الإيهام بالرعب

الإيهام بالرعب
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

لا يطرح (إدجار آلان بو) إدمان الخمر كتفسير ثابت للـ (الجرائم الوحشية) المتعاقبة التي يحكيها الراوي فيما يشبه الاعتراف .. إنه يقدمها كنوع من المسايرة الهازئة للمنطق، التي توفر للسرد ما قد يمثل احتياجاته الضرورية من الجسور الآمنة والمعقولية .. لكنه بتلازم مضاد يؤسس تهكماً ضمنياً تجاه أي تصور يمكن اعتباره قانوناً للدوافع والتأثيرات .. ربما يكون إدمان الخمر إحالة تلقائية ومقصودة لاستدعاء الواقع إلى القصة من حياة (بو) نفسها، ولكنني أنظر إلى هذا الاستدعاء كابتسامة ساخرة تلمع وسط ضباب غامض لتقطع كافة الخيوط المقترحة بين المبررات والنتائج .. يتحدث الراوي بوضوح عن روح الانحراف والنوازع البدائية واقتراف الإنسان للآثام والحماقات لمجرد خرق القانون .. الميل الدائم للنفس لتهشيم طبيعة ذاتها حتى في أحسن حالات وعينا .. الرغبة التي لا يسبر غورها، وبالتالي فهي ليست مشروطة بأي نوع من الإدمان .. لكن لم يكن ذلك هو الشكل الوحيد لتهكم (بو) من التفسيرات الثابتة، بل كان هناك أداء آخر ربما أقل تجسّداً ولكنه أكثر حدة .. يتجلى هذا الأداء في الانتقال اليسير للراوي من (جريمة) إلى (جريمة) أخرى بطريقة تبدو ـ ظاهرياً ـ منفصلة عن المحاكمة النفسية التي تسبقها .. هذا التتابع الذي يتم ببساطة للفظائع المرتكبة تتحدد غرابته الكوميدية بفضل القوة الوصفية للرعب والندم تجاه الحادثة الفائتة .. كأن (بو) يستخدم الرعب والندم ـ وبشكل متصاعد ـ في التمهيد لكل حادثة مقبلة، الأمر الذي يجعلك تشعر بعدم التصديق، وهذا هو الجوهر الفريد في أسلوب عمل (بو) .. إنه يفاجئك حتى مع امتلاءك بالتوقع .. كأنه يقول لك وبصوت يتعمده بعيداً للغاية ما هو أكثر من أن (الجرائم) مجرد أحداث حتمية ستقع بصرف النظر عن أي ذاكرة .. إنه يخبرك أيضاً بأن (الجرائم) ليست فظائع كما تبدو ـ هذا ما جعلني أضع دائماً (الجريمة) بين قوسين ـ وأنه لا ينبغي عليك أن تصدق مشاعر الرعب والندم كلياً .. أعتقد أنه لن يكون تصرفاً طائشاً من جانبي لو كتبت أن (بو) يسخر من مشاعر الرعب والندم، وهو ما سيمتد بالضرورة نحو ما ذكر أنها (الصورة الكريمة للإنسان) .. سأتمادى وأقول أنه يعرف جيداً أي لذة تكمن في ارتكاب الفظائع .. هو اعتراف خبيث إذن.

لا يطرح (إدجار آلان بو) إدمان الخمر كتفسير ثابت للـ (الجرائم الوحشية) المتعاقبة التي يحكيها الراوي فيما يشبه الاعتراف .. إنه يقدمها كنوع من المسايرة الهازئة للمنطق، التي توفر للسرد ما قد يمثل احتياجاته الضرورية من الجسور الآمنة والمعقولية .. لكنه بتلازم مضاد يؤسس تهكماً ضمنياً تجاه أي تصور يمكن اعتباره قانوناً للدوافع والتأثيرات .. ربما يكون إدمان الخمر إحالة تلقائية ومقصودة لاستدعاء الواقع إلى القصة من حياة (بو) نفسها، ولكنني أنظر إلى هذا الاستدعاء كابتسامة ساخرة تلمع وسط ضباب غامض لتقطع كافة الخيوط المقترحة بين المبررات والنتائج .. يتحدث الراوي بوضوح عن روح الانحراف والنوازع البدائية واقتراف الإنسان للآثام والحماقات لمجرد خرق القانون .. الميل الدائم للنفس لتهشيم طبيعة ذاتها حتى في أحسن حالات وعينا .. الرغبة التي لا يسبر غورها، وبالتالي فهي ليست مشروطة بأي نوع من الإدمان .. لكن لم يكن ذلك هو الشكل الوحيد لتهكم (بو) من التفسيرات الثابتة، بل كان هناك أداء آخر ربما أقل تجسّداً ولكنه أكثر حدة .. يتجلى هذا الأداء في الانتقال اليسير للراوي من (جريمة) إلى (جريمة) أخرى بطريقة تبدو ـ ظاهرياً ـ منفصلة عن المحاكمة النفسية التي تسبقها .. هذا التتابع الذي يتم ببساطة للفظائع المرتكبة تتحدد غرابته الكوميدية بفضل القوة الوصفية للرعب والندم تجاه الحادثة الفائتة .. كأن (بو) يستخدم الرعب والندم ـ وبشكل متصاعد ـ في التمهيد لكل حادثة مقبلة، الأمر الذي يجعلك تشعر بعدم التصديق، وهذا هو الجوهر الفريد في أسلوب عمل (بو) .. إنه يفاجئك حتى مع امتلاءك بالتوقع .. كأنه يقول لك وبصوت يتعمده بعيداً للغاية ما هو أكثر من أن (الجرائم) مجرد أحداث حتمية ستقع بصرف النظر عن أي ذاكرة .. إنه يخبرك أيضاً بأن (الجرائم) ليست فظائع كما تبدو ـ هذا ما جعلني أضع دائماً (الجريمة) بين قوسين ـ وأنه لا ينبغي عليك أن تصدق مشاعر الرعب والندم كلياً .. أعتقد أنه لن يكون تصرفاً طائشاً من جانبي لو كتبت أن (بو) يسخر من مشاعر الرعب والندم، وهو ما سيمتد بالضرورة نحو ما ذكر أنها (الصورة الكريمة للإنسان) .. سأتمادى وأقول أنه يعرف جيداً أي لذة تكمن في ارتكاب الفظائع .. هو اعتراف خبيث إذن.

ساعدت السطور الأولى لقصة (القط الأسود) على التكهن، لكنها لم تكن استشرافاً لوقائع محددة، وإنما أرادت ترسيخ التنبوء برعب مبهم، غير منضبط، وهنا يمكن توسيع (حبكة القدر) عند (تزفيتان تودوروف) بما يتوافق مع سردية ذاتية مخبوءة في ظلامها الخاص تعيد انتاج عذابها في مقابل الملاحم الكبرى التي كان يُطبق (تودوروف) قاعدته عليها .. لكنني رغم التهكم من المنطق لا يمكنني تجاهل الاحتمال الذي يضع تندر زملاء الراوي على رقة قلبه في طفولته كأساس للحبكة التي قمت بتوسيعها .. هذا الأساس يمكنه حقاً تبرير كل ما حدث ـ بالنسبة لي على الأقل ـ فضلاً عن أنه يُبقي للقصة حبكة بالمعنى الشائع .. إنه يساعد على تعيين تأويل انتقامي ليس من حضور الزملاء داخل القطط فحسب، ولا من القطط نفسها باعتبارها الولع القديم المتسبب في التندر، بل من الذات التي تحمل نفس فضائل القطط .. (رغبة النفس الدفينة لتهشيم طبيعة ذاتها) .. لكنني لا أستغرب أبداً أن (بو) مر على تلك التفصيلة بشكل عابر تماماً كأنها ملاحظة إضافية مكانها الهامش مع إشارة أخرى بدت كحكمة تقليدية غير مهمة عن خسة الصداقة وضعف الوفاء عند الجنس البشري .. كان يمكن لكاتب آخر أن يستثمر ـ كالعادة ـ هذا الماضي إلى أن يشبع من عقد أواصر بين تعذيب القطط وقتلها وبين المشاهد البائسة للطفولة .. لكن (بو) وجد كنزه في مكان آخر .. إنه يصل بالعلاقات المألوفة ـ حتى لو ترك علامة واهنة على صحتها ـ إلى درجة الشحوب المقارب على الاختفاء التام حتى لا يكون هناك قانون، وكي يبقى الاستشراف كحقل منزوع الحدود لتكهن لانهائي بالغموض، وليس برعب يمكن للعقل ترويضه.

أجد أن الوقت قد حان لحكاية شخصية: المكان: حجرة معيشة مغلقة .. الزمان: بعد منتصف الليل منذ خمسة عشر سنة تقريباً .. الحدث: أجلس ممداً أمام التليفزيون وقطتي (ساندرا) مستغرقة في النوم على الكنبة بجواري .. ليس هناك مجال الآن لشرح عشقي للقطط بل ربما لا يوجد أي مجال أصلاً يحتمل هذا الشرح .. فجأة ودون أي أسباب منطقية تركت عينيّ الشاشة واتجهت نحو (ساندرا) لتتأمل ضعفها الناعم، والرقة المسالمة والغافلة لجسدها الضئيل .. تخيلت نفسي أنهض وأحضر سكيناً من المطبخ ثم أنهال بها على ذلك الكائن النائم الذي يحمل هذه الصفات .. دون أي أسباب منطقية .. كنت أشعر بمتعة عظيمة ناجمة عن هذا التخيل حتى أنني اضطررت لترك حجرة المعيشة والتوجه إلى السرير كي لا أحقق حلم اليقظة هذا .. لم تكن هذه هي المرة الأولى بل إنني تعوّدت على وجود هذا التخيل مع كل قطة أمتلكها وبدرجات قوة متفاوتة .. ما تفسير هذه المتعة؟ .. نعم .. كان زملائي في الطفولة يتندرون على طباعي التي تحمل نفس فضائل القطط، ولهذا ينبغي أن نسترجع تعبير (بو): (رغبة النفس الدفينة لتهشيم طبيعة ذاتها) .. نوع من الانتحار الآمن .. ربما هذا ما يبرر أيضاً سخريتي من مشاعر الرعب والندم، لكنني ـ رغم سطوع هذا التأويل الانتقامي ـ سأتجاوزه متحركاً مع (بو) نحو عدم الحسم .. لماذا؟ .. لأنني لا أستبعد مطلقاً حدوث هذا التخيل الممتع كما هو بعد طفولة مختلفة وصفات ذاتية مغايرة تماماً.

بالعودة إلى التكهن فلننتبه إلى هذا الاستشراف الداخلي: لم يحمل القط الثاني ـ الذي بدا كأنه إعادة تجسّد لروح القط الأول ـ من خلال البقعة البيضاء على صدره التي تأخذ شكل المشنقة لم يحمل توثيقاً لـ (جريمة) الراوي تجاه القط الأول فحسب، وإنما نبوءة بمصير الراوي .. كأن الراوي حينما شنق القط الأول كان يشنق نفسه .. (رغبة النفس الدفينة لتهشيم طبيعة ذاتها) .. نحن إزاء وجود أشبه بسلسلة وحشية من التناسخ، لا تسلّم كل نسخة نفسها لنسخة أخرى بل تحدد مصيرها قبل انتقالها إلى تمظهر جديد سينطوي على تاريخها .. هذا ما جعل توسيع (حبكة القدر) إجراءاً ملهماً بالنسبة لي، ليس فقط لأنه بهذه الكيفية يلتزم بالحرص على الغموض داخل لعبة الاستشراف بل لأن هذا التوسيع سيحوّل الحبكة في نهاية القصة إلى (حبكة مفتوحة) لن تنتهي بوجود الراوي داخل الزنزانة في انتظار حبل المشنقة، وإنما ستمتد إلى خارج النص .. نحو كل من ورطته القصة في التخيل، والذي لن يصبح مجرد تخيل بل تفحص شامل لماضٍ شخصي مطابق بشكل ما لماضي الراوي .. ستمتد إلى البصمة المحفورة في الوعي ـ كالتي على صدر القط ـ والتي تدمج بين ذاكرة تهشيم الطبيعة الذي نفذته بنفسك، ومصيرك الناتج عن هذا التهشيم .. أي زنزانة تجلس فيها الآن؟، وأي حبل مشنقة تنتظره؟.

……………..

القط الأسود

إدجار آلان بو

ترجمة: مها فهد الحجيلان

إنني لا أتوقع منك أن تُصدّق هذه القصة المدهشة التي أكتبها الآن، ربما يصحّ أن أوصف بالجنون إذا توقعت منك تصديقها، بل إنّ عقلي يقول لي بأنها صعبة التصديق، ومع هذا أودّ أن أُطمئنك أنني لستُ مجنوناً، كما إنّني لست بالذي يحلم؛ ولكنني لكي أُزيح هذا العبء الثقيل عن كاهلي وأموت مستريح الضمير فلابد أن أبوح بقصتي هذه.

فحينما كنت طفلاً كنت ودوداً رقيق القلب لطيفاً مع الجميع، وقد امتدّ ولعي إلى الحيوانات، فسمح لي والداي باقتناء حيواناتي المحبّبة التي أقضي معها معظم وقتي بسعادة غامرة، وقد استمر حبي للحيوانات حتى كبرت وتزوجت، وكانت زوجتي تُشاركني اهتمامي بالحيوانات التي اقتنيناها معاً ومنها طيور، وأسماك صغيرة جميلة، وكلب لطيف، وأرانب، وقرد صغير، وقط أسود جميل، هذا القط الهادئ كان يتصرف بحكمة، وقد أسميته “بلوتو” حتى أن زوجتي اعتادت على ممازحتي بتذكيري بالاعتقاد القديم الذي يقول إن القطط السوداء ما هنّ إلا ساحرات متخفّيات بهيئة قطط.

كنت أُطعم “بلوتو” بنفسي، وكان يرافقني في كل مكان، حيث لا يمكن إيقافه إذا كنّا في الشارع. وقد بقيت علاقتي بهذا القط قوية لعدة سنوات، إلى أن اعترتني تغيرات في شخصيتي فصرت أنانياً صعب العشرة؛ لدرجة أنني كنت أشتم زوجتي المسكينة بلا سبب وأضربها بعنف، وكذلك عانت حيواناتي من معاملتي السيئة لها، باستثناء “بلوتو” الذي لم يصله مني أيّ أذى، مع أنّ مزاجي المتقلب يُسئ إليه كثيراً.

وفي إحدى الليالي حينما رجعت إلى البيت، وأنا في حالة مزاجية متعكرة، أثار “بلوتو” حنقي الشديد إذ خُيّل لي أنّ القط يتهرّب مني فأمسكته بيدي، وقد حاول جاهداً التخلص من قبضتي عليه، ولابد أنّه كان خائفاً من بوادر انتقامي العنيف؛ ولكنه خمش يدي، ومع علمي بأنه لم يقصد إيذائي، إلاّ أنّي فقدت السيطرة على أعصابي نهائياً، وقررت أن أعاقب “بلوتو” البريء، وأثناء هيجاني العنيف أخرجت من جيبي سكيناً صغيرة، وقبضت على “بلوتو” من حلقه وقلعتُ إحدى عينيه ورميتها هناك.

ولمّا أفقتُ في الصباح التالي تذكرت جريمتي الشنيعة في حق “بلوتو”؛ فشعرت بالأسف والندم على ما فعلت، لكن هذا الشعور لم يدم طويلاً. وبعد فترة كان “بلوتو” قد استعاد صحته تدريجياً، وبقيت حفرةٌ غائرة مكان عينه المخلوعة، ويبدو أنها لا تؤلمه الآن فقد أخذ يطوف بالمنزل ويتحرك كما كان سابقاً، لكنه ما إن يسمع صوتي قادماً حتى يهرب بعيداً، وقد كنت منزعجاً من هذا التصرف معي، لأني أعرف مقدار حبّه لي؛ حتى أصبح تهرّبه مني يزيدني غيظاً وحنقاً، فلم أعد أحتمل هذه الإهانة لشخصي التي يسببها هجرانه المتعمد لي، وذات صباح أمسكت “بلوتو” المسكين، وربطته بحبل لففتُه على عنقه ثم علّقته على فرع شجرة كبيرة، وتركته مشنوقاً حتى فارق الحياة.

وعندما حلَّ الليل، نمت دون أن أشعر بالذنب من جريمتي الشنيعة التي ارتكبتها صباح ذلك اليوم، ولم ألبث أن استيقظت فزعاً من نومي، فإذا بأصوات الجيران يصيحون بي، ويشيرون بأنّ البيت يحترق، واستطعت مع زوجتي أن ننجو قبل أن تلتهمنا النار مع كل ما في البيت. لا أدري فعلاً ما إذا كان هناك علاقة بين فعلتي الشنيعة وبين احتراق منزلي بالكامل! لكنَّ أحداثاً غربية صارت تظهر بعد ذلك؛ فقد ذهبت في اليوم التالي للحادث لكي ألقي نظرة على حطام منزلي، فلاحظتُ أن كل الجدران قد تهدمت ما عدا جداراً واحداً هو جدار غرفة نومي، وقد رأيت حشداً من الناس ملتفين حول ذلك الجدار، وسمعتهم يقولون “عجيب! عجيب! غريب!” تساءلت في البداية إلى أي شيء ينظرون ويتكلمون! فوجدتهم يقصدون الجدار، فصعدت إلى جهة الجدار، ثم نظرت فرأيتُ صورة قطّ كبير مرسوم على الجدار وحول عنقه حبل؛ كان الشكل واضحاً تماماً، وعند ذاك أصبت بالذعر، وانتابني رعشة شديدة، ولم أستطع نسيان ذلك المنظر المدهش لعدة شهور؛ حتّى أنّي أحسست بالندم على ما فعلته بحق “بلوتو”، ووجدتُ في نفسي فراغاً وحاجة ملحة لوجود “بلوتو” ولهذا فقد شرعت في البحث عن قط آخر يُشابهه؛ عسى أنْ يحتل تلك المنزلة الحميمة في نفسي.

وعندما كنت جالساً في أحد المطاعم ذات ليلة رأيت قطاً أسود، تأملته فإذا هو كبير جداً بحجم “بلوتو” ويكاد يُطابقه في الشكل، عدا أنّ “بلوتو” كان أسود اللون بالكامل، في حين أنّ صدر هذا القط بقعة بيضاء. نهضت من مكاني واقتربت منه، فقد كان في غاية الألفة حين لمسته، واتضح لي أنه مرتاح لتربيتي على جسمه؛ ما جعلني أرتاح له كذلك، وتأكدتُ أنّ هذا القط هو الذي أبحث عنه ليحتل الفراغ الذي تركه فقداني لـ “بلوتو” طلبت من صاحب المطعم إن كان بالإمكان بيع هذا القط، فأجابني بأنّ هذا القط ليس له، ولم يسبق له رؤية هذا القط من قبل. مسحت على جسم القط ثم عدت؛ لكنّ القط ظلّ يتبعني، واستمر في متابعتي حتى وصلت البيت، وبقى عندنا، وبعد مدة قصيرة صار أثيراً لدى زوجتي؛ أمّا أنا فسرعان ما أحسست بشيء من النفور تجاه قطي الجديد الذي اكتشفت أنّه بعين واحدة، لا أدري في الحقيقة عن سبب اشمئزازي منه مع أنّه يحبني ويتقرب لي؛ حاولت أن أتجنب رؤيته ما أمكنني ذلك، فلا أريد أن أكرّر ما فعلته مع “بلوتو” فذلك يشعرني بالخزي والخجل.

كان يتبعني في كل مكان، ويزداد مني التصاقاً وألفة وأنا منه كرهاً ونفوراً، فإذا جلستُ على الكرسي جاء وأقعى تحته، أو قفز فجلس في حجري، وإذا مشيت راح يتبعني ويتسلل بين رجليّ ويتسلّق سيقاني حتى أكاد السقوط على الأرض، وربما تسلّق ثيابي حتى يصل إلى ذراعي وعندها يتحتّم عليَّ إمساكه. إنني أتحاشاه ولكنه صار يُرهبني، لا أدري سبباً لذلك، فهو لا يعدو كونه قطاً.

لقد أصبحتُ إنساناً صعب المعشر حينما ازدادت حالتي المزاجية سوءاً في الفترة الأخيرة؛ وقد تحمّلت مني زوجتي التعيسة الكثير من الأذى والعذاب. وذات يوم نزلتُ وزوجتي إلى القبو فتبعنا القط ومشى وراءنا، فتمسح بقدمي وتخلّل بين أرجلي حتى أوشكتُ على السقوط في الدرج الهابط أسفل، كنت أحمل فأساً في يدي، وبلغ منّي الغضب درجة جعلتني أرفع الفأس لأشج بها رأس هذا القط، فرفعت زوجتي يدها لتمنعني من تكرار تلك الجريمة الشنيعة، عندها طاش صوابي وانفلتت أعصابي ‍‍! ودون أدنى تفكير تخلصتُ من يدها وغرست الفأس في رأسها، فسقطت زوجتي المسكينة ميّتة تحت قدميّ دون أن تصدر صوتاً.

لقد قتلت زوجتي! هذا ما حصل، وقمت بكل برود وبلادة إحساس بإزاحة الجثة عن المدخل، وفكرت في وسائل وطرق كثيرة لإخفاء الجثة، وأدركتُ أنه لا يمكنني إخراجها من المنزل لكي لا أثير الجيران وأجلب الشكوك إلى نفسي، فكّرت في تقطيعها إلى قطع ثم إحراقها أو إطعام الحيوانات من لحمها؛ ثم رأيت أن أحفر قبراً في أرضية القبو وأدفنها فيه، لكني استبعدت تلك الطرق، وفكرت أن أضعها في صندوق ثم أطلب من شخص ما أن يأتي فيأخذه من البيت، لكنني استبعدت هذه الطريقة كذلك. أخيراً استقر رأيي على ما ظننته أسلم طريقة وهي دفن زوجتي في أحد جدران القبو.

كان القبو ملائماً للقيام بهذه العملية الخطرة، إذ يوجد فيه مدخنة قديمة مغطاة بالطوب وكأنها من جدران القبو؛ فأزلت الطوب عن هذا الموقد ثم وضعت جثة زوجتي بداخله، وبعد ذلك أعدتُ الطوب كما كان. شعرت باطمئنان وراحة لأن أحداً لن يشعر بما جرى، فقد بدا الجدار لا يختلف عن بقية الجدران في شيء، بعد ذلك بحثت عن ذلك القط الذي كان السبب في هذه المأساة، قررت أن أقتله هو الآخر، بَيْد أني لم أعثر عليه، مضت ثلاثة أيام ولم أجد له أثرا في أي مكان؛ لقد أحسست بالارتياح الشديد لتخلصي من ذلك القط المشؤوم. لم أشعر بالذنب أبداً لقتلي زوجتي المسكينة، وحينما سألني عنها الجيران ما لبثت أن اخترعت لهم حكاية أرضت فضولهم، أو هكذا توقعت.

وبعد مرور أربعة أيام على موت زوجتي، تلقّيت زيارة غير متوقعة من الشرطة الذين راحوا يفتشون في كل أنحاء المنزل، وجعلوني أرافقهم أثناء التفتيش، لم أكن قلقاً، فقد كنت مطمئناً أنهم لن يتوصلوا إطلاقاً إلى المكان الذي أخفيت فيه الجثة، نظروا في القبو أربع مرات ولكنهم لم يجدوا شيئاً. لقد كانت ضربات قلبي هادئة، وكنت أبدو صورة للوداعة والبراءة أمامهم، وقد ظهر في النهاية أنهم راضون عمّا أجروه من تفتيش وحينما كانوا على وشك المغادرة شعرت بارتياح عميق بيني وبين نفسي جعلني أقول بثقة، “يا سادة” أخيراً قلت لهم ذلك وهم يصعدون الدرج لمغادرة القبو، واستطردت، “إنني مسرور جداً لأنّ شكوككم قد تبددت الآن، وعلى فكرة يا سادة، فهذا البيت قوي البنيان” لسبب ما ألحت عليَّ رغبة حمقاء للفخر والكبرياء، ولم أعد أدري ما أقول من شدة التيه، “إنه بناء قوي، انظروا إلى هذه الجدران‍!” ولكي أريهم صلابة الجدران وقوتها رفعتُ عصاي التي كنت أمسك بها وطرقتُ بها الجدار الذي دفنت وراءه زوجتي. وما إنْ فعلت ذلك حتى صرخ صوت من وراء الجدار نفسه، ظهر في البداية كأنّه صراخ طفل صغير ثم ازداد شيئاً فشيئاً ليصبح صياحاً مذهلاً، لم يكن صوت إنسان أبداً!

اجتاحني هلعٌ وذعر شديد، تراجعت مرعوباً إلى الوراء حتى ارتطمت بالجدار المقابل؛ توقف رجال الأمن على الدرج بلا حراك، لقد تجمدوا في أماكنهم، وكانت نظرات الرعب والوجل تُغطي وجوههم، ولكنهم ما لبثوا أنْ هبطوا ووقفوا أمام الصوت، ثم قاموا بهدم الجدار.. لحظات قليلة وكانت الجثة ظاهرة للعيان، وقد جلس أمامها ذلك القط اللعين ذو العين الواحدة.. إنه القط الذي تسبب في قتلي زوجتي، وهو نفسه الذي تسبب في اكتشاف جريمتي الآن، هذا القط هو الذي سيقودني إلى حبل المشنقة مثلما شنقت “بلوتو”. يا للمصيبة! لقد دفنت القط حياً في الجدار مع جثة زوجتي!

مقالات من نفس القسم