلى شرح وذكرني شرحه بالآية القرآنية ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ”

 4-           ابذل دائما أفضل ما في وسعك

وتلك النقطة هي نصيحة معروفة منذ القدم عن أهمية الإخلاص بأي فعل تفعله.  وأن تفعل هذا من منطلق أن إجادتك لما تفعل هي حقيقة تسعدك.

 

رغم أن ذلك الكتاب لم يأت بجديد، وأن الاتفاقات الأربعة هي تعاليم معروفة ومتداولة، ورغم أنه لم يغير رأيي عن الكتب التي تتبنى صيحة الجذب العددية بعنوانها، إلا أنه قد فلح بجذب انتباهي حتى النهاية فأسلوب كتابته سلس وعرض الأفكار مباشر ومشوق والكتاب ١٦٠ صفحة وهو عدد متواضع جدا من الصفحات لتناول موضوع بهذا الحجم. وأكبر دليل على نجاح الكتاب الذي صدر منذ ثلاثين عاما قد ترجم لأربعين لغة وباع حوالي ستة مليون نسخة بالولايات المتحدة وحدها.

 مما قد يدل عن أنه على اختلاف خلفياتنا الثقافية واللغوية والعقائدية، لم نزل نجاهد لممارسة تعاليم تبدو غاية في البساطة، ذُكرت في نصوص عقائدية مختلفة بأشكال متقاربة، لكن الالتزام بتلك العهود غير هين واحصائها بأرقام محددة قد لا ييسر من مشقة ذلك الطريق الروحاني للسلام النفسي بالدنيا.

 فعلم الأرقام محدد وسهل وبسيط، به حاصل جمع ثابتين يساوي ناتج محدد، لكن علم المعرفة أو الحكمة كما اسماها الكتاب هو علم حياتي وكل ما هو حياتي متغير، بما فيه نحن البشر.  وأقصى ما نطمح إليه بالنهاية هو التغير ناحية الأفضل، فينتج عن قاسم محصلة الحكاية على عدد سنوات العمر، متوسط يتخطى حد ضياع الهباء إلى درجة من درجات السمو.

 

مقالات من نفس القسم